ملخص
من إمدادات النفط إلى النفوذ الأوروبي في الشرق الأوسط... هذا ما تكشفه الوثائق التي رفعت عنها السرية عن موقف بريطانيا وفرنسا خلال حرب أكتوبر
في الذكرى الـ50 لاندلاع حرب أكتوبر (تشرين الأول) بين العرب وإسرائيل عام 1973، تتيح العودة إلى الوثائق الحكومية التي رفعت عنها السرية، فرصة لفهم مواقف الدول الحقيقية من الصراع وما كان يدور خلف الكواليس بين القادة والمسؤولين السياسيين. وفي هذا الإطار، سلطت صحيفة "الشرق الأوسط" الضوء على عدد من الوثائق السرية البريطانية والفرنسية، كشفت مخاوف ومساعي هاتين الدولتين خلال الصراع، من سبل التعاطي مع حظر النفط العربي إلى انحسار النفوذ الأوروبي في الشرق الأوسط.
بريطانياً، تكشف وثائق رسمية أن حكومة المحافظين بقيادة إدوارد هيث، التي كانت تتولى السلطة في المملكة المتحدة إبان حرب أكتوبر، كانت تخشى من أن يؤدي حظر النفط العربي إلى شل الصناعة والتسبب في ضرر واسع بالاقتصاد نظراً لاعتماد أوروبا بشكل كبير على إمدادات الشرق الأوسط، فضلاً عن استياء الحكومة من سردية خطأ سوقها اللوبي الإسرائيلي في الإعلام البريطاني في شأن موقف لندن الرسمي من الصراع في الشرق الأوسط.
التعاطي مع حظر النفط
ويكشف ملحق سري بمحضر جلسة لمجلس الوزراء عقدت في الثامن من نوفمبر (تشرين الثاني) 1973، أن الحكومة البريطانية كانت تستعد لبدء فرض ترشيد إمدادات النفط إلى محطات الوقود. وينقل المحضر الإحاطة التي قدمها مستشار دوقية لانكستر الوزير جون ديفيز (الوزير المسؤول عن العلاقات من المجموعة الأوروبية)، للحكومة في شأن مداولات مجلس وزراء المجموعة الاقتصادية الأوروبية خلال اجتماع عقد في وقت سابق من الأسبوع في بروكسل و"هيمنت عليه قضية النزاع بين العرب وإسرائيل وتداعيات ذلك على إمدادات أوروبا من النفط".
وبحسب المحضر، أبلغ ديفيز الحكومة "رغم أنه لم تظهر مؤشرات حتى الآن على أن نقصاً خطراً في الوقود يحصل في أوروبا، فإن الوضع غير مؤكد للغاية. نصف إمدادات النفط التي تصل في العادة إلى هولندا، يتم توجيهه لإعادة التصدير إلى ألمانيا الغربية وبلجيكا. وحكومتا هذين البلدين قلقتان جداً من احتمال أنه في حال استمر انقطاع إمدادات النفط عن هولندا، فإن الرأي العام قد يرغم الحكومة الهولندية على منع الصادرات، ولكن يبدو أن نقطة الأزمة لن يتم الوصول إليها قبل نحو 10 أيام".
وأوضح المحضر أنه على رغم تفكير الأوروبيين بترتيب مشاركة الإمدادات النفطية، "فإن الحكومة الهولندية أقرت في شكل غير علني بأن أي محاولة من قبل شركائها في المجموعة الاقتصادية الأوروبية لتحويل إمدادات النفط الخام إلى روتردام، في تحد للحظر العربي، سيكون أمراً بالغ الخطورة".
