ملخص
السبب الرئيس للاعتماد على العشائر في حل النزاعات يعود لسرعة إنجازه بينما لو توجه المعتدى عليه إلى القضاء سينتظر سنوات لكي يحصل على جزء من حقه.
تعد العشائر في العراق جزءاً رئيساً من نسيج مجتمع بلاد الرافدين، وتشكل حلقة وصل بين أبناء البلاد كافة، فضلاً عن تمتعها بأهمية مجتمعية أخذت حيزاً كبيراً مختلفاً خلال الأعوام الماضية من خلال دورها في مجالات الحياة المختلفة، سواء في فض المنازعات أو مساندة السياسيين والترويج لبرامجهم الانتخابية وغيرها، لكن تظل علاقتها بالقانون والدولة محل تساؤل على مر السنين.
ما هي العشيرة؟
العشيرة مجموعة من الأفراد يصل عددهم إلى مئات وآلاف الأشخاص أحياناً ويترأسهم شخص يطلق عليه "شيخ العشيرة" أو "الشيخ العام" وله الحق في قبول وطرد الآخرين من عشيرته بالتشاور مع وكلائه، وللشيخ صلاحية ونفوذ واسعين مع العشائر الأخرى، فضلاً عن سياسيين ورجال أمن وغيرهم.
وللعشيرة دور كبير في حل مشكلات أبنائها، لا سيما التي تصل إلى حد النزاعات والقتل المتعمد من خلال "الفصل العشائري"، إذ يجمع شيوخاً من عشائر مختلفة ليفصلوا بين عشيرة الجاني والمجني عليه للتنازل عن الحق العام باتفاق مسبق، كما للعشائر دور في المساعدات الإنسانية والمجتمعية.
واتسعت أخيراً أدوار العشائر ونفوذهم في مجالات السياسة من خلال الترويج لأبناء قبيلتهم بهدف إيصال ابن العشيرة إلى البرلمان من خلال إقامة المؤتمرات وحث أبنائهم لانتخابه لغايات وأهداف اجتماعية وسياسية، إذ يلجأ بعض السياسيين إلى العشائر في الترويج لبرنامجهم والتعويل على دورهم في إيصاله إلى قبة البرلمان.
دور رئيس
في هذا السياق يقول الشيخ زيدان عنيد الربيعي، وهو رئيس قبيلة، "من دون أدنى شك فإن للعشيرة في العراق سلطة كبيرة جداً ومهمة، وهذه السلطة ليست وليدة اليوم، إنما منذ القدم، لأن المجتمع العراقي بغالبيته، هو مجتمع عشائري له قوانين خاصة تسمى (سناين)، تلتزم بها جميع العشائر، لذلك كان حكام العراق يعتمدون على شيوخ العشائر في حل أي مشكلة اجتماعية أو سياسية وحتى القضاء على التظاهرات التي كانت تخرج ضد هذا الحاكم أو ذاك".
يرى الربيعي أن "القانون يمثل سلطة الدولة، لكن العشائر في غالب الأحيان لا تلجأ إلى الجهات الأمنية والقضائية لحل نزاعاتها أو مشكلاتها، بل تتم التسوية من طريقة (الفصل العشائري)، الذي يسبقه تمهيد معين يسمى (العطوة)، وهذه الأخيرة تعني اعتراف العشيرة المعتدية بالذنب الذي اقترفته بحق العشيرة المعتدى عليها، وأنها ستسدد كل ما تطلبه العشيرة المعتدى عليها، وهذا الاعتداء سواء كان يستهدف شخصاً واحداً أو منزلاً أو العشيرة برمتها، ولـ(العطوة) دور كبير في إخماد الفتن والمشكلات والصراعات، لأنها تساعد شيوخ العشائر والوجهاء في إيجاد الحلول المناسبة للمشكلة في وقت لاحق".
