ملخص
تحتل الأغنيات الوطنية مساحة مهمة من الوجدان الشعبي، لكنها تستغل دوماً للدعاية السياسية لتيار بعينه وتظل مرتبطة به على الدوام
على مدار الأيام الماضية كان الفنان المصري مصطفى كامل حديث الـ"كوميكس" والـ"ميمز" (المقاطع المضحكة والساخرة)، بعد مشهد عفوي طريف له أثناء ظهوره في برنامج تلفزيوني، حين كان يتحدث ببساطة وغرابة عن طريقة استلهامه كلمات ولحن أغنية "تسلم الأيادي" وكيف أقنع زملاءه المطربين بتسجيلها سريعاً في الاستديو.
و"تسلم الأيادي" واحدة من الأغنيات الوطنية الأكثر جدلاً في السنوات الأخيرة في مصر، إذ صنعت أولاً للتغني بإنجازات الجيش المصري في فترة الحماسة السياسية بعد إطاحة حكم جماعة الإخوان المسلمين المصنفة إرهابية في البلاد، إلا أنها بمرور الأيام أصبحت تعبر عن موقف سياسي بعينه، وتستخدم في الدعاية البحتة وفي الكيد السياسي بخلاف معناها الوطني الذي من المفترض أن يجمع الأطياف كلها التي تعمل من أجل الوطن، إنها نموذج متكامل الأركان يشرح فكرة تحول الأغنية الوطنية إلى وسيلة مباشرة للترويج لتيار وموقف أيديولوجي بعينه، لتثير فرقة كان من المفترض أن تزيلها.
كذلك دأب المرشحون لعضوية مجلس النواب في مصر على استقطاب الحشود من طريق مؤتمرات انتخابية، تتضمن أغنيات وأناشيد تتحدث عن خدماتهم لأهل الدائرة التي يعملون فيها، وتتميز الأغنيات في هذا السياق بالطابع الشعبي النابع من البيئة، سواء كان المرشح من صعيد مصر أو من مدينة ساحلية أو ريفية، حيث إن لكل فريق جوقته التي تمدحه على طريقتها.
الأغنية خطاب سياسي
لكن على جانب آخر قد تعبر الأغنية الوطنية عن موقف أكثر شمولاً من قضايا كبرى، إقليمية أو دولية، مثل الأعمال التي تتناول المعاناة الفلسطينية على سبيل المثال، وهي بدورها تلتهم النصيب الأكبر من أرشيف الغناء الوطني العربي بأعمال بأصوات كبار النجوم على مر العصور، وبينهم أم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، وكاظم الساهر، ولطيفة، وبالطبع السيدة فيروز، فتلك الأغنيات وحدت الصفوف ولمت الشمل حول رسالتها الداعمة للحق الفلسطيني في دولته وأرضه.
ومن خلال أنشودة لا تتجاوز مدتها دقائق، تخرج رسالة سريعة عاطفية معبرة بإيجاز، تتفوق على الخطابات السياسية الرنانة. فهي أعمال من المفترض أنها تصنع أساساً لتنمية الشعور بالهوية الوطنية، وتقترن دوماً بالوجدان الشعبي، ويتفق أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب بجامعة القاهرة، عماد عبداللطيف مع هذا الطرح، ويفنده بصورة أكثر عمقاً، مشدداً على أن "الأغاني لا تقوم بدور ترفيهي فحسب، حتى لو ادعت ذلك"، إذ يعتبرها بمثابة خطاب.
وفي رأي عبد اللطيف فإن الأغنيات الوطنية تمثل خطاباً "يسعى لبناء تصورات وأفكار وتصوغ رؤى وقيماً وتوجهات"، لكنها تتميز، من وجهة نظره، بأنها "لا تخفي غرضها بغطاء الترفيه والمتعة مثلما تفعل الأغاني العاطفية مثلاً، بل تصرح بوظيفتها الفكرية والأيديولوجية أحياناً، كما تحقق الأهداف المرجوة منها من طريق التقنيات الإمتاعية مثل الموسيقى الأصيلة المبدعة، والصوت الغنائي المؤثر، والكلمات المختارة بعناية لتحقق هدفها".