وتابع المحضر، "لكن في الوقت الراهن من المستحسن ألا تتم محاولة وقف التدفق الطبيعي للمواد البترولية بين الدول الأعضاء في المجموعة، ولكن الفرصة لا يجب أن تضيع من خلال تحويل تضامن المجموعة (الأوروبية) في خصوص هذه المسألة إلى فائدة، وذلك عبر الاحتجاج أمام الدول العربية على الاستخدام السياسي لسلاح النفط ضد أوروبا. لقد ذكر أن الدول المنتجة فوجئت وشعرت بالرضا لعدم وجود أي رد منسق من الحكومات المستهلكة في أعقاب الزيادات الأخيرة في الأسعار، ولكن لا يجب أن يتركوا للافتراض أن عملهم هذا لن يواجه تحدياً، ولكن في المقابل تم تسجيل أن الحكومتين الإيرانية والسعودية أوضحتا، رداً على طلباتنا، أنهما تنظران إلى هذه التطورات في ضوء تاريخ طويل من استغلال مصادرهما من قبل الدول الغربية".
وأشار ديفيز في إحاطته، إلى أنه "لا يجب النسيان أنه حتى بدايات الثمانينيات على أقل تقدير، عندما تبدأ إمدادات النفط من بحر الشمال بجعلنا في اكتفاء ذاتي إلى حد كبير، فإننا كبقية أوروبا سنواصل الاعتماد بشكل كبير على الشرق الأوسط"، مضيفاً "الدول العربية في وضع يتيح لها ليس فقط إزعاجنا بإرغامنا على ترشيد البترول وتحديد الواردات، ولكن أيضاً لشل الصناعة، والتسبب في ضرر واسع باقتصادنا وببطالة ضخمة".
اللوبي الإسرائيلي والإعلام
وأوضح المحضر أن الحكومة البريطانية كانت تشكو من تأثير اللوبي الإسرائيلي في الإعلام البريطاني ومن تقديمه موقف الحكومة من نزاع الشرق الأوسط على نحو غير صحيح، فقد حذر ديفيز من أن "هناك صدقية كبيرة يتم إعطاؤها لرواية الأحداث التي توحي بأن الحكومة خضعت لابتزاز منتجي النفط العرب من أجل تبني موقف خسيس بالنسبة إلى النزاع بين العرب وإسرائيل، في تجاهل للتعاطف الشعبي مع إسرائيل والقلق على استمراريتها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي هذا السياق، نقل المحضر عن ديفيز قوله، "تمت الإشارة إلى أنه على رغم أن المصالح الضرورية لأمن إسرائيل يجب أن تدعم، وعلى رغم أن وضعها كضحية لعداء عربي متواصل وتعرضها لهجمات متواصلة منذ إنشائها يجب أن يحظى ذلك بدرجة من التعاطف، ولكن أن يتم تقديم الدعم على هذا الأساس لكل عمل مبالغ فيه من الإسرائيليين، أو قبول وجهة نظرهم في شأن الأوضاع من دون نقد، لن يفيد كثيراً مصالحهم الضرورية أو مصالحنا. في الواقع، من مصلحتهم أن تكون هناك دول غربية قادرة على ممارسة تأثير في العرب. رغم ذلك، هناك لوبي كبير وفاعل يعمل في هذا البلد لدعم قضية إسرائيل. ومن الصعب أن يتم الاستماع إلى وجهة نظر متوازنة. من المهم أن يفهم المجتمع اليهودي وغيره أن التعاطف الشعبي مع إسرائيل سيتبخر بسرعة إذا جلب التصلب من جهتها تجاه تسوية سلمية أضراراً باقتصادنا من خلال عرقلة إمدادات النفط لنا".
