ملخص
لا يعفي تحليل مسألة أزمة الحكم في السودان بالنظر إلى الاستعمار حكومات الخرطوم من ضلال عظيم في معالجة أزمات بناء الوطن المتآخي.
مرت في الـ18 من أغسطس (آب) الجاري الذكرى الـ68 لما عرف بـ"تمرد" الفرقة الجنوبية بمدينة توريت بجنوب السودان، وسبق ذلك التعبير القومي الجنوبي "استقلال السودان" في يناير (كانون الثاني) 1956 بسنة وبضعة أشهر، ومهما كانت مسبباته وذيوله إلا أنه الأساس في النزاع الذي شاب العلاقة بين حكومات السودان والقومية الجنوبية حتى انفصال الجنوب في 2011.
وتواتر ذلك النزاع حتى قال عضو في اللجنة الأفريقية للكونغرس الأميركي "ما الذي يحدث في السودان غير النزاع" في سياق جلسة للجنة خصصتها لمناقشة وضع سوداني متأزم يومها، وذكر أحدهم في الاجتماع أن زعيم الحركة الشعبية الجنوبية جون قرنق نال درجة الدكتوراه من جامعة آيوا بمدينة إيمس، فقال العضو لزميله ممثل ولاية آيوا في اللجنة "أهذا من تدرسون في أيوا وما تدرسونه؟" وصار النزاع من يوم ذلك "التمرد" هو وجه السودان في العالم.
يكثر التباكي على انفصال جنوب السودان (2011) الذي كان "تمرد" 1955 لائحه الباكر بوصفه خطيئة تاريخية تبارت الأطراف في تعيين مرتكبها، وصار الانفصال عاراً سياسياً في حين يغفل الناس أنه حق لتقرير المصير وهو عنوان للرحابة والحرية لسياسيين كثر، على اختلاف عقائدهم، وبدا أن كثيراً من هؤلاء المتباكين، ممن قبلوا تباعاً بمبدأ تقرير المصير للجنوب، انتظروا أن يصوت الجنوبيون للوحدة. ولم يفعلوا.
ولم يكن للسودان مهرباً من التنزل عند مطلب تقرير المصير لأنه ربما كان البلد الوحيد الذي واجه، حتى قبل أن يستقل كما رأينا من "تمرد" 1955، مشكلة تصفية تركة الاستعمار المتمثلة في خلطة الأقوام التي لملمها في حوش مستعمرته جزافاً في كثير من الأحيان. وهي خلطة مؤذنة بالتفرق بعد انقضاء عهد صانعها إلا لمن رحم بانتهاج سياسات أريحية لم تنجح كثير من المستعمرات السابقة في اجتراحها، وترافق مع التباكي على هذه الخطيئة التاريخية بالطبع التباري في تعيين مرتكبها، ولم يكن صعباً في حالنا من تحميل الوزر للحكومات الشمالية إذا لم يكن الشماليون جملة.
ومن أكثر لائمي الحكومات الشمالية على فصل الجنوب نشاطاً الدكتور القانوني سلمان محمد سلمان في كتابه الجسيم (نحو ألف صفحة) المعنون "انفصال جنوب السودان: دور ومسؤولية القوى السياسية الشمالية" (2015)، وأذاع فيه نظريته عن انفصال الجنوب ومفادها بأن الحكومة السودانية الأولى في 1954 لم تلتزم بما وعدت به الجنوبيين بقيام الدولة الجديدة على مبدأ الفيدرالية، بهدف كسب أصواتهم في البرلمان لمصلحة التصويت للاستقلال، بخلاف ما جاء في اتفاق الحكم الذاتي (1953) المنعقد بين دولتي الحكم الثنائي، بريطانيا ومصر، بأن يستفتى السودانيون على الاستقلال أو الاتحاد مع مصر.
وكان الحزب الليبرالي الغالب في الجنوب هو من وراء المطلب، ومال إلى مصر المتمسكة بالاستفتاء لما سئم من استجابة الحكومة لمطلبه. ولكسب الليبرالي للتصويت للاستقلال داخل البرلمان جاءت الحكومة بنص في ذلك الإعلان قال "نحن أعضاء مجلس النواب في البرلمان مجتمعاً نرى أن مطالب الجنوبيين لحكومة فيدرالية للمديريات الجنوبية الثلاث ستعطى الاعتبار الكافي بواسطة الجمعية التأسيسية". وعلى بينة نقض الحكومة للعهد رأى سلمان في ذلك خطأ شمالياً جسيماً ترتبت عليه في خاتمة المطاف دعوة الجنوبيين إلى حق تقرير المصير فالانفصال.
