ملخص
أثار ظهوره بين جنوده داخل قاعدة "وادي سيدنا" بأم درمان ثم توجهه إلى مدينة عطبرة ومنها إلى بورتسودان كثيراً من الجدل والتكهنات
مع اندلاع المعارك على أشدها هذه الأيام بين الجيش و"الدعم السريع" حول معسكري سلاح المدرعات جنوب الخرطوم وسلاح المهندسين في أم درمان، قد لا يطرح أفق الاستمرار في الحرب أي معنى للسياسة إلا إذا كانت هناك تفاهمات إقليمية ودولية وراء الكواليس تستدعي من الطرفين تسريعاً لوتيرة المعارك من أجل تحسين شروط التفاوض حال العودة المحتملة إلى منبر جدة من أجل إنهاء الحرب، فخلال ما يمكن قراءته من وراء سطور التناقض الظاهري بين خطاب رئيس مجلس السيادة الفريق عبدالفتاح البرهان وخطاب نائبه الفريق مالك عقار قبل أسبوعين، يبدو واضحاً أن ثمة ما يبرر ما ذهب إليه كثير من المحللين حول اقتراب موعد جلوس الطرفين للتفاوض في منبر جدة، خصوصاً في ضوء الاتصالات الدبلوماسية النشطة التي أجراها أخيراً وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مع وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان والمصري سامح شكري حول الوضع في السودان، إلى جانب التحضير المرتقب لمؤتمر القوى المدنية والسياسية حول الحل السياسي في السودان برعاية الاتحاد الأفريقي في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا خلال سبتمبر (أيلول) المقبل.
والانسداد الواضح لأفق هذه الحرب إذا ما تمادى الطرفان في محاولات عدمية مستميتة لإلغاء كل واحد منهما الآخر، هو انسداد لا يخفى على أحد كونه يعكس استحالة قدرة أي من الطرفين على كسب الحرب مع الإبقاء في الوقت ذاته على السودان موحداً، فإذا افترضنا انتصار "الدعم السريع" في الخرطوم فسيكون من المستحيل عليه محاربة الجيش في بقية ولايات السودان ما عدا إقليم دارفور، مما يعني بالضرورة أن أي غاية سياسية لهذه الحرب من طرف "الدعم السريع" ستضطره إلى التفاوض حتى لو استتب له الأمر في الخرطوم.
وكذلك إذا ما انتصر الجيش السوداني في هذه الحرب واستتب له الأمر في الخرطوم فسيكون من شبه المستحيل عليه استرداد ولايات دارفور التي هي بمثابة الحاضنة الرئيسة لقوات الدعم السريع، ولهذا فإذا انتفى خيار إرادة الإلغاء من كل طرف للآخر فإن الغايات السياسية للحرب تقول بضرورة الوصول إلى طاولة التفاوض في جدة.
وإلى جانب ذلك فثمة مؤشرات ربما تفسر بعض تصرفات الجيش حيال تباطؤه في استيعاب المستنفرين للحرب، إذ لم يقم حتى الآن بتسليح كثير من أولئك المستنفرين للحرب، وهم فئة من الشباب كان البرهان قد دعا كل قادر منهم على حمل السلاح إلى حماية نفسه والقتال إلى جانب الجيش في خطاب متلفز له قبل عيد الأضحى، وكان ذلك التباطؤ من طرف الجيش في تزويد المستنفرين بالسلاح سبباً لحملة إعلامية كبيرة ومستمرة شنها على البرهان ناشطون عبر الـ "سوشيال ميديا"، منددين بتخاذله مع الجيش عن توزيع السلاح على المستنفرين الذين تم حشدهم في معسكرات للتدريب.
وفي ظل الاستقطاب المحتمل داخل الجيش حول تنازع فيه بين اتجاهين، أحدهما لاستمرار الحرب وآخر للميل نحو التفاوض وخصوصاً بعد الأخبار المتضاربة عن استيلاء قوات الدعم السريع على معسكر سلاح المدرعات، نتصور أنه ربما لن تستمر الحرب طويلاً إذا ما استصحبنا تقديراً للغايات السياسية للحرب لدى كلا الطرفين، كما أن الأيام المقبلة ربما تسفر عن اختراق ما قد يحدث داخل الجيش للوصول إلى خيار واحد يترجح معه أحد الاحتمالين في الموقف من الحرب، وهذا الاختراق قد يكون غلبة لاتجاه على الآخر في شكل توجه صارم ربما ينجم عن مغامرة انقلابية غير محسوبة العواقب لأصحاب أحد الخيارين داخل قيادة الجيش.