ويشير عبداللطيف، صاحب كتاب "لماذا يصفق المصريون"، إلى أن "العواطف جزء أساس من فكرة الغناء ككل"، مضيفاً "الأغنيات تحقق أغراضها بواسطة تعبيرها الدقيق عن عواطف الجماعة المستهدفة بها، فعلى سبيل المثال، خلال أكثر من 50 سنة، ظلت أغنية (زهرة المدائن) لفيروز حاضرة في الضمير العربي المقاوم للاحتلال، وما أتاح لـ(زهرة المدائن) هذه المكانة هي العوامل المشارة إليها سابقاً، من روعة في الكلمات واللحن والغناء، علاوةً بالطبع على الدفاع عن حق مشروع".
وبالعودة إلى الأغنيات الوطنية المعاصرة التي اشتهرت في مصر على سبيل المثال، فإن "تسلم الأيادي" التي طرحت في صيف 2013 على لحن راقص سهل الحفظ جعلها نشيداً سريع الانتشار، راج بشدة حتى في حفلات الزفاف، ولم تنافسها في الأعوام الأخيرة سوى أغنية أخرى بالمواصفات نفسها تقريباً هي "بشرة خير" 2014، التي غناها حسين الجسمي وردد فيها أسماء أغلب محافظات ومدن مصر، إذ يدعو فيها للمشاركة السياسية الإيجابية وذلك ترويجاً للعملية الانتخابية الرئاسية آنذاك، من خلال كلمات لأيمن بهجت قمر ولحن عمرو مصطفى.
وللجسمي أغنيات عدة تتغنى بحب البلاد بجانب "بشرة خير"، وإن كانت هي صاحبة الشعبية الكاسحة، وتحولت الأغنية مثل غيرها إلى لسان حال مؤيدي الرئيس عبد الفتاح السيسي واعتبرت أغنية دعائية لحملته حتى لو يتم الإعلان عن الأمر بشكل مباشر، وقد أداها حسين أكثر من مرة في احتفالات قومية بالبلاد، وأبرزها قبل خمس سنوات في حفل مرور 45 عاماً على ذكرى انتصار السادس من أكتوبر (تشرين الأول) بحضور السيسي الذي علق بالقول بعد أن انتهى النجم المحبوب من أدائها، "يا أستاذ حسين.. مجاتليش فرصة أقولك متشكر.. أنا باشكرك"، وهي تعود للحضور بقوة حالياً تزامناً مع الحملات الدعائية في موسم الاستحقاق الرئاسي في مصر.
الدعاية الانتخابية الغنائية
وإذا كانت موجة الأغنيات الوطنية قد برزت بشدة عقب ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011، وبينها أغنيات الثورة نفسها مثل "إزاي وصوت الحرية ويا الميدان"، إلا أن الحضور الأكبر بات محسوماً لأعمال بعينها، اشتهرت مع الزخم السياسي الذي تلى إزاحة جماعة الإخوان المسلمين عن الحكم بعد عزل الرئيس السابق محمد مرسي، وأصبحت تلك الأغنيات تلقائياً مرادفة للانتخابات الرئاسية في عامي 2014 و2018، اللذين شهدا فوز السيسي، ومن بينها "كمل جميلك"، و"مصر محتاجالك" لهاني شاكر، و"أبو الرجولة" لحكيم، و"شارك" لمحمد فؤاد، و"ألف شكر" لتامر عاشور، و"ابن بلدي" لرامي صبري.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وشهدت انتخابات الرئاسة لعام 2012 أيضاً أغنيات داعمة للفرق المتنافسة ومن بينها "مرسي حبيبنا" التي رددها محبو محمد مرسي، و"بسبعة ونص" التي غناها الفنان الشعبي الراحل شعبان عبد الرحيم للفريق أحمد شفيق، ومن المعروف أن عبد الرحيم كان قد أثار ضجة كبرى بعد أن غنى "أنا بكره إسرائيل" قبل حوالى 23 سنة، مؤكداً في الأغنية نفسها أنه يحب عمرو موسى، السياسي المصري المخضرم الذي كان يتمتع بشعبية كاسحة، إذ شغل منصب وزير الخارجية في مصر وكذلك منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية.
يقول أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب عماد عبد اللطيف، "الأغاني الوطنية بالطبع هي أداة للحشد والإدماج مثلما هي أداة لبناء الأفكار والتصورات، وليس مستغرباً أن تكون للأحزاب أغانيها وأناشيدها الخاصة المعبرة عن هويتها من ناحية، والداعمة لشعبيتها من ناحية أخرى". مضيفاً "رأينا كيف تتحول ساحات الدعاية الانتخابية في بعض الأحيان إلى عروض غنائية متواصلة، بسبب ما تتيحه الأغاني من خلق مشاعر مشتركة بين من يغنونها، وخلق إيقاعات حماسية تحفز على المشاركة والعمل".
