ملخص
أدت القلاقل السياسية في دلتا النيجر إلى ذبذبة كبيرة في إنتاج نيجيريا، ومن ثم تذبذب معها دور النفط في الناتج المحلي والإيرادات الحكومية
احتفلت نيجيريا بيوم استقلالها عن بريطانيا الأحد الماضي، ولكنها تحولت من الاعتماد على بريطانيا إلى الاعتماد على النفط والغاز، فقد أعلنت نيجيريا استقلالها في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 1960، وتأسيس جمهورية نيجيريا الفدرالية، وهي الآن تعتمد على النفط والغاز بشكل كبير.
وعلى رغم أن النفط معروف في مناطق دلتا النيجر منذ آلاف السنين، حيث كان يطفو على سطح الماء في البحيرات والأنهار، أو يتجمع في سبخات خاصة فيه، تماماً كما كانت الحال في البلاد الأخرى، وعلى رغم محاولة بعض الأوروبيين استغلال هذه السبخات منذ أكثر من 120 عاماً، إلا أن النفط لم يكتشف تجارياً إلا في عام 1956، ثم انضمت نيجيريا إلى منظمة "أوبك" في عام 1971. ونيجيريا هي أكبر دولة في "أوبك" سكانياً، إذ يبلغ عدد سكانها نحو 214 مليون نسمة، وهي أكبر منتج نفط في أفريقيا، وتنتج الغاز، وتصدر الغاز المسال.
الاقتصاد النيجيري هو الأكبر في أفريقيا، وعدد سكان نيجيريا الأكبر أيضاً. وبالنظر إلى تاريخ نيجيريا ووضعها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والديني والبيئي، نجد أن كل مجال من هذه المجالات يمثل حالة كلاسيكية لما يدرس في الجامعات ويركز عليه الباحثون، نيجيريا مثل الهند، تجمع كل العجائب والمتناقضات، إلا أن مشكلتها الرئيسة هي اعتمادها الكبير على النفط والغاز.
ويعاني الباحث في آثار قطاع النفط والغاز في المجتمع والاقتصاد من مشكلات كثيرة، وهذا يعني صعوبة الوصول إلى قواعد أساسية تبنى عليها سياسات حكومية يمكنها تحقيق تنمية اقتصادية حقيقية.
مثلاً، ما أثر قطاع النفط والغاز في الناتج المحلي؟ العلم والمنطق يحتم أن الجواب يتمثل في أرقام واضحة ومحددة، ولكن هذا لا يمكن أن يحصل في نيجيريا لأسباب عدة أولها أن جزءاً لا بأس به من النفط تتم سرقته في منطقة الدلتا كثيفة الغابات، كثيرة الأنهار، المسكونة من قبائل تختلف إثنياً ودينياً ولغوياً واقتصادياً عن شمال أوشرق نيجيريا، كما أنها بعيدة من مركز الحكم بنحو 600 كيلومتر.
هذا النفط المسروق لا يدخل في الناتج المحلي الرسمي لنيجيريا، ولكن في الواقع هو جزء منه، لأن النفط المسروق ينعش اقتصادات مناطق عدة في الدلتا، ومن ثم فإن دور النفط في الاقتصاد النيجيري أكبر من المعلن رسمياً.
أضف إلى ذلك أن أغلب البيانات المتاحة هي للنفط الخام، ولا تشمل الغاز والسوائل الغازية، وأحد أسباب ذلك أن حصص "أوبك" تركز على النفط الخام من جهة، ولأن "صندوق النقد الدولي" و"البنك الدولي" ينظران إلى إيرادات النفط الخام عندما يقدمان تمويلاً أو دعماً لنيجيريا، كما أن البيانات المتاحة للحكومة الفدرالية لا تشمل حكومات الولايات والحكومات المحلية، وهذا يؤكد على أن دور النفط والغاز في الاقتصاد النيجيري أكبر من المنشور.
