ملخص
للنزوح في اليمن قصة بدأت من سد مأرب... تعرف عليها!
النزوح في اليمن أشبه ما يكون بالرواية التراجيدية، إذ رافق الإنسان الأول قبل آلاف السنين، وتقول الروايات التأريخية إن "أول نزوح في البلاد التي سميت قديماً بالسعيدة كان عندما تعرض سد مأرب للتصدع ومن ثم الانهيار قبل نحو 3 آلاف عام"، وهو الحدث الذي دفع السبئيين إلى التوجه نحو أصقاع المعمورة، غير أن تلك الرواية ظلت على خلاف حول أسباب النزوح، هل كان بفعل انهيار السد أم بانهيار النظام السياسي آنذاك؟
الماضي والحاضر
في التأريخ الحديث ومع انهيار الدولة ووقوع البلاد في كماشة الميليشيات الحوثية المدعومة من إيران بقوة السلاح، عرف اليمنيون النزوح وقعاً لا مجازاً، وعلى النقيض من الرواية التاريخية نزح آلاف اليمنيين إلى أصقاع العالم وربما ذهبوا إلى أبعد مما ذهب إليه الأجداد في نزوحهم الأول، وإذا كانت مأرب هي المنطلق الأول في رحلة نزوح السبئين قديماً فهي اليوم المحطة الأولى أيضاً لملايين اليمنيين في نزوحهم الأخير.
فقدان الأمل
مئات الأسر اليمنية وجدت نفسها رهن أنياب النزوح القاسي بعد أن هجرت من قراها ومنازلها البسيطة تحت ذرائع مختلفة، والمؤلم في كل هذه التراجيديا الحزينة أن وراء كل أسرة نازحة قصة حزن وفصول متعددة من المآسي، ابتداء من مفارقة الديار والأهل وصولاً إلى النزوح المتكرر وفقدان الأقرباء مروراً برحلة البحث والحصول على لقمة العيش ثم ينتهي المطاف بها إلى فقدان الأمل بالعودة للديار.
يشبه الصحافي اليمني حمود هزاع الذي يسكن مخيم الجفينة أحد أكبر مخيمات النزوح في اليمن، الواقع في محافظة مأرب "النزوح والتهجير القسري الذي شهده اليمنيين، بما قاساه الفلسطينيين منتصف القرن الماضي، فاليمنيون يعيشون حالاً من الشتات وعدم الاستقرار، إذ أفرزت الحرب واقعاً ضبابياً مشوشاً، فهم لا يستطيعون العودة لمدنهم وقراهم التي هجروا منها، ولأسباب كثيرة لا يشعرون أنهم سيوطنون أماكن نزوحهم بحيث تصبح إقامتهم فيها دائماً فظروف الحياة ضئيلة والفرص تتقلص بمرور الأيام".
محطات قاسية
وأضاف هزاع أنه قد لا يشعر القارئ ولا العابر من بين هذه السطور بمأساة ملايين اليمنين، وقد يبدو لهم النزوح أمراً عابراً ومجازاً، لكن ليس كمن عاشه كصحافي حضر في عدد من المناطق اليمنية وتمكن خلالها من توثيق عدد من محطات النزوح القاسية كانت الدموع تسبق الصورة في حفظ تلك المشاهد.
تهجير جماعي
في واحدة من المحطات التي وثقها مراسل "اندبندنت عربية" في الميدان أطفال ونساء يصرخون، ويهربون نحو المجهول بحثاً عن مكان آمن بعد تحويل منازلهم إلى ثكنات، بينما كبار السن لم يستطيعوا اللحاق بمن فر من ذويهم، وآخرين كانت الحمير هي وسيلة النقل الممكنة لهم بعيداً من نيران الحوثيين، ففي أحد أيام أغسطس (آب) من عام 2018 هجر الحوثيون سكان عدد من القرى في مديرية حيران شمال غربي اليمن".
كان مصور هذه اللقطات يجهش بالبكاء وهو يشاهد الجميع يهربون من منازلهم بعد الهجوم الحوثي على قراهم وتمركزهم في منازلهم، بحسب ما تحدث به الأهالي لحظة توثيق هذه المشاهد المؤلمة، وكان الجو حاراً جداً والساعة تقترب من الواحدة ظهراً مع رياح وغبار والناس تفر هاربة من بطش الميليشيات، وليس لها علم أين ستقف بهم الأقدار، بحسب هزاع.
وبين صيف تهامة كانت جموع من أهالي المنطقة المنكوبة أقعدهم التعب، وأطقم عسكرية وعربات تابعة للحكومة الشرعية اليمنية تهرع إلى الأسر التي فرت من منازلها.
نزوح على متن عربات عسكرية
في الحرب قد تفقد الأطراف المتصارعة أخلاقها في التعامل مع المدنيين العزل، غير أن تلك الأخلاق لا اعتبار لها لدى الحوثيين في هذه الحرب، فمنذ أول طلقة أطلقتها الجماعة في صعدة شمال اليمن بدأت تغريبة اليمنيين تتوسع مع التمدد الحوثي عسكرياً في المحافظة والمناطق المحاذية لها، وتوالت بعدها الوقائع في وضع كل من لا يقبل بحكمهم، بحسب الصحافي اليمني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واستطرد هزاع القول "في الجانب الآخر رأيت ووثقت شيئاً مغايراً عن أخلاق العسكريين من جنود الشرعية اليمنية، احتفظ بتلك المشاهد من تلك اللحظة قبل خمس سنوات، ومن المناسب أن يرى الناس ماذا حدث؟ لقد قامت العربات والآليات العسكرية بنقل النازحين إلى أماكن بعيدة وعملت على تقديم ما يمكن تقديمه بل وصل الأمر إلى تقاسم الجنود والنازحين الزاد والماء".