وأضاف أن "السبب الرئيس للاعتماد على العشائر في حل النزاعات يعود لأن هذا الحل يكون سريعاً ومثمراً، بينما لو توجه المعتدى عليه إلى القضاء والأجهزة الأمنية فإنه سينتظر سنوات لكي يحصل على جزء من حقه، وسيكون في غالب الأحيان من طريق (الفصل العشائري)، لأن الجهات الأمنية والقضائية تعتمد عليه في كثير من الأحيان، لأن وجود (الصلح العشائري) يحفف الحكم عن الجاني بكل تأكيد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأردف، "في بعض القضايا الكبيرة يقع على الجاني حكمان، الأول يخص عشيرته بدفعها دية أو مبلغاً من المال لأهل المعتدى عليه، والثاني يتمثل بالإجراءات القانونية التي تأخذ مسارها بحق الجاني، لأنه بحسب التصرف الأول هناك ضمان (عشائري) لأهل وأقارب الجاني من عدم حصول اعتداء عليهم من قبل أهل المعتدى عليه الذي يعرف بـ(الثأر)، وهذا الأمر فيه حقن لكثير من الدماء".
وعن السبب الذي يجعل بعض المسؤولين والمجتمع يعتمدون على العشائر في الدعاية الانتخابية أو حل المشكلات؟ أجاب الربيعي بالقول إن "العشيرة هي أشبه بالتنظيم الحزبي، وهي متكاتفة ومتراصة وعندما يتم الاعتماد عليها، فإنها تأتي بنتائج إيجابية للمرشح في الانتخابات، لأنه يمكن توجيه أبناء العشيرة من قبل زعيمها (الشيخ) لانتخاب هذا المرشح أو تلك الكتلة، وبالتالي يكون الاختيار مركزاً ويمكن الاعتماد عليه في تحقيق النتيجة المرجوة، لكن الآن وبسبب انخراط أبناء العشيرة الواحدة في أحزاب عدة بات الأمر غير مسيطر عليه من قبل شيخ العشيرة، لأن الانتماء الحزبي في بعض الأحيان يتفوق على الانتماء العشائري، والدليل على ذلك أن هناك بعض المرشحين الذين ينتمون إلى عشائر عدد أفرادها كبير جداً، لم يتمكنوا من تحقيق النجاح في المعركة الانتخابية".
كما يشير الشيخ محمد القريشي، وهو شيخ إحدى العشائر العراقية، إلى أهمية العشيرة ودورها، لكنه ينبه إلى أنها لن تكون بديلة عن القانون، وإنما لها سلطة مجتمعية تهدف إلى تذليل العقبات أمام أبناء المجتمع الواحد والصلح في ما بينهم، مؤكداً أن كثيراً من القضايا والحوادث تحلها العشائر من دون اللجوء إلى القانون.
الإساءة للدولة والقانون
لكن هل يمكن أن تحل العشائر بديلاً عن القانون؟ الباحث القانوني فيصل ريكان أجاب بأن العشائر العراقية الأصيلة كانت دوماً ساندة للدولة وبمثابة الأداة الفاعلة لتطبيق القانون، إلا أنه أعرب عن أسفه لما "حدث من تطور خطر في الفترة الأخيرة وظهور شخصيات غير منضبطة حسبت نفسها على مسار العشائر، وبالتالي أدت إلى انحراف كثير من رجال العشائر وأصبحت عبئاً على القانون بدلاً من أن تكون أداة لتطويره والحرص عليه والدفاع عنه".
وأوضح ريكان أن "الإساءة لا تنحصر في شخص معين أو جهة ما، لأن المخالفة التي تصدر من عشيرة معينة قد تؤدي إلى خراب وقد تنعكس بالتالي على حال الاستقرار وسيادة القانون، في ظل انفلات السلاح لدى الجميع".
براغماتية
من جهته، يرى الباحث السياسي، نبيل جبار التميمي، أن نظام العشيرة في العراق مر بعدد من المنعطفات، موضحاً أن "العشائر والمشيخة كنظام شرعي وحاكم ومنظم بقانون كان يحكم الأرياف خلال فترة العشرينيات من القرن الماضي حتى نهاية الخمسينيات، ثم أعقبها النظام الجمهوري الذي فتت مرتكز قوى العشيرة وانتزع منها المال والسلطة، وصولاً إلى نظام البعث الذي لا يؤمن بالعشائر ووجودها، على رغم استخدامه لها وتسميه شيوخ جدد في مراحله المتأخرة".
