ملخص
وقف البلدان طيلة السنوات الماضية، أمام فرص عدة لإصلاح ما أفسدته السياسة، ولم تتمكن وساطات دول عربية وأجنبية من تفتيت جدار التوتر والخلاف والعودة بالعلاقات إلى طبيعتها بحكم الجوار
قضت حسابات السياسة على آمال كانت معلقة على إنهاء التوتر بين الجزائر والمغرب أو على الأقل تجاوز الخلافات ولو موقتاً، ومضت بها خطوة نحو الوراء، بعد عقود من القطيعة وتعليق العلاقات وتبادل الاتهامات لأسباب عدة ومعقدة زادتها التدخلات الإقليمية تعقيداً.
وعلى رغم أن الفرصة كانت سانحة أمام البلدين، إثر الزلزال العنيف الذي ضرب المغرب وخلف آلاف الضحايا، وموجة التضامن الدولي مع الشعب المغربي، وعرض الجزائر فتح مجالها الجوي أمام الرحلات الإنسانية وإبداء استعدادها لتقديم مساعدات للمنكوبين، إلا أن العرض الجزائري اصطدم برفض المملكة المغربية.
عرض مرفوض
تفاصيل العرض الذي تقدمت به الجزائر، نشرته وزارة الخارجية الجزائرية بعد تلقيها رداً من قبل السلطات المغربية، عبر القنصل الجزائري في الدار البيضاء، يفيد بأن المغرب ليس بحاجة إلى المساعدات الإنسانية المقترحة من قبل الجزائر.
وجاء في بيان الخارجية الجزائرية أنه "تبعاً للتصريح الإعلامي الذي أدلى به وزير العدل بالمملكة المغربية بخصوص قبول المساعدات الإنسانية المُقترحة من قبل الجزائر، على أن يتم إيصالها بالتنسيق مع وزارة الشؤون الخارجية المغربية، فإنها قامت بالاتصال مع نظيرتها المغربية للتنسيق".
وأبرزت أنه "على أساس هذا التصريح، أبلغت وزارة الشؤون الخارجية الجزائرية نظيرتها المغربية، عن طريق القنصلية العامة للجزائر بالدار البيضاء والقنصلية العامة للمغرب في الجزائر، بالتدابير التي اتخذتها الحكومة الجزائرية لتعبئة ثلاث طائرات ذات سعة كبيرة بُغية نقل مساعدات إنسانية إلى المغرب تتماشى مع الاحتياجات الضرورية في حالات الكوارث الطبيعية".
وبحسب المصدر "تواصل القنصل العام للجزائر بالدار البيضاء مع خلية الأزمة المُنشأة على مستوى وزارة الشؤون الخارجية المغربية، بُغية ترسيم عرض الجزائر تقديم مساعدات إنسانية".
وأضاف البيان الجزائري، أنه "في الوقت الذي استُكملت فيه العملية وبعد إلحاح من السلطات الجزائرية المُختصة طيلة ظهيرة وأمسية البارحة (الإثنين 11 سبتمبر/أيلول)، تواصلت وزارة الشؤون الخارجية المغربية مع القنصل العام للجزائر بالدار البيضاء قبيل مُنتصف ليلة (الإثنين 11 سبتمبر)، حيث أبلغ المدير العام لوزارة الشؤون الخارجية المغربية القنصل الجزائري بأنه وبعد التقييم، فإن المملكة المغربية ليست بحاجة إلى المساعدات الإنسانية المُقترحة من قبل الجزائر".
وخلص البيان إلى أن "الحكومة الجزائرية تأخذ علماً بالردّ المغربي الرسمي الذي تستخلص منه النتائج البديهية".
تراكمات تاريخية
ويبدو أن البادرة الإنسانية من الجزائر تنطلق من المثل الصيني القائل "في كل مصيبة هناك فرصة"، وهي محاولة لتخفيف التوتر الذي انسحب إلى المنطقة ككل في السنوات الأخيرة، بسبب هشاشة العلاقات بين الحكومتين الجزائرية والمغربية على رغم أن البلدين يشتركان في حدود طويلة تمتد من البحر المتوسط إلى الصحراء، ويتقاسمان روابط تاريخية وثقافية عميقة.