وفات على سليمان هنا أن الجنوب لم يثبت على دعوة الفيدرالية لما يتزحزح منها أبداً، فلم يدع الجنوبيون إلى الفيدرالية في كل أطوار حركتهم القومية، بل قبلوا بالحكم الذاتي الأدنى درجة عن الفيدرالي باتفاق أديس أبابا مع نظام الرئيس نميري الذي أسعد القوميين الجنوبيين لعقد كامل ما بين عامي 1972 و1983، ناهيك عن أن الجنوب كان قد تخلى عن الفيدرالية منذ الثمانينيات الأولى بظهور الحركة الشعبية لتحرير السودان وجيشها الشعبي. فلا نعرف دعوة إلى وحدة السودان معززة بقوة الخيال والرجال مثل دعوة الحركة للسودان الجديد تخلت فيها حتى عن خصوصية مسألة الجنوب لأن كل السودان عندها جنوب. فليست للجنوب، في قول دعاتها، مشكلة بذاتها قائمة علاجها في الفيدرالية، خلافاً لإلحاح سلمان، أو الانفصال. فميثاق الحركة (1983) صريح في القول إن الحركة لا تريد تحرير الجنوب بالفيدرالية أو الانفصال بل تحرير كل السودان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال سلمان نفسه إن الحركة تبنت بذلك الخط منهجاً وطنياً شاملاً لكل السودان تقاطر له الناس من كل فج في حرب تحرير أهلية لم تعد تقتصر على الجيش الشمالي وحركة جنوبية، فتغيرت الحال تغيراً صار به الشمالي يقاتل جنباً إلى جنب مع رفيقه الجنوبي ضد القوات المسلحة على أمل تحقيق السودان الجديد، وهكذا سقطت لقرابة 30 عاماً، هي عمر حركة السودان الجديد، دعوة الفيدرالية التي يقول سلمان إنها أس مشكلة الجنوب وإن نقض الحكومات الشمالية لها هو الذي ساق إلى فصل الجنوب.
وعاد سلمان إلى نكث العهود مرة أخرى، لكن ليرمي به الحركة الشعبية هذه المرة ويلطفه، فمعلوم أن الحركة الشعبية لم تتمسك بدعوة السودان الجديد الموحد خلال اتفاق السلام الشامل (2005) بينها وحكومة الإنقاذ (1989-2019)، وأرجأت بدلاً من ذلك القرار حول استمرار الجنوب في وحدة مع الشمال أو تقرير مصيره حتى تنقضي الفترة الانتقالية التي ستشارك الإنقاذ فيها إلى 2011 لترى رأيها، فإذا لم تجد الوحدة جاذبة (وهي العبارة) خلال تلك الفترة فزعت إلى حقها في الاستفتاء على تقرير المصير المنصوص عليه في الاتفاق.
وغير خاف أن الحركة الشعبية لم تجد الوحدة السودانية جاذبة بعد تجربتها مع نظام الإنقاذ فسلكت سبيل الاستفتاء الذي جاء التصويت فيه لمصلحة الانفصال. وحصل.
وفطن سلمان هنا إلى أن الحركة قد نقضت وعدها في ميثاقها بتنزيل سودان جديد بحد السلاح ومهما كلف، وغادرت السودان نهائياً، رامية بالدعوة إلى السودان الجديد على قارعة الطريق، ولم يجد سلمان مع ذلك مانعاً من أن يلقي لها المعاذير بقوله "فإذا كانت الحركة الشعبية قد نكثت بوعودها الرامية للسودان الجديد الموحد، فكم من الوعود كانت الأحزاب الشمالية قد نقضتها قبل ذلك؟ الفرق أن الحركة قد أدت دورها بذكاء وحنكة كانا غائبين غياباً تاماً في أحزاب الشمال".
وهكذا وجد سلمان للحركة الشعبية مخرجاً من عيب نكث العهد عنها بالتنويه لا بوسامتها الفكرية فحسب، بل بوسامة عقيدته القائلة إن نقض حكومة الشمال لعهد الفيدرالية هو الذي ساقنا إلى الانفصال على رغم أن دعوة الفيدرالية تبخرت من الخطاب الجنوبي القومي منذ 1983.