المكايدة السياسية
وبعيداً من الأغنيات التي تتناول بشكل مباشر وصريح مرشحاً بعينه، فالكلمات ظاهرياً تبدو كلمات أغنيات وطنية عامة تحث المواطنين على الاحتفال بالديمقراطية والمشاركة في المشهد الانتخابي باعتباره عرساً سياسياً، لكن العقل الجمعي حولها إلى أغنيات دعائية سياسية من الدرجة الأولى، وأصبح التصنيف الأيديولوجي يتم وفقاً للأهواء الفنية، فالمزاج الغنائي ببساطة يمكن أن يحدد الهوية السياسية للمشاركين في العملية الانتخابية.
والكيد السياسي بالأغنيات له سوابق عديدة في التراث المصري، إذ لا يقتصر الأمر على الأغنيات الوطنية فقط، إنما حتى العاطفية منها تدخل في "المعمعة"، ومن أبرز الأمثلة هنا، سعي السياسي المصري، أحد زعماء حزب الوفد، مصطفى النحاس من 15 يونيو (حزيران) 1879 - 23 أغسطس (آب) 1965، وقف إذاعة أغنية "يا عواذل فلفلوا" التي قدمها فريد الأطرش في فيلم "آخر كدبة" مع سامية جمال مطلع خمسينيات القرن الماضي.
وبحسب ما يؤكده الناقد الفني طارق الشناوي فإن "هناك وقائع عدة تشير إلى أن المعاني والرسائل من الأغنيات والأعمال الفنية تتغير وفق التوجه الحكومي السائد في كل عصر"، لافتاً إلى أن "ما حدث هو أن النحاس صادر أغنية فريد الأطرش التي كانت تذاع بصفة مستمرة".
ويشير الشناوي إلى أن "السبب المعلن حينها هو أنها تتناقض والذائقة المجتمعية، في حين أن المسكوت عنه في ما يتعلق بالأسباب هو الأكثر قرباً للواقع، وهو أن بعض الوشاة أقنعوا النحاس باشا أن الأمر مقصود من خصمه اللدود حينها السياسي علي ماهر، حين كانا يتصارعان على رئاسة الوزارة في عصر الملك فاروق، وفي تلك الفترة قيل إن ماهر كان يؤلب الملك على حكومة النحاس حينها، وإن الأغنية هي لسان حاله مع مؤيديه الذين يغيظون رئيس الوزراء مصطفى النحاس، بالتالي تتكرر إذاعتها نكاية فيه، بل ظهر الأخير في مؤتمر جماهيري في ذلك الحين وهاجم فريد الأطرش بضراوة"، معتبراً أن "مستوى أغنياته في هبوط".
من الملك فاروق إلى عبدالناصر والسادات
وعلى ذكر الملك فاروق، فقد كان معروفاً عنه حبه للتقرب من نجوم الغناء في عصره، وبالطبع كان على رأسهم "كوكب الشرق" أم كلثوم التي ارتبطت أغنيتها الشهيرة "يا ليلة العيد آنستينا" منتصف أربعينيات القرن الماضي بالملك فاروق، حين حضر حفلاً أدت فيه الأغنية، وبدلت "كوكب الشرق" كلماتها تكريماً له "يعيش فاروق ويتهنى ونحيي له ليالي العيد"، بالتالي منحها بعدها "وسام الكمال" ولقب "صاحبة العصمة" الذي ارتبط اسمها به، وهو أمر كان قد حدث موقف مشابه له مع والده الملك فؤاد مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، حين أنشدت أم كلثوم قصيدة "أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا. ملك الفؤاد فما عسى أن أصنعا".
وحينما علمت أم كلثوم بأن الملك سيحضر حفل مؤتمر الموسيقى العربية الأول ويستمع إليها أثناء أدائها، طلبت من الشاعر أحمد رامي أن يغير بضعة ألفاظ كي لا تتهم بإهانة الذات الملكية، حيث جرى استبدال كلمة "موجعاً" في "هل في فؤادك رحمة لمتيم... ضمت جوانحه فؤاداً موجعاً" إلى "مولعاً".