تعبيراً على عمق علاقات الشعبين، ضجت مواقع التواصل الاجتماعي في الجزائر بمنشورات تعاطف مع ضحايا الزلزال الذي ضرب المغرب، وتعالت دعوات ومطالب للحكومة بتقديم مساعدات للشعب المغربي. كما أصدرت أحزاب سياسية جزائرية بيانات تطالب بوضع الخلافات السياسية جانباً والمسارعة إلى دعم المتضررين بالمساعدات اللازمة.
ولا يمكن الجزم بعودة العلاقات بين الجزائر والمغرب إلى طبيعتها، بسبب تراكمات تاريخية وسياسية وأمنية ساهمت في تآكل الثقة بين قادة البلدين منذ عقود، حيث بلغ التوتر حد المواجهة المسلحة مثلما حدث في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1963 بسبب مشكلات حدودية أو ما يعرف بـ"حرب الرمال"، ثم قرار الجزائر غلق الحدود البرية في 24 أغسطس (آب) 1995 رداً على قرار المغرب فرض التأشيرات على الجزائريين، وانتهاء بقطع الجزائر العلاقات الدبلوماسية مع المغرب في أغسطس 2021 بسبب الخلافات العميقة حول الصحراء الغربية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فرص عدة
ووقف البلدان، طيلة السنوات الماضية، أمام فرص عدة لإصلاح ما أفسدته السياسة، ولم تتمكن وساطات دول عربية وأجنبية من تفتيت جدار التوتر والخلاف والعودة بالعلاقات إلى طبيعتها بحكم الجوار والعمق الاجتماعي الذي يربط الشعبين بعضهما ببعض.
ولم تتمكن القمة العربية الـ31 المنعقدة بالجزائر في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، التي غاب عنها العاهل المغربي محمد السادس، من خلق تقارب في العلاقات بين البلدين. وقبلها أعلن وزير الخارجية المغربية عن دعوة وجهها ملك المغرب للرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون من أجل فتح "حوار مباشر"، إلا أن الجزائر تجاهلت الدعوة ولم ترد عليها.
واستطاعت دبلوماسية الأزمات، في مناسبات عدة فتح منافذ للتعامل بين البلدين الجارين، وتخفيف حدة التوتر، بخاصة في قضايا إنسانية، حيث تم فتح الحدود البرية لتسليم جثث متوفين أو تبادل مطلوبين للقضاء، أو لعبور قوافل إغاثية موجهة إلى فلسطين. كما سبق للمغرب أن اقترح إرسال طائرات إطفاء إلى الجزائر للمساعدة في إطفاء حرائق الصيف الماضي.
أمل قائم
ويقول الباحث الأكاديمي الجزائري في علم الاجتماع السياسي، ياسين فعفاع، إن التعاطف والتضامن من الشعب الجزائري مع مأساة الشعب المغربي ليس غريباً بالنظر لقوة وعمق العلاقات بين الشعبين.
وأوضح فعفاع في حديث لـ"اندبندنت عربية"، أنه على رغم كل الخلافات السياسية، إلا أنه على المستوى الشعبي كان هناك تضامن بين الأشقاء خلال المحن والأزمات والكوارث الطبيعية، مضيفاً أن عمق العلاقات بين الشعبين يرتبط بالخلفية التاريخية والسوسيولوجية والإنثروبولوجية.
ويشير إلى أن التاريخ يحمل محطات تقارب بين الشعبين، سواء قبل الفتح الإسلامي أو بعده، فالمركب الأمازيغي- العربي موجود في كلا البلدين، كما الدويلات المحلية التي وجدت بالمنطقة عبر التاريخ في مناطق محلية من الشمال الأفريقي كان لها تاريخ مشترك، سواء في ليبيا أو تونس أو الجزائر أو المغرب.
