ملخص
باحث مصري يرصد كيف تفاعل عوام الناس مع نبأ عبور الجيش المصري للقناة وكتابات المثقفين عن المعارك.
في ساحات الحرب يدور القتال وتشتد المعارك تطول أو تقصر ليتحقق النصر في النهاية لواحد من الأطراف المتقاتلة، ولا تقتصر تأثيراتها في ميادين القتال، وإنما يكون لها أبعاد أخرى اجتماعية وشعبية بين عوام الناس الذين يحبسون أنفاسهم في انتظار انتهائها وعودة الأحبة سالمين أو رجوع الحياة إلى طبيعتها بعد تأثر طويل.
ويحتفظ تاريخ مصر الحديث بحرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، التي تأتي خمسينيتها هذا العام، بكونها المعركة الكبرى التي أعادت للبلاد الكرامة بعد أحداث نكسة 1967، ودائماً ما يهتم المتخصصون بشرح الجانب العسكري المرتبط بالحرب في مناسبات مختلفة، إلا أن الجانب الشعبي ورأي عوام الناس في الحدث لا يقل أهمية وإنما يبرز السياق السائد في البلاد.
دفع هذا المنظور الباحث والكاتب محمد سيد ريان إلى إصدار كتابه (الثقافة سنة 1973... سيرة شعبية لحرب أكتوبر)، إذ اعتمد على أرشيفات الصحف والمجلات الصادرة إبان فترة حرب أكتوبر والتي أصبحت حالياً مرجعاً يستند إليه عند التأريخ لأحداث هذه الفترة بكل تفاصيلها.
الكتاب الصادر حديثاً عن دار "المحرر" تزامناً مع مرور 50 عاماً على حرب أكتوبر تناول موضوعات عدة وأجاب عن تساؤلات مثل ما تصورات العمال والفلاحين للنصر وأهميته؟ وكيف صاغ المثقفون المصريون خطابهم الفكري أثناء وبعد الحرب؟ وما دور المثقفين العرب في مساندة المعركة؟ وكيف عبرت كتب المراسلين العسكريين عنها؟ وكيف تناولت مجلات الأطفال المصرية مثل "ميكي وسمير" حدث الحرب وقدمته لقرائها الصغار؟ وفي النهاية يقدم الباحث رؤيته الشخصية لأحداث الحرب للأجيال الجديدة التي لم تعاصرها.
العمال والحرب
في عدد ديسمبر (كانون الأول) 1973 قدمت مجلة "الطليعة " ملفاً تحت عنوان (رؤية شعبية لحرب أكتوبر) تم فيه استطلاع رأي عدد من العمال والفلاحين ومعرفة تصورهم ومشاعرهم عن الحرب، فتحدث عوض إبراهيم (عامل فني لا سلكي حينها) بفخر، "كانت هناك روح من جانب المواطنين ورغبة صادقة في عمل كل شيء لمساندة إخوانهم في الجبهة، فكان من الطبيعي أن تجد الناس في الطريق يشجعون الجنود الذين يقابلونهم ويحسون (يشعرون) بالفخر بجنودنا الذين رفعوا رأسنا في العالم وأعادوا لنا الاحترام الذي نستحقه والجديرين به".
بينما قالت دولت حفني (عاملة بشركة مصر الجديدة)، "كنت أتوقع المعركة في أي وقت وكذلك أتوقع النصر وهزيمة إسرائيل ولكن ليس بهذه الصورة فإسرائيل القاعدة الاستعمارية لأميركا قد هزمت شر هزيمة، كما أن موقف الدول العربية واتحادهم واستخدامهم سلاح البترول هز الولايات المتحدة وجعل الدول الغربية تقف بجوارنا من أجل مصالحها ولأننا انتصرنا".
بعض العمال المصريين تحدث حينها أيضاً عن أنه كانت هناك حالة من الإخلاص في العمل وزيادة الإنتاج حتى تستطيع البلاد مواجهة العدو، وفي الوقت ذاته كانت هناك مشاركات للعمال في المجهود الحربي إضافة إلى عملهم وقتاً إضافياً لزيادة الإنتاج والاشتراك في المقاومة الشعبية.
الفلاحون والحرب
على امتداد مصر من الشمال للجنوب سادت حالة عامة من الفرح والفخر والترقب منذ أن أعلن عن نبأ العبور إلى الضفة الشرقية من قناة السويس، فكل عائلة لا بد أن لها ابناً أو قريباً في المعركة، والجميع ينتظر ما ستسفر عنه الأحداث ويستوي في ذلك أرفع المناصب وأبسط الناس.