وبحسب المحضر، تطرق رئيس الوزراء إلى الشق النفطي في ختام المناقشات قائلاً، "تتم المراقبة عن قرب لإمداداتنا النفطية، واللجنة الوزارية الخاصة بالاستراتيجية الاقتصادية ستراجع هذا الوضع في وقت لاحق اليوم. نوايا المنتجين العرب يتم التأكد منها (حالياً)، وهناك اتصال وثيق بشركات النفط. تحضيرات طارئة لتقييد استهلاك النفط في هذا البلد على وشك الاكتمال. ترشيد النفط يمكن أن يتم استحداثه خلال مهلة ثلاثة أسابيع في حال كان ذلك ضرورياً. قرار التوزيع (توزيع المشتقات النفطية) يمكن أن يتخذ خلال أيام قليلة". وأضاف "وزير التجارة والصناعة يجب أن يوزع ورقة بخصوص موقفنا من إمدادات النفط، ويشرح فيها الدرجة التي نعتمد فيها على النفط العربي، والضمانات التي تلقيناها، والإجراءات الاحتياطية المتخذة سواء في هذا البلد أو في بقية الدول المستهلكة".
مراقبة وقف إطلاق النار
إلى ذلك، عرضت صحيفة "الشرق الأوسط" محضراً لاجتماع "سري" عقدته الحكومة البريطانية في 23 أكتوبر 1973، قدم خلاله وزير الخارجية أليك دوغلاس – هيوم إحاطة لزملائه عن لقاء عقده مساء مع نظيره الأميركي هنري كيسنجر في لندن أثناء عودة الأخير إلى واشنطن بعد زيارته موسكو وتل أبيب.
وبحسب المحضر، روى دوغلاس – هيوم أن "كيسنجر قال إنه غير مستعد (لقبول) الابتزاز نتيجة الضغوط العربية، لكنه أقر بأن أوروبا ربما ستعاني بشكل أخطر بكثير من الولايات المتحدة، وهو يقترح إرسال ما وصفها برسالة تصالحية للدول العربية المنتجة للنفط وللرئيس المصري السادات يقول فيها إن إنزال عقوبات بالدول الأوروبية لا يخدم القضية العربية. سيشير أيضاً إلى أنه من دون المساعي الخيرة للولايات المتحدة سيكون من المستحيل الوصول إلى حل عادل لمشكلة الشرق الأوسط".
وفي شأن مساعي وقف إطلاق النار، نقل المحضر عن دوغلاس – هيوم قوله إنه "بدا واضحاً من محادثات الروس والأميركيين أنهم من خلال تركيز جهودهم على الوصول إلى اتفاق لوقف النار، فإنهم لم يفكروا كثيراً بالحاجة إلى من سيشرف عليه". لذلك حض نظيره الأميركي على "أن يتم الترتيب مع الأمين العام للأمم المتحدة الدكتور (كورت) فالدهايم على تقوية آلية الإشراف على الهدنة في الأمم المتحدة واستخدامها فوراً للإشراف على وقف النار والمساعدة في التعامل مع الصعوبات على الأرض".
المصريون لا يريدون السوفيات "مستشاراً وحيداً"
كما أبلغ وزير الخارجية الوزراء بحسب المحضر، أنه "بدا أن كيسنجر لا يحبذ عقد مؤتمر سلام. بدا أنه والقادة الروس يأملون في أن يجتمع العرب والإسرائيليون مع بعضهم في مفاوضات مباشرة، على أن تتدخل الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي عندما يكون ذلك ضرورياً للتقدم بالمفاوضات. أشار الدكتور كيسنجر إلى المزاج الحالي لدى الطرفين، وكان واضحاً أنه واع إلى أن مهمة إطلاق مفاوضات ستكون صعبة".
في المقابل، كشف محضر الجلسة الوزارية التي عقدت في الثامن من نوفمبر، أن المصريين كانوا يفضلون مؤتمر سلام أوسع نطاقاً، فقد نقل المحضر عن وزير الخارجية البريطاني قوله تعليقاً على المناقشات التي حصلت في القاهرة في السابع من نوفمبر بين الرئيس المصري أنور السادات وكيسنجر، إن "النية هي أن مؤتمر السلام يجب أن يكون بحضور الأمين العام للأمم المتحدة الدكتور فالدهايم، المتصارعون، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. لقد علمنا من المصريين أنهم يفضلون مؤتمراً أوسع نوعاً ما، بما أنهم لا يرغبون في أن يكون الاتحاد السوفياتي مستشارهم الوحيد، ولكن ليس من المستحسن لنا وللفرنسيين أن نحاول في الوقت الحالي أن نشارك في المؤتمر، على رغم أن هذا الاحتمال يمكن أن يثار في وقت لاحق".
