ملخص
فاتورة الأجور ارتفعت من ملياري دولار في 2010 إلى 7.3 مليار دولار في 2023
تشرع تونس رسمياً في إجراء تدقيق شامل وغربلة كبيرة لعمليات الانتداب التي شهدتها البلاد خلال العشرية الأخيرة وما رافقها من شكوك وانتقادات حول طريقة الانتداب على أساس المحاصصة الحزبية والولاءات السياسية على حساب الجدارة والكفاءة.
وخلال السنوات الأخيرة انتقد عديد من المتخصصين في الاقتصاد إثقال الإدارة التونسية بآلاف من عمليات الانتداب تحدثوا خلالها عن التحاق زهاء 100 ألف شخص إلى الإدارة التونسية ما أثقل موازنة البلاد في باب الأجور، مما جعل تونس إلى الآن تعاني إشكاليات كبيرة في الموازنات الأخيرة بارتفاع كتلة الأجور التي أضحت تمثل 40 في المئة من كامل حجم الموازنة.
وحرصاً على إنهاء الجدل الحاصل قرر رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد رسمياً إجراء تدقيق شامل لتكل الممارسات التي وقعت بين الفترة الممتدة بين 14 يناير (كانون الثاني) 2011 و25 يوليو (تموز) 2021 والتثبت منها.
وتعهد الرئيس التونسي قيس سعيد في الأشهر الأخيرة خلال لقاءاته مع عديد من أعضاء الحكومة اعتزام القيام بهذا التدقيق في الإدارة التونسية، بخاصة أن العدد الهائل من الموظفين (نحو 800 ألف موظف بين وزارات وشركات حكومية عمومية) يقابله خدمات إدارية ضعيفة ومتردية وتتسبب في سخط التونسيين وتذمرهم من تدني الخدمات الإدارية.
حسم الجدل
وتأكيداً لذلك صدر الخميس الماضي، أمر رئاسي يتعلق بإجراء تدقيق شامل لعمليات الانتداب والإدماج بالوظيفة العمومية والهيئات والمؤسسات والمنشآت العمومية والشركات ذات المساهمة العمومية وسائر الهياكل العمومية الأخرى والمنجزة في العقد الأخير بخاصة، ونص الأمر على إجراء تدقيق شامل لمختلف الانتدابات وعمليات الإدماج التي تمت في الفترة المذكورة في رئاسة الحكومة والهياكل الخاضعة لإشرافها والوزارات والهياكل التابعة لها والبلديات والشركات الحكومية إلى جانب البنك المركزي التونسي والبنوك العمومية والبنوك والمؤسسات المالية ذات المساهمة العمومية، وسيشمل التدقيق مؤسسة مجلس نواب الشعب (البرلمان). وستستحدث بموجب هذا الأمر لجنة قيادة لعمليات التدقيق توضع تحت الإشراف المباشر لرئيس الحكومة، وتتكون من أعلى هيئة رقابية في البلاد (الهيئة العليا للرقابة الإدارية والمالية)، وتضم اللجنة أيضاً ثلاثة قضاة من القضاء العدلي والإداري والمالي.
تسريح لكل انتداب غير قانوني
وتنطلق أعمال لجنة القيادة حال استكمال تركيبتها، وتصدر أذون المأمورية في أجل أقصاه 10 أيام من تاريخ انطلاق أعمالها على أن تنهي لجان التدقيق أشغالها في أجل شهرين من تاريخ مباشرتها مهامها برفع التقارير المنجزة إلى لجنة القيادة، ويرفع رئيس لجنة القيادة، في أجل شهر واحد من تلقيه تقارير لجان التدقيق، تقريراً ختامياً في أعمالها إلى رئيس الجمهورية.
وأكد الأمر الرئاسي تولي الإدارات والهياكل المعنية سحب قرارات الإدماج أو الانتداب التي ثبت في شأنها عدم احترام الشروط والإجراءات المحددة في النصوص التشريعية والترتيبية المنطبقة عليها أو التي ثبت اتخاذها بناءً على شهادات علمية مزورة أو غير مطابقة لشروط الإدماج أو الانتداب، بصرف النظر عن التتبعات الجزائية في الغرض.
كلفة باهظة
وقال المتخصص في الشأن الاقتصادي عز الدين سعيدان إن كتلة الأجور في الموازنة في تونس انتقلت من ستة مليارات دينار (ملياري دولار) عام 2010 إلى 23 مليار دينار (7.6 مليار دولار) في 2023، أي ما يعادل 40 في المئة من حجم الموازنة العامة.
وأضاف سعيدان في تصريح لـ"اندبندنت عربية" أن تفاقم العدد الهائل من الانتدابات في القطاع العام وفي عديد الشركات الحكومية أثقل موازنة الأجور إلى درجة أن ذلك تسبب في إشكاليات في المالية العامة للبلاد.
وكشف عن أنه اطلع على معطيات ووثائق رسمية أثبتت أن عدد الشهادات المزورة وعدد الملفات التي لم تحترم شروط التناظر والمعايير المعمول بها في الإدارات التونسية، في حدود 120 ألف شهادة وملف، مشيراً إلى أن ذلك يكلف الدولة ما بين ثلاثة وأربعة مليارت دينار (بين واحد و1.3 مليار دولار) سنوياً، أي ما كلف تونس خسائر في حدود 40 مليار دينار (13.3 مليار دولار) في العقد الأخير جراء الانتدابات العشوائية، وفق تعبيره.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال إنه دعا في السابق منذ أربع سنوات إلى ضرورة إجراء تدقيق وشامل والتثبت من الشهادات العلمية للموظفين والعاملين في الوظيفة العمومية والقطاع العمومي وتتبع كل ما تجاوز القانون وارتكب إخلالات. وكشف عن أن معلمين ومهندسين وأطباء يباشرون اليوم عملهم ويمارسون المهنة بشهادات مزورة، وفق تعبيره.
ودعا بشدة إلى وجوب المحاسبة ومتابعة المتسببين في هذه الانتدابات التي أضرت بالإدارة التونسية وأثقلتها بكلفة مالية ما زالت تعانيها البلاد، بخاصة خلال العشرية الأخيرة التي تولى خلالها "الإسلام السياسي" مقاليد الحكم في البلاد.
تضخم عدد الموظفين
ويرى أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية معز الجودي أن الوقت حان للقيام بعملية "غربلة شاملة" وتدقيق مفصل للانتدابات في الشركات الحكومية التونسية، معلناً عن مساندته لرئيس الحكومة أحمد الحشاني بالشروع في ما وصفه بـ"تطهير الإدارة التونسية".
وأوضح أن تضخم كتلة الأجور في موازنات تونس بعد 2012 أثقلت كاهل المالية العامة وصارت عبئاً ثقيلاً يصعب مجاراته في ظل انعدام الإنتاجية وعدم وجود نجاعة في الخدمات.
وفسر بأن الإدارة التونسية أضحت منفرة للاستثمار وللمستثمرين الذين أقروا صراحة في عديد من الدراسات والمسوحات الإحصائية بأن الإدارة صارت عاملاً معوقاً لبيئة الأعمال بسبب بطء الإجراءات وتشعبها علاوة على أن كثرة أعوان الشركات الحكومية لا تعني حتماً وجود جودة في الخدمات وفق تقديره للمسألة.
وفي غضون ذلك اتهم معز الجودي صراحة حركة "النهضة" الإسلامية بأنها هي من تتحمل مسؤولية انهيار الاقتصاد الوطني التونسي، نظراً إلى أنها كانت على رأس السلطة بصفة مباشرة أو غير مباشرة منذ 2011 وإلى 25 يوليو 2021.
وأضاف الجودي أن المالية العمومية عانت سوء تصرف حكومة "الترويكا"، وتمظهر ذلك في العجز في الميزانية وارتفاع المديونية، إلى جانب الانتدابات العشوائية في الوظيفة العمومية التي أثقلت كاهل المؤسسات العمومية، على حد تقديره.
وأشار إلى أن الإدارة التونسية أصبحت تعج بموظفين وقع انتدابهم بطريقة عشوائية، في إطار ما يسمى "العفو التشريعي العام"، وهو ما تسبب في وصول كتلة الأجور إلى مستويات قصوى، وفق تعبيره.
وختم الجودي تصريحه بأن هذه الوضعية دفعت الدولة للاقتراض ومحاولة تعبئة موارد مالية لتسديد كتلة الأجور الشهرية والمقدرة تقريباً بـ21.5 مليار دينار (7.3 مليار دولار) سنوياً.
عدد قليل
تعليقاً على الجدل الحاصل في شأن إغراق الإدارة التونسية بعشرات الآلاف من الانتدابات، قال الناشط السياسي ووزير الوظيفة والإصلاح الإداري في فترة حكم حركة "النهضة" الإسلامية محمد عبو إن أرقام الانتدابات الحاصلة وفقاً للشهادات المزورة غير دقيقة، من ثم لا داعي أن يدعي أي أحد أنه على دراية بـ"العدد الرسمي للشهادات المدلسة"، وفق قوله.
ودحض الادعاءات التي تؤكد إغراق الإدارة التونسية بانتدابات غير مدروسة الغرض منها انتفاع بعض أنصار الأحزاب، وبخاصة حركة "النهضة" بالوظائف بعد أن منعهم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي من المشاركة في المناظرات للدخول إلى الشركات الحكومية أو الوزارات، وأقر بأن عدد الذين انتدبوا من المتمتعين بالعفو التشريعي العام لا يتجاوز ستة آلاف شخص، وأن هنالك قرابة 200 شخص من أهالي شهداء الثورة وثلاثة آلاف من جرحى الثورة انتدبوا دون مناظرة.
وخلص بالقول "من أغرقوا الوظيفة العمومية هم عمال المناولة الذين انتدبوا وبضغط من الاتحاد العام التونسي للشغل"، وفق قوله.