Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الروائي السعودي هاني نقشبندي كشف المسكوت عنه

رحل بهدوء بعد حياة صاخبة وانتقد في رواياته ذكورية المجتمع العربي وحرض المرأة على رفض دور الضحية

الروائي والإعلامي السعودي هاني نقشبندي رحل عن 60 عاماً (صفحة الكاتب - فيسبوك)

ملخص

رحل بهدوء بعد حياة صاخبة وانتقد في رواياته ذكورية المجتمع العربي وحرض المرأة على رفض دور الضحية

سطور قصيرة حملت مزيجاً من مشاعر الانتماء للوطن والولاء للإنسانية التي تتخطى حدود الهوية، كانت رسالته الأخيرة التي ودع بها الكاتب السعودي هاني نقشبندي قراءه وأصدقاءه ومحبيه قبل رحيل مفاجئ وهادئ، أمس الأحد، يخالف حضوره الذي كان دائماً محفوفاً بالصخب، لا سيما أنه قرر في كل أعماله الأدبية اختراق مناطق شائكة وكسر تابوهات خطرة وكشف عن وجوه حقيقية لمجتمعات كثيراً ما عاشت في الظل ومرجعيات أنكرت الخطأ كحق بشري أصيل.

بدا هاني نقشبندي منذ انطلاقه روائياً صاحب هم مختلف ورؤية متفردة إلى الجماعة والفرد، وكذلك صاحب أسلوب روائي يجمع بين السلاسة الأدبية والانفتاح على لغة الحياة والواقع. ومنذ روايته الأولى باشر فيها التطرق إلى موضوعات إشكالية وقضايا بعضها كان بمثابة المسكوت عنه.

أدرك نقشبندي باكراً شغفه بالكتابة فأنجز في بداية مسيرته كتابين، الأول هو "يهود تحت المجهر" الذي صدر عام 1982، وبعد أربع سنوات من صدوره نشر كتابه الثاني "لغز السعادة الذاتية والتطور"، لكن ما كتبه فتح أمامه السبيل إلى عالم الإعلام المكتوب والمرئي، فقرر الانتقال إلى العمل الصحافي، ومنحه أكثر من عقدين من عمره، تنقل خلالهما بين الصحافة والتلفزيون، فترأس مجلة "سيدتي" ومجلة "المجلة"، وأسهم في تأسيس مجلة "الرجل"، كما قدم بعض البرامج التلفزيونية، مثل برنامج "حوار هاني" وبرنامج "هنواتي"، لكنه لم يتخل لحظة خلال هذه السنوات عن هاجسه الروائي، الذي كان حافز انطلاقه إلى عالم الكتابة.

صراع مع الموروث

في خضم زخم من النجاح الإعلامي كان نقشبندي يستعيد شغفه الأول بالكتابة، فأصدر روايته "اختلاس" التي تطرق فيها واحدة من أخطر قضايا المجتمع الخليجي بوجه عام، والمجتمع السعودي بوجه خاص، إذ تعرض عبرها لواقع موسوم بالتناقض، في مجتمعات تعاني الشيزوفرنيا، تهمل المرأة وتحتكر الفضيلة، وفيها تعيش فيها النساء شبه حياة، في حين يعيش الرجال بمطلق سلطتهم: "نولد، نكبر، نموت، ولا نعرف عن المرأة سوى ثلاثة أشياء: تحيض ولا نحيض. تلد ولا نلد. نخطئ ولا يحق لها الخطأ. هكذا قرأ هشام عن المرأة، حيث درس. حتى معلم الدين، كان جل تركيزه على أن المرأة كائن يحيض".