وتابع، "أما بعد 2003، مزقت الأحداث والنزاعات الطائفية عدداً من أواصر المجتمع ومنها الصلة العشائرية في الأرياف، ودفعت الأحداث وغياب الأمن والقانون إلى توجه الأفراد نحو العشائرية وتعزيز وجودها، وعلى رغم تفتت مراكز قوى العشيرة الواحدة وتعدد مرؤوسيها، إلا أن الظاهرة بدأت بالتمدد والتوسع حتى وصلت إلى المدن التي بدأت تحتكم للعشائر بديلاً عن القانون في حل مشكلاتها العامة والخاصة".
ويرى التميمي أن العشائر لم تسلم من براغماتية السياسي العراقي المقتنص والمستثمر للفرص، مبيناً أنه "لسنين طويلة لعب السياسي على وتر الطائفية ليصدر نفسه ممثلاً ومدافعاً عن المذهبية والعرقية، حتى وجد في العشائرية وسيلة جديدة يحاول استثمارها في سبيل تحقيق غاياته".
استغلال النفوذ
وأصبح للعشائر دور كبير في النفوذ السياسي إذ إن بعض ممثليها تحولوا إلى واجهات لسياسيين لا سيما أثناء الدعاية الانتخابية، إذ يقول المتخصص في مكافحة الفساد سعيد ياسين، "كما هو ملموس فإن بعض العشائر بات لها نفوذ سياسي، بل ومسلح، ووصل في كثير من الأحيان إلى استغلال النفوذ الاجتماعي للتأثير في المشاريع الاستثمارية وابتزازها مع مشاركة بعضهم الآخر في حماية مهربي المخدرات وتهريب النفط الخام".
وبحسب ياسين، "أصبح كثير من السياسيين اليومين يجاملون أفعال بعض العشائر لأنهم أصوات انتخابية، وكثير منهم (أي من أبناء العشائر) يلجأون إليهم بغض النظر إن كان هذا السياسي عليه شبهات فساد، وبلا التفات إلى تضخم أمواله وكيف جمعها".
وشدد على أنه "من الأهمية القصوى أن يلجأ شيوخ العشائر إلى وضع مجموعة قواعد، منها رفض الفساد والمفسدين وعدم حمايتهم ومنع الترحيب بهم في مجالسهم، ورفض تزويجهم ومساءلتهم عن الفساد والإشارة لهم بذلك، ولا يفوتني أن كثيراً من العشائر والقبائل العراقية لها مواقف وطنية مشرفة".
حال سلبية
ومن السلبيات التي انتشرت خلال الأعوام الماضية وجود "الدكة العشائرية" التي يقصد بها رمي البيت أو أي شيء تابع للشخص المدان عشائرياً بالرصاص والكتابة على منزله أو محله وأحياناً تصل إلى إخوته بأن "البيت مطلوب عشائرياً" أو "البيت لا يؤجر ولا يباع لأنه مطلوب دم"، إذ يلحقها كسره من العشيرة، وعلى رغم تجريم السلطات العراقية لهذا الفعل ووصفه بالعمل الإرهابي إلا أن بعض المناطق تشهد أحياناً هذه السلبية التي تزعزع أمن المواطنين وسلامتهم.
وكانت المحكمة الجنائية المركزية في رئاسة استئناف بغداد الرصافة، أصدرت الإثنين الماضي، حكماً بحق مدانين اثنين بالسجن لمدة 15 سنة على كل واحد منهما عن جريمة (الدكة العشائرية).
وقال المركز الإعلامي لمجلس القضاء الأعلى في بيان إن "المدانين اعترفا بإطلاق النار بواسطة السلاح والرمانات اليدوية على منزل أحد المواطنين في المنطقة بقصد الدكة العشائرية، أصيب على إثرها شقيقه الذي كان داخل المنزل".
وأضاف أن "الحكم بحقهما يأتي استناداً لأحكام المادة الرابعة/1 وبدلالة المادة الثانية/ 1و7 من قانون مكافحة الإرهاب رقم 13 لسنة 2005".
وفي هذا السياق، شدد الباحث القانوني، علي التميمي، على أنه بموجب توجيه مجلس القضاء تعتبر "الدكة العشائرية" عملاً إرهابياً تطبق عليه مادة 4 من قانون مكافحة الإرهاب وذلك لانطباق التعريف الوارد في مادة 2 من هذا القانون على هذه الأفعال التي تحدث الرعب والخوف في نفوس الناس.