ومن خلال المقاربة السوسيولوجية (يقول المتحدث) هناك روابط مجتمعية قوية جداً، فهناك عادات وتقاليد مشتركة وحتى اللهجات المحلية بين الجهة الشرقية للمغرب والغربية للجزائر، متشابهة بشكل كبير، الأمر نفسه بين الجنوب الغربي للجزائر والجنوب الشرقي للمغرب. كما تثبت المقاربة الإنثروبولوجية وجود تقارب كبير وتراث متشابه سواء من ناحية طبيعة المجتمعات المحلية القبلية خارج المدن أو من حيث العادات والعرف الأسري أو من الناحية الفنية والأدبية، وحتى الطبخ والأكلات التقليدية الشعبية، كما توجد روابط قرابة أسرية بين الشعبين الجزائري والمغربي.
ويؤكد أن شعوب المغرب العربي لها قواسم مشتركة وروابط تاريخية واجتماعية متعددة، لكن الشعبين الجزائري والمغربي أكثر قرباً من بعضهما البعض مقارنة بالدول الأخرى للمنطقة، فقوة العلاقات المجتمعية ذات العمق السوسيولوجي والإنثروبولوجي، والمدعومة بالعامل التاريخي الذي يثبت أن للشعبين رابطاً قوياً لم يتأثر بالأزمات السياسية عبر التاريخ. لذلك وعلى رغم كل الخلافات يبقى أمل وتطلع الشعبين لمستقبل مشرق للعلاقات بين البلدين قائماً.
علاقات معقدة
في المقابل، يرى المحلل السياسي الجزائري، سيف الدين قداش، أن "دبلوماسية الزلازل" أسهمت في إذابة الجليد بين عديد الدول وفتح أفق سياسية بين البُلدان، منها ما لاحظناه خلال تعرض كهرمان مرعش في تركيا إلى الزلزال الأخير في فبراير (شباط) الماضي، والذي أسهم في انفراج العلاقة بين أنقرة واليونان وأرمينيا، بل وفتحت يريفان المعبر الحدودي بين كل من أرمينيا وتركيا.
ويقول قداش إن العلاقات الجزائرية - المغربية تتسم بالتعقيد الشديد مع تفاقم حدة الخلافات بعد قطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين البلدين وسحب السفراء وتبادل الاتهامات في العديد من القضايا.
ويوضح أنه إضافة لنمو مستوى التوتر وعدم التفاهم بين السلطات العليا للدولتين، انتقل الخلاف بشكل حثيث إلى الرأي العام الذي أجج ورفع مستوى التوتر، وجعل التنقيب في التاريخ والهوية والتفاصيل الجغرافية وغيرها أدوات تراشق بين ناشطي ومتابعي الشأن المشترك للبلدين، وهو ما جعل العودة عن الخلاف أو طيه مؤجلاً إلى حين، لأن "تعقيد الإشكاليات يتعلق أساساً بتسوية ملف الصحراء الغربية وفق مقررات الشرعية الدولية الأممية، والتي تسعى الرباط إلى فرض مخطط الحكم الذاتي الذي يعتبر مقترحاً مغربياً وليس حكماً أممياً يخضع لشرعية الوثائق التاريخية وأحكام المحكمة الدولية أو توافقاً صحراوياً – مغربياً".
ويضيف المتحدث "أعتقد أن علاقات البلدين تزداد سوءاً مع تدخل فواعل دولية تعمل على إذكاء الصراع الجزائري - المغربي أكثر".
ويشير قداش إلى أن "الجزائر تعيد مراجعة علاقاتها الدولية وتعتقد أنه يتوجب عليها تبني استراتيجيتها على أسس أعمق وأوسع من مشكلات الجوار الإقليمي، بالتالي فإن الفترة الحالية ستعيش تهدئة ظرفية لأن علاقة الشعبين وثيقة ومترابطة دينياً وعرقياً وتاريخياً، بينما تفرق بينهما ولاءتهما السياسية ومستوى تمادي كل طرف في دعم ومساندة موقف نظامه. لهذا أعتقد أنه من الصعب بمكان عودة المياه لمجاريها"، لأن جعل ملف التسوية الإقليمية لنقاط الخلاف مربوط بقوى خارجية تريد بشكل أو بآخر استثمار هذا النزاع لمصلحتها استراتيجياً، لاختراق المنطقة المغاربية وأفريقيا".