من بين أفضل من نظر إلى تمرد 1955 وتداعياته التي مر ذكرها المؤرخ الأميركي لسودان الحكم الثنائي الإنجليزي- المصري الدكتور مارتن دالي، فقال في خاتمة كتابه "السودان الإمبريالي" إن تمرد 1955 لم يكن نزاعاً قبلياً وإن كان في صورته المباشرة مهدداً أمنياً. وكان فوق ذلك، في قوله، نزاعاً عالمياً، وأراد بذلك أنه أثر من آثار الاستعمار الذي هو نظام عالمي، فهو ثمرة مرة لنصف قرن من الإهمال السياسي والاجتماعي والاقتصادي للجنوب. وتساءل، كيف طرأت للإنجليز تهيئة الجنوب للحاق دستورياً بالشمال في 1947 في الساعة الـ23 من لائحة الحكم الذاتي في 1954 إلا إذا كانوا لم يفكروا أبداً يوماً أن الجنوب سيستقل حتى لو لم يتحد مع الشمال.
وأخذ على الحزب الوطني الاتحادي الذي تولى تشكيل حكومة الحكم الذاتي بعد فوزه في انتخابات 1954، بأن كانت له، كما كان للإنجليز من قبله، "سياسة جنوب" خاصة به من فرط أخطائه في التعاطي مع الجنوب وهو في الحكم، لكنه عاد ليقول إن فشل حكومة الاتحادي في الجنوب هو ثمرة من ثمرات سياسة الإنجليز في الجنوب. فالجهل الشمالي بالجنوب كان بفعل فاعل هم الإنجليز أنفسهم الذين أداروه بمقتضى "سياسة الجنوب" التي اتفقت لهم منذ 1922 كـ"منطقة مقفولة" عن الشمال حجرت على الشماليين دخوله لأي غرض من الأغراض حتى آخر الأربعينيات في سياق الترتيبات التي كانت تجرى للحكم الذاتي.
وقال مارتن دالي إن بوسع المرء أن يستفيض في تلاوة قائمة ضروب الفشل والعوار التي ارتكبها حكام مثل الحزب الاتحادي في الجنوب وفي السودان عامة ممن ورثوا الدولة الاستعمارية، ومع ذلك لم يبدأ هذا العوار بالاستقلال، وذهب كثيرون في الغرب لتفسيره عنصرياً بالقول إن الأوروبيين وحدهم من يحسنون حكم الشتات الأفريقي البدائي فإن تقلده غيرهم فسد، وزاد دالي بأن قال إن الحري بالتفكير فيه هو أن الاستعمار ما نجح في ما يزعم النجاح فيه من حكم أفريقيا إلا عن طريق العنف مما حاولته الحكومات الوارثة ولم تحسنه.
وسارع بالقول إن الإنجليز بالطبع لم يحكموا السودان بالعنف طوال الوقت، فقد كانت لهم صفقات مع قوى محلية أمنت لهم الحكم بغيره، أي بالقبول، ومع قبول طائفة من السودانيين بحكم الإنجليز كأمر واقع ولكنها كانت تعرف أن للإنجليز جيشاً في ثكناته احتياطاً متى أطلقوا له العنان عنف بلا رحمة. وأضاف دالي إن هذه الشوكة من وراء حجاب القبول امتياز استعماري بحت لا وسع لمن ورثوا الحكم منهم له، ولا قدرة لهم عليه مهما حاولوه. وكأن دالي يفرق هنا بين نظام استعماري السودانيون فيه رعايا ترقوا منه بالاستقلال إلى وضعية المواطنين. وهي قفزة نوعية ترتبت عليها حقوق لهم قد تستهتر بها حكومة مستقلة وتطلق سعار العنف على المعارض لكن تبقى تلك الحقوق، ويحاسب بها القائم بالأمر لا كما العهد بالإنجليز الذين السوداني عندهم رعية مجردة.
لم تزد الحركة الشعبية في ميثاقها لعام 1983 معنى على تحليل مارتن دالي أعلاه الذي رد مسألة الجنوب، وكل السودان، إلى جذرها في دولة الاستعمار، ولم تنقصه، لولا أنها تخلت عنه في 2008 في ملابسات صراع داخلي ضربها في 1991، ثم اضطرارها إلى مغادرة إثيوبيا بعد إزاحة نظام منغستو هايلي ماريام في 1992، وتهافت النظام الاشتراكي العالمي منذ 1989 وتضاؤل الماركسية كنظرية للتغيير الاجتماعي، بل وسعت الحركة في ميثاقها القديم الإطار الاستعماري لتحميل الاستعمار الجديد وزر مضاعفة التخلف العام في السودان. وبالطبع لا يعفي تحليل مسألة أزمة الحكم في السودان بالنظر إلى الاستعمار حكومات السودان من ضلال عظيم في معالجة أزمات بناء الوطن المتآخي، لكنه مما يعين حتى في معرفة ضلالات هذه الحكومات بصورة أدق وأشفى، فكلما اتسعت الرؤية انفرجت العبارة.