وهناك أمر آخر لا يقتصر على نيجيريا، وإنما يشمل كل دول "أوبك"، وهو تصنيف الصناعات التي تستخدم النفط والغاز كمدخلات على أنها ضمن القطاع الصناعي غير النفطي، وهذا يظهر أن اعتماد هذه الدول على النفط والغاز أقل، ولكن الحقيقة غير ذلك.
والواقع أن القلاقل السياسية في دلتا النيجر أدت إلى ذبذبة كبيرة في إنتاج نيجيريا، ومن ثم تذبذب معها دور النفط في الناتج المحلي والإيرادات الحكومية لدرجة أنه في بعض الفترات تكون مساهمة النفط أربعة في المئة وفي أحيان أخرى 10 في المئة. وهذا يبين صعوبة تعامل الباحثين مع هذه البيانات.
وأسهمت الإعانات الحكومية لكافة أنواع الوقود في تشويه البيانات، إذ إن انخفاض أسعار البنزين أسهم في تهريبه إلى الدول المجاورة، ولكن في الإحصاءات الرسمية تظهر المواد المهربة على أنها استهلاك داخلي، وسيناقش هذا الموضوع أدناه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إنتاج وصادرات نيجيريا
نيجيريا حالة خاصة في أسواق النفط لأسباب عدة، ليس لأنها أكبر اقتصاد أفريقي وأكبر دولة نفطية في أفريقيا، وليس لأن لديها أكبر احتياطيات غاز في أفريقيا، ولكن بسبب نوعية النفط الذي تنتجه وموقعها الجغرافي، فكل النفط الذي تنتجه نيجيريا تقريباً من النوع الحلو، وأغلبه من النفط الخفيف، إلا أن نفطها المتوسط الحلو هو المرغوب في المصافي العالمية، موقعها الجغرافي جعلها قريبة من أوروبا والولايات المتحدة، وبعيدة من آسيا، حيث النمو الحالي والستقبلي.
كميات إنتاج نيجيريا وصادراتها متقلبة بشكل كبير، الأمر الذي جعلها تنتج أقل من حصتها المحددة من قبل "أوبك" من جهة، وجعل بيوت التجارة العالمية تأخذ احتياطياتها بشأن هذه التقلبات من طريق افتراض أنها ستنتج الحد الأدنى دائماً، وهذا يعني أن أثر انخفاض صادرات النفط النيجيري أقل من أثر انخفاض الإنتاج في دول أخرى مستقرة، وهذا يفسر لماذا لا تتأثر أسعار النفط بخسارة جزء من النفط النيجيري أو الليبي.
مع زيادة إنتاج النفط الأميركي بسبب ثورة النفط الصخري، لم يستطع المنتجون الأميركيون تصديره بسبب قرار رئاسي من عام 1974، يمنع تصدير النفط الخام الأميركي، نتج من ذلك أن زيادات الإنتاج من النفط الصخري حلت محل الواردات من النوعية نفسها، وهذا أدى إلى انخفاض واردات النفط الأميركية من نيجيريا ما بين عامي 2010 و2014، بنسبة 93 في المئة، لهذا كانت نيجيريا أكبر الخاسرين من ثورة النفط الصخري.
عندما حاولت نيجيريا إيجاد أسواق جديدة، اصطدمت بثلاثة أمور، أولها أن عليها منافسة دول "أوبك" الأخرى في أسواقها التقليدية، وثانيها أن نمو الطلب على النفط في أوروبا محدود، وثالثها أن الوصول إلى الأسواق الآسيوية يعني عبور قناة السويس، وهذا يرفع تكاليف النفط النيجيري فلا يمكنه منافسة النفط الخليجي في آسيا، وحتى عندما أتيحت الفرصة لنيجيريا في آسيا، وقعت إدارة أوباما الاتفاق النووي مع إيران التي زادت إنتاجها من النوع نفسه الذي كانت نيجيريا ترغب في تصديره إلى آسيا.
ولكن شيئاً فشيئاً، وبتخفيضات معينة، استطاعت نيجيريا التصدير إلى الهند لبضع سنوات، إلا أن الصفعة هذه المرة لم تأت من الولايات المتحدة وإنما من روسيا. بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا وبيع النفط الروسي بأسعار مخفضة، زادت الهند وارداتها من روسيا على حساب دول عدة، كان أولها نيجيريا. القرار كان اقتصادياً بحتاً ولا علاقة له بالسياسة. وما زال المرور بقناة السويس مكلفاً، ولا تستطيع نيجيريا أن تجاري التخفيضات الروسية.
المثير في الأمر أن الولايات المتحدة خفضت وارداتها من نيجيريا إلى مستويات منخفضة جداً وأحياناً مرت أسابيع من بدون وصول ناقلة واحدة إلى الموانئ الأميركية، إلا أنه في هذا العام زادت واردات الولايات المتحدة من نيجيريا بنحو ثلاثة أضعاف، والسبب هو أن العقوبات الأوروبية-الأميركية المفروضة على روسيا جعلت الدول الأوروبية تشتري مزيداً من النفط النرويجي، فتخلت الولايات المتحدة عن وارداتها من النرويج لصالح الأوروبيين، وعوضت عنها بزيادة الواردات من نيجيريا في وقت كانت هناك سفن محملة بالنفط النيجيري تبحث عمن يشتريه.
والأكثر إثارة أن هناك عدد كبير من المهتمين وبعض المحللين والخبراء يرون أن إنتاج النفط الصخري الأميركي وصل إلى ذروته وسيبدأ بالتناقص. إذا حصل هذا فإن أكبر المستفيدين هي نيجيريا، فمن ناحية ستنخفض صادرات الولايات المتحدة التي تنافسها، ومن ناحية أخرى ستزيد واردات الأخيرة من نيجيريا.
إعانات الوقود
قصة إعانات الوقود في نيجيريا يجب أن تدرس في الجامعات، بدأت الحكومات العسكرية في السبعينيات تقدم إعانات ضخمة للوقود، الأمر الذي جعل أسعار البنزين والديزل في نيجيريا ضمن الأرخص في العالم، وعندما حاولت الحكومة النيجيرية في عام 2012 التخلص من الإعانات، وهو عام ارتفعت فيه أسعار النفط بشكل كبير بسبب ما يسمى بالربيع العربي وخسارة صادرات النفط، خرجت تظاهرات عارمة وحصلت أعمال عنف أجبرت الحكومة على التراجع، وأعادت الإعانات.
والآن جاء بولا أحمد تينوبو رئيساً جديداً لنيجيريا، وكان من ضمن الأمور التي قام بها بعد أداء اليمين الدستورية في 29 مايو (أيار) الماضي هو إلغاء الإعانات على الوقود، نتج من ذلك تضاعف أسعار الوقود ثلاث مرات، وانخفاض الطلب على البنزين بأكثر من 15 في المئة، ولكن لم تحدث تظاهرات. لاحقاً قررت اتحادات العمال، بما في ذلك نقابات العمال في صناعة النفط والغاز، تنفيذ إضراب عام في الثاني من أكتوبر، الذي صادف يوم أمس الإثنين.
القضية هنا أن هذا الانخفاض الكبير في الطلب على البنزين غير معهود. فقد قامت دول عدة بتحرير أسعار البنزين، ولكن الطلب لم ينخفض بهذا الشكل المريع، وتبين أن السبب هو أن جزءاً كبيراً من البنزين يهرب إلى الدول المجاورة، فعندما ارتفعت الأسعار توقف التهريب، وهذا أدى بدوره إلى انخفاض واردات نيجيريا من المنتجات النفطية، الأمر الذي حسن من ميزان المدفوعات، وخفف العبء على الموازنة الحكومية، والدرس هنا أن الإعانات الحكومية للوقود على مدى عقود عنت في النهاية أن الشعب النيجيري دعم المهربين وشعوب الدول المجاورة.