وعبر ما ساقه من أحداث عزا الروائي الراحل هذا العطب المجتمعي إلى موروث ما فتئ يجدد سطوته، غاضاً الطرف عن انقضاء زمنه، وانتهاء صلاحيته. وجسد وطأة هذا الموروث عبر صراعات شخوصه المحورية، لا سيما صراع البطلة سارة مع أهلها، ومع مجتمع محافظ يرفض محاولات التمرد على غطاء وجه مفروض كدرع لحمايتها، في حين تراه هي مجرد عرف وعادة لا معنى لها، تحجب مع وجهها حقيقة أن الدرع الحقيقية للمرأة، هي عفتها وكرامتها. كذلك تجلت وطأة هذا الموروث مرة أخرى، في الصراع الذي احتدم بين هشام رئيس تحرير واحدة من المجلات النسائية العربية، التي تصدر في لندن، وبين الرقيب الذي يمارس قمعاً، ينتصر عبره للموروث التقليدي نفسه. ويقمع محاولات توسيع هامش الحرية والمكاشفة. وكانت الهزيمة التي حظيت بها كلتا الشخصيتين المحوريتين في النص، انعكاساً لجمود المجتمع العربي، وانسحاقه أمام سطوة موروث اعتاد قهر النساء، قاصرات، أو مطلقات، أو متزوجات، لكن الكاتب لم يحاكم مجتمعاً ذكورياً، يشيئ المرأة ويسلعها وحسب، وإنما مرر رؤى ضمنية، تحمل إدانة للنساء أنفسهن، وتوجه لهن سهام النقد، لكونهن استمرأن دور الضحية، ولم يتمردن عليه.

واجهت رواية "اختلاس" هجوماً شرساً فور صدورها عام 2007، عن دار الساقي في بيروت، ومنعت في كثير من الدول العربية، وكان هذا المنع أحد أسباب نجاحها، حتى تم طبعها ست طبعات متتالية، ولاقت استحساناً كبيراً، لدى الجمهور العربي.

التطرف الديني

كان التطرف الديني إحدى القضايا المهمة التي تطرق إليها نقشبندي في عديد من أعماله الروائية، ومن بينها رواية "طبطاب الجنة"، ورواية "الخطيب"، التي عمد عبرها إلى رصد تأثير الخطاب الديني في الشارع العربي، وفضح بعض الأئمة الذين يتاجرون بالدين، من أجل الحصول على غايات ومكاسب دنيوية. ففجر عبر الأحداث، التي تدور حول إمام كرر خطبة الجمعة مرات، من دون أن ينتبه، لا هو ولا المأمومون، لما جرى من تكرار، قضية ضعف تأثير الخطاب الديني في الجماهير. وطرح أسئلة حول موطن العلة وأسبابها "عندما استوت قامة الخطيب على المنبر، سرى في المسجد صمت باذخ. بدأ خطبة الجمعة بصوت أجش، راح يتصاعد تدريجاً من تلقاء ذاته. كان مجتهداً في خطبته متفاعلاً معها، لكنه في الواقع كان الوحيد الذي يدرك ذلك، إذ فور أن بدأ، انصرف المصلون إلى أشياء أبعد ما تكون عن الاستماع له. وقد حدث أكثر من مرة أن وجه حديثه بلطف إلى أحدهم قائلاً "هلا أطفأت هاتفك رعاك الله وأنصت لي؟".

رصد نقشبندي التعالي والغطرسة لدى أولئك الخطباء. أما التحول الذي طرأ على شخصية البطل، بعد إجهاض أمله في العمل كإمام لمسجد أكبر، يمكنه من الحصول على امتيازات أكثر، فكان وسيلة ناجعة، جسد عبرها نقشبندي، ما امتلأت به نفس الخطيب من حقد، يعكس تديناً زائفاً، وينعكس في خطاب، بات مع تطور الأحداث وتناميها، أداة لبث الكراهية، والتعصب، الذي وجد في صدور الناس ملاذاً، ومتسعاً، فاستشرى بينهم. وهكذا عمد نقشبندي إلى تطويع إخفاق شخصيته المحورية في الحصول على مكاسب دنيوية، من أجل استجلاء بواطنها، وتمرير رؤاه حول فساد بعض الشيوخ والأئمة، وتشريح أسباب التعصب، ودوافع الكراهية. وحاول عبر هذا التشريح، أن ينكأ جراح الواقع المفتوحة منذ عصور. ويرسم -ضمناً- طريقاً مغايراً، يمكن أن يقي المجتمعات شرور هذا التعصب، وتلك الكراهية.