وعلى صفحات مجلة "الطليعة" جرى رصد حالة الترقب التي عاشتها القرى والمناطق الريفية المصرية، إذ يشعر الجميع بأنه يقدم دوراً حتى لو خارج نطاق العمليات العسكرية، فأعمال الفلاحة العادية أصبحت من أجل صمود البلاد وعدم حدوث أزمات، وسعي بعضهم إلى المساعدة في عمليات الدفاع المدني والتبرع بالدم لمساعدة الجرحى في المستشفيات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان محمد صقر مزارعاً مصرياً لا يقرأ ولا يكتب من قرية الدلاتون بمحافظة المنوفية، وشارك اثنان من أبنائه في الحرب أحدهما في سلاح المهندسين والآخر في الخدمات الطبية. وقال وقتها أيضاً "المعركة كانت مفاجأة لنا، لأن إحنا كنا نقول إن الريس (الرئيس أنور السادات) مش عاوز يحارب عشان خايف على أولادنا في الجبهة ولكن فوجئنا بالحرب".
وأضاف "اتهزينا أوي (تأثرنا جداً) لما سمعنا بيان العبور وعرفنا إن قواتنا رفعت العلم المصري على أرض سيناء، وحسينا إننا خلقنا من جديد، وأهل البلد ماكنش (لم يكن) لهم كلام غير عن المعركة وكل فلاح يشتغل في أرضه عشان المعركة".
المثقفون على خط الحرب
حفلت الصحف والمجلات المصرية منذ اندلاع الحرب بكتابات لكبار الأدباء والمثقفين عبروا فيها عن رؤيتهم للحدث ومشاعرهم وتصوراتهم في الأيام الأولى التي أعقبت نبأ العبور، واختلطت المشاعر وبعكس كلمات العوام البسيطة جاءت المقالات بكلمات منمقة رزينة تحمل إحساسهم بالحدث.
يرصد الباحث محمد سيد ريان أبرز من كتبوا عن الحرب في أيامها الأولى ومن بينهم الكاتب الحائز جائزة نوبل الراحل نجيب محفوظ، الذي سطر في صحيفة "الأهرام" 10 أكتوبر 1973 كلمات تقول "ردت الروح بعد معاناة طعم الموت ست سنوات، رأيت المصري خلالها يسير في الأسواق مرتدياً قناع الذل، يثرثر ولا يتكلم، يقطب بلا كبرياء، يضحك بلا سرور، يتعامل مع المكان وهو غريب، ويساير الزمان بلا مستقبل، من حوله عرب متقاربون وقلوبهم شتى، وأصدقاء من العالم يعطفون عليه بإشفاق لا يخلو من زراية، وعدونا يعربد".
واستكمل محفوظ "روح مصر تنطلق بلا توقع، وتحلق بلا مقدمات، تتجسد في الجنود، بعد أن تجسدت في قلب ابن من أبر أبنائها، تقمص في لحظة من الزمان عصارة أرواح الشهداء من زعمائها، واتخذ قراره، ووجه ضربته، ووقعت المعجزة، انتقل الجيش من الغرب إلى الشرق، بادر العرب إلى العروة الوثقى، ذهل الأصدقاء والأعداء، استرد المواطن عهود مجده وكبريائه، سارت مصر من عصر إلى عصر، ومن عهد إلى عهد، ومن موت إلى خلود".
وفي صحيفة "الأهرام" أيضاً بتاريخ 12 أكتوبر، كتب الأديب يوسف إدريس تحت عنوان الخلاص "بضربة واحدة تمت المعجزة، تحولنا من كائنات لا كرامة لها... كائنات كالسائمة إلى بشر ذوي كرامة، بضربة إرادة واحدة ردت إلينا كرامتنا وعادت إنسانيتنا".
كما كتب يوسف السباعي الذي كان يشغل منصب وزير الثقافة خلال هذه الفترة في افتتاحية مجلة "الثقافة"، "لم يكن عبور 6 أكتوبر مجرد عبور لأقوى الموانع العسكرية فحسب، بل كان عبوراً بالأمة من مرحلة اليأس والاختناق إلى آفاق المستقبل الرحب".
الصحافة العربية تدعم الحرب
رصد الكتاب أيضاً اهتمام الصحافة العربية بأحداث حرب أكتوبر باعتبارها انتصاراً يخص كل العرب وليس مصر فقط، وأشاروا إلى تكاتف الدول العربية ودعمها مصر، وحرص كثير من الكتاب آنذاك على المشاركة بكتابات تدعم الحدث.
وعلى سبيل المثال مجلة "العربي" الكويتية التي كانت ذائعة الانتشار خلال هذه الفترة جاءت افتتاحيتها متعلقة بحرب أكتوبر، إذ أشارت إلى أن المعارك التي اندلعت بين العرب وإسرائيل جاءت للتصحيح بعد حرب يونيو (حزيران) 1967 التي خضبت تاريخ مصر والعرب بصفحة جللها السواد.