انحسار النفوذ الأوروبي
فرنسياً، تكشف وثائق الأرشيف العسكري والدبلوماسي العائدة إلى حقبة اندلاع حرب أكتوبر عام 1973، أن مخاوف باريس من انحسار النفوذ الأوروبي في الشرق الأوسط بدأت منذ ذلك الحين مع تهميش الدول الاستعمارية السابقة خلال مفاوضات وقف إطلاق النار التي قادها بشكل أساسي حينها قطبا الحرب الباردة، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.
وسلطت صحيفة "الشرق الأوسط" الضوء على مجموعة من الوثائق الفرنسية المتعلقة بحرب أكتوبر، شملت تقريراً سرياً صادراً عن الأمانة العامة لوزارة الدفاع الفرنسية في 23 أكتوبر، يحتوي على "خلاصات" أولية عن الحرب نصت على أن "الخاسرين طرفان: الفلسطينيون لأنهم سيدفعون ثمن الترتيبات اللاحقة، والأوروبيون الذين أبقوا على الهامش وعانوا من الصدمة البترولية الأولى".
ويوضح التقرير أن التقييم الفرنسي خلص إلى أن "أياً من الطرفين (العرب وإسرائيل) ما كان مؤهلاً لهذه الحرب من غير مشاركة الدولتين الكبريين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي) وأن وقف الحرب كان أيضاً بين أيديهما".
ولعل المخاوف الفرنسية من تهميش الأوروبيين تظهر جلية في برقية أخرى وجهها السفير الفرنسي في القاهرة إلى الإدارة المركزية في 24 أكتوبر، عقب القرار 338 لمجلس الأمن الدولي الذي وضع حداً للحرب في ضوء تفاهم بين واشنطن وموسكو. ففي هذه البرقية، عبر السفير الفرنسي عن قلق من أن "يعمد والروس والأميركيون، باستناد كل جانب إلى (زبائنه)، إلى تحويل الشرق الأوسط منطقة مطلقة لتقاسم النفوذ بينهما" واستبعاد أوروبا.
وذكرت البرقية أن مصر، عندما أطلقت الأعمال القتالية كانت "تسعى إلى دفع الدولتين إلى الاهتمام بالشرق الأوسط بعد الخيبة التي أصابتها من غياب الاهتمام بنزاع عمره 25 عاماً إبان القمة التي عقدت (بين نيكسون وبريجنيف) في
أبريل (نيسان)". واعتبر السفير أن "دعوة الدول الكبرى للحلول محل الأطراف المعنية يعني التخلي طوعاً عن الاستقلال الحقيقي".
وخلصت البرقية إلى أن ما حصل تم على حساب الأوروبيين "حيث لم يتم التشاور معنا في موضوع وقف إطلاق النار، ولذا علينا أن نقوم بكل ما هو ممكن حتى نكون جزءاً من مفاوضات (السلام) من خلال التأكيد أن شيئاً يمكن أن يتم خارج الأمم المتحدة ومن غير تدخل مجلس الأمن".
ومن الأمور اللافتة التي كشفت عنها "الشرق الأوسط" في الأرشيف الفرنسي عن حرب أكتوبر، تقرير وصل إلى الخارجية الفرنسية من مصادر لم تكشف هويتها، وتضمن اقتراحاً "قدمه الزعيم الكردي مسعود بارزاني إلى الرئيس العراقي آنذاك (أحمد حسن البكر) بإرسال 2000 مقاتل كردي إلى الجبهة السورية"، لكن العرض بقي حبراً على ورق.