ثنائيات متقابلة

التقابل والتناقض كانا ثيمة رئيسة، اعتمدها الكاتب في كل نصوصه الأدبية، لا سيما في روايته "قصة حلم"، التي تحولت إلى عمل درامي بعنوان "صانع الأحلام". فبدا هذا التقابل بين "الأنا"، متمثلة في الشخصية المحورية إسماعيل، وبين "الآخر" الذي مثله مركز الأبحاث في ميونيخ. وبدا كذلك بين المادية، التي عبر عنها تخصص البطل في مجال الفيزياء، وبين قدراته الخارقة في تفسير الأحلام، وبين الواقعية التي أحالت إليها فضاءات السرد الزمنية والمكانية، الموزعة على مصر، والسعودية، وبعض البلدان الأخرى، والفانتازيا التي لونت الأحداث. فالبطل الذي انطلق من علم مادي، اخترق عوالم الماوراء، من أجل صناعة الأحلام، وتوجيه النائمين للحلم بعوالم خفية، تتكشف عبرها أسرار، تخدم العلم وحياة الناس. وعلى عكس ما ذهب إليه الكاتب في رواية "اختلاس"، من رفض الموروث المتصل بعادات وأعراف، لا تتسق مع العصر، ولا مبادئ الإنسانية، فإن ثمة تراثاً إنسانياً آخر، احتفى به في هذه الرواية "قصة حلم"، إذ استدعى عبر البطل إسماعيل البارع في تفسير الأحلام، شخصية ابن سيرين التراثية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذا الاحتفاء بالموروث برز كذلك في رواية "طبطاب الجنة"، عبر اسم الرواية، الذي يطلق على نوع من الحلويات الشعبية الحجازية، المصنوعة من الدقيق والسكر المحروق. وأيضاً عبر إحياء اعتقادات متوارثة، حول الفضاء المكاني الذي اتخذه الكاتب مسرحاً للأحداث "مقبرة حواء"، وما يشاع عن دفن أم البشر فيها. وبرز كذلك عبر الإحالة إلى قصة الحب الأشهر في التراث العربي "قيس وليلى العامرية"، التي تتقاطع مصائر بطليها، مع مصائر بطلي رواية نقشبندي، فقد مكث سلومي عند قبر حبيبته الميتة سلمى، خلال فصول متعاقبة، على رغم الحر والبرد والمطر سعياً إلى الموت من أجل اللحاق بها، ورغبة في أن يدفن إلى جوارها.

حقيقة الموت

عبر جدلية الحياة والموت في رواية "طبطاب الجنة"، مرر الكاتب الراحل عديداً من الرؤى، حول كابوسية الواقع، وسوداويته، لا سيما أن العذاب والألم واستحالة الوصول هي قواسم مشتركة جمعت كل الشخوص. فبينما كان سلومي يتعذب لفقدان حبيبته سلمى، التي غيبها الموت، كانت غرسة تتعذب لانصراف سلومي، الذي تحبه عنها، وتفضيله الموت إلى جوار حبيبته، عن الحياة إلى جوارها. وعبر هذه الثيمة أبرز الكاتب تماثلاً بين الحب والموت، فكلاهما يبث الألم. وكلاهما يحمل الخلاص "هل تصدقين يا خالتي؟ ما زلت أغار منها حتى وهي تحت التراب. انظري ما يفعل العشق. هكذا أردت له أن يعشقني. أنا أحبه ولا أعلم ما أفعل بحبه وهو لا يزال جالساً هناك".

وعلى رغم كل ما حفزه الموت في النص من ألم، عزز بدوره حتمية الاحتفاء بالحياة، فلم يتجاهل نقشبندي الاحتفاء بالموت أيضاً، لا سيما أنه الحقيقة الوحيدة المحتم على الإنسان مواجهتها، وربما هذا ما دفعه للقول في أحد حواراته الصحافية "إن أجمل فعل يختم به الإنسان حياته هو الموت، لأنه انعتاق للروح الكبيرة من الجسد الضيق، لهذا يصير الحديث عن الموت والحياة، حديثاً عن موضوع واحد بكلمات مختلفة، كما أن الخلود ضرب من العذاب، لأن جماليات الحياة تكمن في أنها تحرث نفسها، ولو بقيت الأرض بلا حرث تموت".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة