ملخص
دراسات تجريبية أجراها باحثان أميركيان في 4 قارات
يتناول كتاب "الاقتصاد الثقافي العالمي" Global Cultural Economy لكريستيان دي بوكيلاير وكيم ماري سبينس، بالبحث والنقد الدور الذي تضطلع به الصناعات الثقافية والإبداعية في المجتمعات. وفي وضع تلك الصناعات في سياقاتها الاقتصادية والثقافية الأوسع، جمع المؤلفان مجمل أبحاثهما التجريبية، التي اتسع نطاقها لتشمل أربع قارات، كي يعرفا "الاقتصاد الثقافي" بوصفه نظاماً لإنتاج السلع والخدمات الثقافية التي يؤدي وظيفته داخلها. الكتاب صدرت طبعته الإنجليزية عام 2019، وترجمته نيفين حلمي عبدالرؤوف إلى العربية (المركز القومي المصري للترجمة) ويطرح كل فصل من فصوله موضوعاً مختلفاً، على غرار الإشراك والتنوع والاستدامة وحق الملكية. وتسلط تلك الفصول الضوء على التوترات المحيطة بتلك الموضوعات، سعياً إلى خلق اشتباك فعال مع الحلول الممكنة والموقتة.
وتستكشف تلك الموضوعات عبر دراسات حالة تتضمن سينما بوليوود وصناعة الموسيقى في غانا والموجة الكورية وموسيقى الريغي في جامايكا وتقارير الاقتصاد الإبداعي التي تصدرها الأمم المتحدة. وعلى رغم أن مؤلفيه يؤكدان "عالمية" نطاق بحوثهما في هذا الصدد، فإنهما يقران في الوقت نفسه بأن الكتاب لا يشرح بأي حال من الأحوال الاقتصاد الثقافي للعالم بأسره. إذاً كيف يتسم الكتاب بالعالمية ويظل في الوقت نفسه مترسخاً في سياقات بعينها؟ يجيب المؤلفان: "أولاً، كتابنا عالمي في منهجه، ونحن نضعه في مواجهة النماذج والتحليلات النقدية والسياسات والكتب الدراسية التي تتناول الصناعات الإبداعية والثقافية وتعتمد في الأساس على ممارسات قائمة في عدد محدود من البلدان الغربية المتقدمة. كثير من هذه الكتب قدمت إسهامات مفيدة للغاية في ما يتعلق بتكوين المفاهيم ووضع النظريات حول نطاق من القضايا المرتبطة بتلك الصناعات، لكن نظراً إلى التنوع الموثق للممارسات الثقافية، ثمة يقين متزايد بأن الاقتصاد الثقافي له أشكال وصور عدة، حتى وإن بدا في الظاهر متشابهاً: ألا تنتج صناعات بوليوود ونوليوود وهوليوود كلها أفلاماً سينمائية؟ بالطبع جميعها تنتج أفلاماً، لكننا ننطلق من افتراض يزعم أن النماذج القائمة برزت من سياقات غربية، وحين جرى اقتباسها وتبنيها واستخدامها في شتى أنحاء العالم، اصطدمت بالممارسات القائمة التي لا تتوافق مع تلك النماذج المعيارية".
قالب توجيهي
وعلى رغم أن النماذج القائمة صممت في المقام الأول لتكون أدوات تحليلية تساعد على فهم الاقتصاد الثقافي، فإنها، بحسب المؤلفين، أضحت قالباً توجيهياً في كثير من الأماكن، ومن ثم فإنهما اختارا إطاراً "عالمياً" لهذا الكتاب، "لأننا نرغب في إبراز هذا التوتر عبر تأكيد الحاجة إلى تسليط قدر أكبر من الضوء على نماذج وأهداف وأولويات أخرى ضمن الاقتصاد الثقافي، بدلاً من التسليم بتلك النماذج القائمة". وثانياً، يعتبر هذا الكتاب التقارير الصادرة من منظمات دولية مثل اليونيسكو ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية مصدراً رئيساً للبيانات. فهذه المنظمات - كما لاحظ المؤلفان - كان لها تأثير أكبر في البلدان غير الغربية، وتقاريرها التي تركز على السياسات متاحة من دون قيود، على العكس من معظم الأبحاث الأكاديمية، فضلاً عن أن "تقارير الاقتصاد الإبداعي"، التي تصدرها تجمع بين البيانات الكمية ودراسات حالات توضح "أضل الممارسات" وتوصيات في شأن السياسة، ومن ثم تقدم معلومات مفيدة لكل من السياسيين وصانعي السياسات والنشطاء والمستشارين والفنانين. إلا أن تلك المنظمات قد دعمت عبر هذا النوع من التقارير المنهج الذي يتناول الاقتصاد الثقافي من منظور تطلعي طموح، "لذا راعينا أن نضيف إلى ما أجريناه من حوارات تحليلاً للسياسات واستخداماً لمجموعات البيانات الكمية. وقد تعاملنا مع تقارير الاقتصاد الإبداعي أو مجموعات البيانات الصادرة عن الأمم المتحدة بوصفها بيانات محورية لا مصادر أكاديمية". ثالثاً، على رغم أن هذا الكتاب عالمي النطاق، يقول المؤلفان، فإن نطاقه التجريبي ليس بهذا الاتساع، "فهو يستند إلى أبحاثنا التجريبية التي أجريناها في عدد من الأماكن".
الموسيقى والسينما والتلفزيون
أجرى كريستيان دي بوكيلاير الجزء الأكبر من أبحاثه في غرب أفريقيا، إذ تناول بالبحث والتدقيق صناعات الموسيقى والآليات التي وضعت خصيصاً لدعم هذا القطاع بوصفه صناعة إبداعية أو ثقافية، وذلك في مدينتي واغادوغو (بوركينا فاسو)، وأكرا (غانا) بالترتيب. تمت تلك الزيارات الميدانية في أعوام 2013 و2015 و2016. عقب ذلك تناول دي بوكيلاير بالبحث بعض المشروعات الأصغر حجماً التي تركز على المجال نفسه، في آسيا الوسطى (كازاخستان 2016) وجنوب شرقي آسيا (إندونيسيا 2016 - 2017). أما كيم ماري سبينس، فقد أجرت أبحاثها في كنغستون (جامايكا) وسيول (كوريا الجنوبية) حيث بحثت كذلك صناعتي موسيقى الريغي والبوب الكوري، إضافة إلى الآليات التي صممت لدعم تلك الصناعات. وأجرت بعض الأبحاث الميدانية حول صناعتي السينما والتلفزيون، لا سيما سينما بوليوود والمسلسلات التلفزيونية الكورية، بالترتيب، في مدينتي مومباي (الهند) وسيول، وذلك عام 2016. علاوة على ذلك أجرت كيم ماري سبينس بعض لقاءات المتابعة عبر تطبيق "سكايب"، كجزء من أطروحتها الدراسية التي كتبتها في عامي 2017 و2018. واستفاد الباحثان من الآراء الكاشفة والتحليلات التي قدمها لهما كل من تحاورا معهم، ممن يواصلون العمل في الاقتصاد الثقافي العالمي محولين إياه إلى واقع.
ماهية الاقتصاد الثقافي
استخدم المؤلفان السياقات المحددة بوصفها أساساً يمكنهما من فتح النقاش ومد الروابط وصياغة الملاحظات العامة، لإتاحة نتائج ذلك في إطار يؤدي إلى مناقشة أعم حول ماهية الاقتصاد الثقافي، وكيف يبدو في شتى أنحاء العالم، وكيف يمكن تصور رؤى مختلفة (وغالباً متناقضة) لمستقبله. وينطلق جهد المؤلفين الذي احتواه هذا الكتاب من إيمانهما بأن مصطلح الاقتصاد الثقافي يوسع نطاق مفهوم "الصناعات الثقافية"، إذ يقدم إطاراً يتيح فهم المعاملات المالية وغير المالية المتضمنة في خلق الثقافة وتوزيعها والاشتباك معها، ويتناقض مع مفهوم "الصناعات الإبداعية" والاقتصاد الإبداعي، عبر إعادة تأطير القطاع بوصفه مسألة ثقافية. ولا يعني هذا المصطلح أن المساعي الثقافية والفنية ليست إبداعية، بل يرفض كون الزعم المناقض أمراً حتمياً، كما في النموذج الكوري الذي رأى في وقت ما أن السيارات تندرج في نطاق الاقتصاد الإبداعي، في حين تفترض "الصناعات الثقافية" (أو في الأقل تقترح) بنية من خلال شكلها التنظيمي، فإن هذه البنى تختلف اختلافاً كبيراً (غير ظاهر في الأغلب) في شتى أنحاء العالم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذه الاختلافات قد تكون ثانوية نسبياً من جهة أن هذه الصناعات قد تبدو متشابهة إلى حد كبير، فالأفلام، مثلاً، تنتج بالطريقة نفسها في نيجيريا والهند والولايات المتحدة، لكن أهمية الاختلافات التي تميز صناعات الأفلام المختلفة هذه هو الاعتماد على المسار الذي أدى إلى ظهورها، بحسب ما لاحظ دي بوكيلاير. واستناداً كذلك إلى دراسة أليكس بيرولو لـ"اقتصاد الموسيقى" في تنزانيا (2011) فإن مؤلفا الكتاب الذي نعرض له هنا يريان أن "الاقتصاد الثقافي" ذو طابع توجيهي أقل من "الصناعات الثقافية"، لكنه يختلف عن "الاقتصادات الثقافية". وهما في هذا الصدد يتفقان مع جاستين أوكونور في أن الاقتصاد الثقافي يختلف عن الاقتصادات الثقافية من جهة أنه لا يشير إلى اقتصاد الثقافة بوصفه نظاماً منفصلاً يدعم إنتاج القيم الثقافية، بل يشير الاقتصاد الثقافي إلى تقاطع القيم الثقافية والاقتصادية عبر نطاق كامل من الممارسات والمؤسسات المشاركة في الإنتاج الثقافي.
بين الإبداعي والثقافي
وفي سياق متصل يلاحظ المؤلفان على سبيل المثال أن المنظمة العالمية للملكية الفكرية تركز على "صناعات حقوق الملكية"، بينما تعطي منظمة اليونيسكو الأولوية للثقافة، ويركز مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية على البضائع والخدمات المتبادلة. من الناحية الأخرى يبدي الأكاديميون اهتماماً أكبر بالجانب الأنطولوجي للنقاش، فينصب تركيزهم على الأنشطة التي تندرج تحت تلك التصنيفات وكيفية تقويتها. ومن هنا يرى المؤلفان أنه كثيراً ما عانى الاقتصاد الثقافي تشوشاً في التحليل والأيديولوجية والاستراتيجية المطروحة ضمن الملاحظات والمزاعم التي تدفع النقاشات حول السياسة والاستراتيجية.
وخلاصة الأمر هي أن هذا الكتاب يهدف إلى إثارة جدال وإلى تحدي المفاهيم المقبولة عبر أربع وسائل متداخلة. أولاً بتحويل دفة الانتباه من الصناعات "الإبداعية" إلى الصناعات "الثقافية". ثانياً باستكشاف دور هذه الصناعات الثقافية ومعناها في سياقاتها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية الأوسع. ثالثاً، بتبني منهج عالمي صريح في تناول الاقتصاد الثقافي. رابعاً بتوضيح التوتر الكامن في الثقافة بوصفها تراثاً وابتكاراً، قديمة وجديدة، مألوفة وغريبة. وفي ذلك يستند المؤلفان إلى أبحاثهما التجريبية التي أجرياها عبر آسيا وأفريقيا وأوروبا وأستراليا، وهدفهما هو استيعاب تعقيد الثقافة وعلاقتها بالنطاق الاقتصادي، ورسم حدود الاقتصاد الثقافي على نحو أوضح وأضيق من حدود الاقتصاد الإبداعي.