تلك الآليات لم تذهب للصدام المباشر مع الحوثيين بل رافقت السكان، وكانت النداءات في أجهزة الإشارة بالتوقف عن إطلاق أي نيران حتى يتمكن الناس من الخروج الآمن ومن أخذ ما يمكن أخذه، إذ منعت الميليشيات جميع السكان من العودة لأخذ مقتنياتهم الثمينة وأجبرتهم على الخروج من مناطقهم بعد ساعات.
ووسط هدوء المكان كانت الساعة تشير إلى الثالثة عصراً سمع الصحافي اليمني دوي انفجار عنيف خيل لكل من يوجد بالمكان أنها غارة جوية لمقاتلات تحالف دعم الشرعية، إلا أنها لم تكن كذلك، بل إن ما حدث عبارة عن تفجير الحوثيين لأكبر مدرسة موجودة في المنطقة، ومن حسن الحظ أنه كان التقط صورة للمدرسة فوتوغرافية من بعيد، عندما كان الأهالي يتحدثون أن الحوثيين دخلوا المدرسة، ولم يكن يعلم أنها الصورة الأخيرة وأنه سيقف على أطلالها بعد أيام، بحسب روايته.
أطفال بلا أم
من بين تلك المشاهد التي يتذكرها هزاع مشهد شخص يقود دراجة نارية يركب عليها خمسة أطفال ويمشي بسرعة، تمكن من إيقافه واستفساره عما حدث؟ ليجيب بأن الحوثيين هاجموا مناطقهم وأخرجوهم من منازلهم، وظل سؤال يتبادر إلى الذهن أين والدة الأطفال ولماذا لم تكن معه في رحلة الفرار من الموت؟
بعد خمس سنوات تمكن هزاع من معرفة الشخص النازح والوصول إليه ويدعى عمر جنيد، الذي أخبره أن والدة الأطفال أصرت على أن يبدأ في إنقاذ أطفالها في تلك اللحظة، وأنها ستلحق به هي مع آخرين من جيرانهم.
عن تلك اللحظات يقول جنيد "لحظات لن ينساها التاريخ ولا نحن، ومنها بدأنا حياة جديدة وانتقلنا من حكم الميليشيات وسلطتها القهرية إلى حكم الدولة والعدالة التي أتمنى ألا تغيب عنا حيث لا مظالم ولا تفضيل لأحد على أحد".
مقتل الأبطال
كثير هي المحطات التي نحب أن نسمع حكايتها من أبطالها ومحطة تهجير السكان وعودة بعد خمس سنوات لشهود اللحظة تفاجأت بمقتل الأبطال الذين كانوا يقودون العربات العسكرية لنقل نازحين قضوا في مواجهات بين القوات الحكومية والميليشيات الحوثية بعد أشهر في حوادث متفرقة.
شهود واقعة التهجير بين زمنين
أحد الذين الذين طاولهم التهجير يدعى أحمد إبراهيم الذي يقول "كنا في بيوتنا آمنين وأخرجونا منها، فاضطررنا إلى النزوح والبحث عن مكان آمن باتجاه مناطق سيطرة الشرعية".
وأضاف نازح آخر يدعى أحمد قيم "دخلوا بيوتنا وحولونا إلى دروع بشرية، فنزحنا من بيوتنا وعملت قوات الشرعية على مساعدتنا، ونقلونا إلى مناطق آمنة على متن الآليات العسكرية".
بعد خمس سنوات عدنا إلى أحمد قيم نسأله عن تفاصيل تلك اللحظات فقال "انقطعت عنا المواد النفطية التي هي الأساس في التنقل، وعملت قوات الشرعية على نقلنا وتزويدنا بكل شيء موجود لديهم، بقينا في النزوح قرابة 21 يوماً مهجرين من بيوتنا"، متابعاً "نزحنا خلال هذه الفترة أكثر من ثلاث مرات، إذ كانت ضربات الحوثيين تحيطنا من كل الاتجاهات، وفي المناطق التي نزحنا إليها دارت معارك بين الجماعة وقوات الشرعية، حتى نجحت الأخيرة في فرض سيطرتها على مناطقنا فعدنا لبيوتنا واحتفلنا فرحاً، لكن الفرحة لم تدم إذ أطبق الحوثيون علينا الحصار مرة أخرى".
عودة للديار
ربما سكان هذه المناطق هم أكثر اليمنيين حظاً ممن فقدوا الأمل في العودة لديارهم بعد تسع سنوات من النزوح المتكرر، لأن نزوحهم لم يدم طويلاً إذ طردت القوات الحكومية الميليشيات الحوثية بعد 20 يوماً من توغلهم فيها.
وتمكن النازحون الذين أخرجوا من منازلهم من العودة لديارهم، ليكتب في ذلك أصغر قصة نزوح في تغريبة اليمنيين الثانية بعد انهيار السد، لكن فرحة العودة للديار لم تدم طويلاً، إذ بدأ حصار آخر منذ أغسطس (آب) 2018 حتى اليوم.