خروج البرهان
ويأتي الخروج المفاجئ لقائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان من مقر القيادة العامة في الخرطوم صباح الخميس الـ 24 من (أغسطس) آب الجاري بعد 130 يوماً ومع تراجع حدة الاشتباكات والقصف الجوي والمدفعي في عدد من المناطق والعاصمة الخرطوم، وظهوره بين جنوده في قاعدة "وادي سيدنا" بأم درمان عبر شريط فيديو يتجول في أكثر من مكان، ثم توجهه إلى مدينة عطبرة (شمال) ومنها في اليوم نفسه إلى مدينة بورتسودان (شرق)، ليثير كثيراً من الجدل والتكهنات إذا ما عرفنا مثلاً أنه كانت هناك دواع إلى خروج البرهان لمناسبات سياسية خارجية لكنه لم يخرج آنذاك، مما يفتح الباب واسعاً حيال احتمالات بقرب وصول الحرب إلى محطة محتملة للمفاوضات في ظل الخبر الذي أوردته صحيفة "سودان تربيون" الإلكترونية الخميس الماضي، إذ توقعت مصادر مطلعة أن يغادر إلى مصر والسعودية ضمن جولة تشمل عواصم عدة لبحث إنهاء الحرب في السودان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وما بدا واضحاً اليوم هو أن الرسائل المتناقضة التي ظل يرسلها الجيش عكست تخبطاً واضطراباً في ممارسات أدائه العسكري في الحرب، وكانت تلك الرسائل مؤشرات غير مطمئنة للشعب السوداني الذي تعذر عليه من خلالها معرفة طبيعة موقف الجيش وحقيقته من هذه الحرب، فضلاً عن انتقادات كثيرين لأدائه نظراً إلى الغموض الذي ظل يثيره في إدارة المعارك منذ اندلاعها قبل أربعة أشهر بصورة لم تبدو أبداً متناسبةً مع إمكانات الجيش الحربية من جهة ومع طبيعة أدائه في ميدان الحرب من جهة ثانية، إذ تفيد المعطيات بأن قوات الدعم السريع اليوم باتت مسيطرة على مقار مهمة للجيش في الخرطوم مثل معسكر الاستراتيجية واليرموك والاحتياطي المركزي والتصنيع الحربي والقوات الجوية إلى جانب القصر الجمهوري ومبنى المطار وجزء من مبنى القيادة العامة للجيش.
وربما كان الخروج المفاجئ للبرهان على هذا النحو الموندرامي يضمر كثيراً من الإجابات حول الحرب ونهاياتها في الأيام المقبلة.
ويوماً بعد يوم تتفاقم كلفة الحرب الباهظة بوطأتها على المدنيين داخل الولايات التي تجري فيها المعارك مثل الخرطوم وولايات إقليم دارفور، فهذه الحرب غير الأخلاقية تثقل على شعب كان 16 مليوناً من أبنائه مهددين بالجوع حتى قبل الحرب بحلول نهاية هذا العام، بحسب تقارير للأمم المتحدة صدرت خلال العام الماضي، فكيف بما يمكن أن يتكشف عن الوضع حال استمرار هذه الحرب شهوراً أخرى من فظائع وكوارث بيئية ووبائية قد تحل بمناطق الحرب على نحو غير مسبوق من الخطورة؟ ذلك أن تداعيات الوضع الكارثي الذي نجم عن انقلاب البرهان في الـ 25 من أكتوبر (تشرين الأول) 2021 أفرز آثاراً اقتصادية مؤلمة على الشعب السوداني نتيجة لقطع كثير من المعونات الدولية مثل تعليق تصفير الدين السوداني العام ووقف مشاريع التمويل من البنك الدولي وكثير من الجهات المانحة إقليمياً ودولياً، وكانت تقارير الأمم المتحدة المنذرة بأن خطر الجوع يتهدد 16 مليون سوداني بنهاية العام الحالي أُعدت بناء على قياس أثر تلك العقوبات التي فرضها المجتمع الدولي، وهو ما بات اليوم منعكساً في الشلل الذي ضرب السودان بسبب اندلاع هذه الحرب في مركز القرار الحكومي، الخرطوم، وهو شلل لا يمكن قياس أثره الفادح بأي نموذج للحرب الأهلية في المنطقة، فاليوم وبالنظر إلى مؤشرات النتائج الكارثية لهذه الحرب تأكد جلياً أن من تسبب في استثمار تناقضات طرفيها بإطلاق رصاصتها الأولى هو طرف توخى الوقيعة بينهما من دون أدنى وازع أخلاقي أو ضمير وطني يردعه عن السعي إلى حيازة السلطة بأي ثمن، على رغم مما كان واضحاً من تفاقم خطر الظروف المعيشية الطاحنة الذي كان يكبر ككرة الثلج متجهاً بالسودانيين نحو هاوية الجوع والفوضى حتى في غياب الحرب.
وما نرجوه اليوم هو أن يدرك كل من قائدي الجيش و"الدعم السريع" أن ثمة غاية وطنية واحدة ينبغي أن يُعجلا بها نحو طاولة التفاوض على رغم الكلفة الفادحة للحرب، إذا ما عرفا مثلاً أن الانسدادات المنطقية لها ستفضي فقط إلى خيارين، إما الحل السياسي عبر التفاوض وإما الحرب الأهلية الشاملة.
وإذ لا يزال وفد التفاوض لـ "الدعم السريع" موجوداً في مدينة جدة منذ مايو (أيار) الماضي، فيما انسحب وفد الجيش مرتين من المفاوضات، ولا يزال متردداً في المضي قدماً إلى التفاوض نظراً إلى الضغوط التي يتعرض لها الجيش من ناشطين عبر الـ "سوشيال ميديا"، فإن الفرصة لا تزال سانحة لاحتواء هذه الحرب عبر التفاوض، وكل المعطيات تفيد بأنه من الاستحالة والجنون أن يمضي نحو هذه الحرب العبثية من كان حاله حال طرفيها، أي الجيش والدعم السريع، غداة الحرب من مغالبة لوضع سياسي وأمني بائس ومعقد في بلد بلغت فيه تركة الفساد والتخريب لنظام الإخوان المسلمين حداً ضرب هيكل الدولة السودانية وجهازها العام على نحو مميت لـ 30 عاماً.