اللافت أن أغنيات أم كلثوم للملك فاروق قد تصل إلى 15 أغنية، بينها أيضاً "اجمعي يا مصر أزهار الأمانى، يوم ميلاد المليك... واهتفي بعد تقديم التهاني، شعب مصر يفتديك"، حين ارتبط اسم أم كلثوم كثيراً بالنظام الملكي المصري وأصبحت مطربة الملك، وبعد ثورة الضباط الأحرار اتخذت أغنيات أم كلثوم طابعاً وطنياً بعض الشيء وإن لم يخل أيضاً من تمجيد شخص الحاكم والدعاية السياسية لنظامه، مثل أغنيتها "يا جمال يا مثال الوطنية"، و"حبيب الشعب".
التحولات نفسها أيضاً تنطبق على أعمال "موسيقار الأجيال" محمدعبد الوهاب، الذي كان يلقب كذلك بموسيقار الملوك والأمراء ومطرب القصر الرسمي، إذ كان صوتاً دعائياً رئيساً للمك فاروق ومن بين أبرز الأعمال التي امتدحه فيها "أنشودة الفن والشباب"، وبالطبع تواصلت الأغنيات الوطنية ذات الطابع الدعائي بعد ثورة يوليو (تموز)، ومن بينها "جمال النور والحرية"، و"ناصر كلنا بنحبك"، و"أكبر حب".
وكان عبد الوهاب أيضاً وراء خروج عدد من "الأوبريتات" الوطنية التي طبعت حقبة جمال عبد الناصر، وكانت لسان حال المؤيدين للنظام السياسي حينها، ومن بينها "الجيل الصاعد"، و"الوطن الأكبر"، وهي أغنيات لا تزال حاضرة في الذاكرة القومية، إذ شارك فيها عدد كبير من مطربي العالم العربي، من بينهم شادية وصباح ووردة ونجاة وعبد الحليم حافظ.
ويعد عبد الحليم حافظ أكثر من غنى لثورة يوليو وزعيمها، وبين أعماله "العهد الجديد"، و"ناصر يا حرية"، و"احنا الشعب"، و"حكاية شعب"، وقائمة أخرى تعد من أكثر الأغنيات الوطنية عذوبة واستمرارية وشعبية قائمة حتى اليوم، كما ارتبط اسم عبد الحليم حافظ أيضاً بانتصارات أكتوبر، وغنى مباشرة للرئيس الراحل محمد أنور السادات "عاش اللي قال".
لكن السادات بشكل عام، من أقل الزعماء الذين ارتبطت الأغنيات باسمهم، ربما لأنه حكم البلاد في فترة حرب الاستنزاف إبان نكسة يونيو 1967، ولكن الحس الوطني اشتعل بعد نصر أكتوبر 1973 وأغلب الأعمال كانت تتغنى بالنصر والجنود، وقليلة هي الأغنيات التي توجهت إلى اسمه مباشرة، وبينها "تعيش يا سادات" لسيد مكاوي، و"يا سادات يا قائدنا" لفايدة كامل، إضافة إلى "مصر السادات"، و"عدينا يا ريس".
موسيقى الهامش تختار تيارها السياسي
ما بين العالمين كانت هناك فترة النكسة التي شهدت أعمالاً وطنية كثيرة قد يكون أشهرها "عدى النهار" لعبد الحليم حافظ من كتابة عبد الرحمن الأبنودي، وهي الفترة التي ظهرت فيها أيضاً ثنائية أحمد فؤاد نجم، والشيخ إمام، حين انخرطا منذ هذا الوقت في تقديم أعمال سياسية متمردة لاذعة ومنها "الحمد لله خبطنا"، و"بقرة حاحا"، فقد سبحا ببساطة ضد التيار الفني السائد، وبالطبع لم يسلما من الاتهامات بتكدير السلم العام وطوردا بالاعتقالات، واعتبرا من نجوم الهامش، وتبنت خطابها كثير من التيارات السياسية، لا سيما اليسار المصري.
اللافت أن تجربتهما الغنائية، كانت ملهمة لثوار ميدان التحرير في يناير 2011، حين استحضر المتظاهرون أعمالهما وتغنوا بها، إذ كانت هي الأكثر مواءمة للأجواء الثورية، وظلت أغنياتهما الوطنية تعبر عن الرأي السياسي المعارض الذي يقف دوماً على يسار السلطة.
كذلك صُنفت أغنيات الموسيقار سيد درويش الوطنية على أنها تنتمي كذلك للتيار المعارض، فالفنان الذي فارق الحياة في عام 1923، عرف بكونه صوتاً مهماً من أصوات ثورة 1919 ضد الاحتلال الإنجليزي بخاصة بأغنيته "يا بلح زغلول" التي كانت تدعم الزعيم الوطني سعد زغلول، وحتى الآن لا تزال أعماله التي انتقدت الأوضاع السياسية والاجتماعية في مصر مطلع القرن الـ20 يتم استدعاؤها للتعبير عن الرفض والمقاومة، وبينها "أهو ده اللي صار"، و"قوم يا مصري"، و"أفندية"، و"شد الحزام".
عصر الأوبريتات الوطنية
لكن عصر الرئيس السابق محمد حسني مبارك يعد الأكثر إنتاجاً لأغنيات وطنية ظاهرياً، لكنها ذات طابع دعائي متفق عليه لفترة حكمه وربما السبب يعود إلى طول مدة بقائه على كرسي الرئاسة الذي يصل لثلاثة عقود، وكانت تشتد الوتيرة في فترات الأزمات كمحاولة اغتياله الفاشلة، أو في فترات الاستفتاء الرئاسي، وفي ما بعد، تحول الاستفتاء إلى انتخابات وصاحبته الأغنيات الدعائية ذاتها، ومنها "أول طلعة جوية" التي انتقدت لأنها اختصرت ملحمة نصر أكتوبر في الطلعة الجوية الأولى التي كان مبارك قائدها، واعتبر ذلك تفخيماً مبالغاً فيه وتمجيداً لشخصه باعتباره الرئيس الحاكم.
ومن بين الأغنيات التي كانت تتكرر دوماً لمبايعته أيضاً، "اخترناه"، الأوبريت الشهير للغاية الذي شارك فيه كبار المطربين، و"60 مليون فدائي" لعمرو دياب، و"عاشت بلادنا" لمحمد ثروت، و"يا ريسنا" لشيرين عبد الوهاب التي قالت إنها أجبرت على تقديمها من قبل المؤسسة الإعلامية وقتها، وذلك احتفالات بشفاء الرئيس حينها من وعكة صحية ألمت به.
فيما قال الموسيقار الراحل عمار الشريعي إنه كان يمسك العصا من المنتصف في ما يتعلق بالأغنيات الوطنية التي قدمها لا سيما "اخترناه" و"أول طلعة جوية"، إذ كانت مناسبة للظرف آنذاك، مشيراً إلى أنه لم يندم أبداً كذلك على مشاركته في تقديم أوبريتات ذكرى نصر أكتوبر حتى لو ارتبطت بحقبة مبارك.
لكن المؤكد أن عشرات الأغنيات الوطنية التي قدمت في عصر مبارك استخدمت بشكل مباشر وضاغط للدعاية السياسية لنظامه، إذ كانت تعرض باستمرار في ذكرى ميلاده، وأيضاً حينما يتعرض لمشكلة صحية ويسافر للعلاج خارج البلاد، وارتبطت بالتالي باسمه شخصياً، وإن كانت مغلفة بالطابع الوطني، واعتبرها كثيرون عنواناً لنظامه ومؤيديه بغض النظر عن مستوى جودتها الفنية التي كانت تتفوق على كثير من الإنتاجات الحديثة المماثلة خصوصاً تلك الأغنيات التي اتخذت طابعاً قومياً، فيما يرى آخرون أن هذا الارتباط أفسد الأغنيات الوطنية وجعل العلاقة بها مشوشة.
من جهته، يرى أستاذ تحليل الخطاب، عماد عبداللطيف، الصورة بشكل أشمل، ويوضح أن "الأغاني الوطنية هي جزء من الذاكرة الجمعية للشعوب، وحين تقترن أغنية بلحظة تاريخية ما، تتحول إلى أيقونة لهذه اللحظة التاريخية"، ضارباً المثال بأغنية "الحلم العربي" التي ارتبطت بالدعم العربي الواسع للانتفاضة الفلسطينية الثانية، واكتسبت بمرور الوقت دلالة خاصة، بوصفها تعبيراً عن دعم الحق الفلسطيني، وأصبحت إذاعة الأغنية أو ترديدها دلالة على موقف الشخص من القضية الفلسطينية.