بينما أصدرت مجلة "الآداب" البيروتية التي كانت من أبرز المجلات الثقافية في عددها الصادر نوفمبر (تشرين الثاني) - ديسمبر 1973 عدداً متكاملاً عن حرب أكتوبر يضم أهم ما كتبه الكتاب العرب في مختلف المجلات والصحف الصادرة خلال هذه الفترة، وتحدثوا عن أنهم استأذنوا الكتاب والمفكرين في إعادة نشرها في عدد تذكاري تحول حالياً إلى مرجع لهذه الفترة، خصوصاً أنه ضم مقالات ونصوصاً أدبية وأشعاراً ورؤى فكرية للحدث.
كما ضم العدد بيانات أصدرها كتاب ومثقفون وبرقيات أرسلوها لحكام ورؤساء، وكان من أبرز الكتاب في العدد سهيل إدريس ونزار قباني وأنطوان فرنسيس ورجاء النقاش وعلي أبو حيدر ومحمود درويش وأحمد بهاء الدين وغادة السمان.
المراسلون العسكريون على الجبهة
حضر المراسلون العسكريون على الجبهة لمتابعة الأحداث فترة الحرب وما سبقها، وحرصت معظم المؤسسات الصحافية الكبرى مثل "الأهرام" و"الأخبار" و"دار الهلال" و"روز اليوسف" وغيرها على وجود مراسليها الذين تحولت تجربتهم على الجبهة لاحقاً لواحدة من مصادر التعرف إلى تفاصيل هذه الفترة.
خصص الكاتب فصلاً للحديث عن المراسلين العسكريين الذين كانوا على الجبهة والذين أصدر بعض منهم لاحقاً كتباً رصدت وقائع هذه الفترة من خلال معايشتهم الحية لأحداثها في مواقع القتال وفي المناطق العسكرية الممتدة منذ أحداث النكسة، لتصبح هذه الكتب حالياً مراجع رئيسة يستند إليها عند الحديث عن فترة حرب أكتوبر، ومن أشهرها كتاب "العسكرية المصرية فوق سيناء" لحمدي لطفي عميد المحررين العسكريين، و"يوميات أكتوبر في سيناء والجولان" لعبده مباشر، و"الساعة 14.05" لصلاح قبضايا، و"حرب الساعات الستة" لعبدالستار الطويلة.
ومن بين من شاركوا أيضاً في حرب أكتوبر الكاتب والروائي جمال الغيطاني الذي صدر له كتاب "المصريون والحرب"، وتناول فيه جزءاً من رسائله الصحافية لصحيفة "أخبار اليوم" عندما كان مراسلاً عسكرياً على الجبهة خلال الفترة التي تضمنت حرب الاستنزاف ثم حرب أكتوبر وامتدت من عام 1969 إلى عام 1974، كما تناولت أعمالاً أدبية له أحداث الحرب مثل "حكايات الغريب" و"الرفاعي".
مجلات الأطفال
لا ينفصل الأطفال عن حدث جلل تنعكس أصداؤه في المجتمع بكامله مثل اندلاع حرب ولكن كيف يمكن تقديم هذا المفهوم بشكل مبسط لهم، كانت واحدة من أبرز الجوانب التي رصدها الباحث هي كيف قدمت مجلات الأطفال مثل "ميكي" و"سمير" أحداث الحرب ووقائعها للأطفال الذين عايشوا هذه الفترة وكيف أبرزت النصر وتجاوز الهزيمة للصغار.
ففي عدد مجلة "ميكي" 25 أكتوبر 1973 جاءت أكثر القصص المنشورة من وحي الحرب كما عرضت كلمات للمفكرين والأدباء والفنانين من أمثال نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ومحمد عبدالوهاب وأنيس منصور والشاعر صالح جودت الذي كان رئيساً لمجلس إدارة المجلة آنذاك.
كما أبرز العدد كلمة الرئيس المصري الراحل أنور السادات الشهيرة "إن تحرير الأرض مسؤوليتنا وتحقيق الشرف مسؤوليتنا كذلك فالأرض أرضنا والشرف شرفنا... من كل قلبي أوجه لكم تحية خاصة تحية الرجولة وتحية البطولة التي واجهتم بها العدو".
أما مجلة "سمير" فقد اهتمت أيضاً بصورة كبيرة بنشر أحداث عن المعركة وأهميتها وأصدرت سلسلة قصصية بعنوان "رجال لا يعرفون المستحيل من أجل القضية العادلة"، وفي العدد التالي جاءت القصة الرئيسة بعنوان "يوم النصر في حياة عصام" بطل المجلة الشهير، وقصة أخرى بعنوان "سمير والدفاع المدني" تشرح فنون الدفاع الشعبي، كما تضمن قصة للكاتبة نتيلة راشد الشهيرة بـ"ماما لبنى" بعنوان "كل مصري ينادي أنا ملك لبلادي".