ملخص
رواية "ستونر" ترسم مسارا شخصيا وجماعيا وتستعيد الازمة التي هزت الولايات المتحدة
الكاتب الأميركي جون ويليامز (1922-1994) وإن يكن مقلاً، على غير مألوف الكتّاب، فإنه ترك بصمة بارزة في الرواية الأميركية لمنتصف القرن الـ20، لا سيما روايته "ستونر" الصادرة بترجمتها العربية حديثاً عن دار أثر، وقد أنجزتها الكاتبة إيمان حرز الله. ومن المعلوم ان الكاتب نال عن روايته "أوغستوس" جائزة الكتاب الوطني لعام (1973)، في حين لقيت رواية "ستونر" صدى حسناً لدى القراء، وترجمت إلى لغات العالم الحية، ولا تزال تعيد الاعتبار إلى المؤلف الذي انطوى باكراً، من دون استكمال مشروعه الأدبي.
في مستهل الرواية يضع الكاتب إطاراً زمنياً لأحداثها في مطلع القرن الـ20 (1910)، يؤرخ فيه لولادة بطله السلبي، ويليام ستونر، أو ليروي عبره بعضاً لازماً من سيرته، من المراهقة والشباب، مروراً بسن النضج، والكهولة فالموت. ويحكي كيف أن هذا الفتى، المولود من عائلة مزارعين فقيرة، كان قد أبصر النور عام 1891، وبلغ الـ19 من عمره، مرهقاً من العمل مع والديه في المزرعة، ومحتاراً في الوجهة التي ينبغي له سلوكها والمهنة التي تناسبه. وإذ يفاجئه الأهل باختيارهم له فرع كلية الزراعة بجامعة كولومبيا، على رغم الضيق المادي الذي هم فيه، على أن يقيم لدى قريب لهم، يعينه في أعمال مزرعته مقابل السكن، ينصاع لهم في البداية. ولكن الشاب، المتوقد المشاعر والخيال، سرعان ما يستشعر ميلاً شديداً إلى الأدب، نبهه إلى حاله وحمله على تبديل مسار اختصاصه الجامعي. وبناء عليه، انتقل الفتى إلى جامعة ميزوري للآداب، وهناك انفتح لستونر باب للجد والشقاء، سوف يشكل متن الرواية، وعقدتها الأساسية.
مكانة وسط التحديات
من السمات الإبداعية التي تمتاز بها رواية ستونر، والتي توجب الالتفات إليها، حيناً بعد حين، مقدرة الكاتب ويليامز على رسم مسار شخصياته، كل بحسب إسهامه في الفعل أو رد الفعل، تبعاً لفلسفة كل منهم، أو لتركيبته النفسية الأولية التي نشأ عليها من الصغر، والتي تحكم سيرته على نحو حاسم ونهائي، فعلى سبيل المثال، لم تبدل مهنة التعليم التي مارسها ستونر في جامعة ميزوري من خلتي الجدية والمثابرة اللتين كان قد اكتسبهما من خلقية المزارع التي ربيَ عليها يوم كان في كنف عائلته المجاهدة موسماً بعد آخر. وإنما أعانته هذه الخلقية على جبه التحديات، وتحصيله العلمي، والتبحر من مادة اختصاصه (تأثير الأدب اللاتيني على الشعر الرومنطيقي الإنجليزي)، وصولاً إلى نيله الدكتوراه عام 1921، وشروعه في التدريس بالجامعة نفسها، وزواجه من فتاة تدعى "اديث" ذات أصول بورجوازية أصابها الفقر، لكنها بقيت على أمجادها وأحلامها، حتى الامتناع عن تربية ابنتهما الوليدة، وهي لا تزال طفلة، وتركها في عهدة والدها ستونر.
من الأمور اللافتة، وغير الشائعة في الرواية الحديثة، تسليط الضوء على واقع الحياة الأكاديمية، في بلد من البلدان، وإن حدث فإنه لا يظهر على النحو الذي جرى على يد الكاتب جون ويليامز، في هذه الرواية، إذ بين فيها كيف أن العلاقات بين أساتذة الجامعة (ميزوري على سبيل المثال) في عشرينيات القرن الماضي، شابها الفساد، وأن المفاهيم التربوية السليمة اندثرت أو تكاد لتحل بديلاً منها المحاباة، والمصالح الشخصية، والادعاء الفارغ، والتزلف، ولعل هذا ما عاناه ستونر، العصامي، والمتفاني في تعليمه، والزاخر معرفة بالتراث اللاتيني المتوسطي وأثره في شعر الرومنطيقيين، والمتشدد في أحكامه على طلابه، وقد بات أستاذاً مشرفاً على أطاريح بعضهم، ومنهم الطالب ووكر. إذ لم يرق لرئيس قسم اللغة الإنجليزية في الكلية، المدعو "لوماكس"، إصداره تقييماً سلبياً (بالفشل) لأداء الطالب ووكر، بعد فشله المبين في الإجابة عن أسئلة متعلقة بالمادة التي يزمع التخصص فيها.
والأدهى من ذلك أن سياق الرواية يوضح كيف أن روح الانتقام لدى لوماكس، باعتباره صاحب السلطة الأكاديمية، بات سائداً ما عداه، حتى ليمكن القول إن الأخير ما برح يتصيد الهفوات الصغيرة لدى ستونر من أجل استبعاده من التدريس. ولولا بقية من أمل، وقدرة فطرية على التسامي والنظر في جمالات الوجود ومنها الحب، لكان ستونر أنهى حياته يائساً، ذليلاً، وآسفاً على تضحياته الكثيرة، في سبيل العلم وطلابه على السواء.
إخفاق وحب خاطف
إذاً، يصور لنا ويليامز بطله السلبي، ستونر، واقعاً في مضمار حياته بين ثنائيات ضدية تكاد تكون قاتلة. فما يكاد يحرز نجاحاً باهراً في مستهل حياته الجامعية أستاذاً للأدب الإنجليزي، حتى يتوفى والده، ولا تلبث والدته أن تسلم الروح، ليستشعر وحدته في الدنيا. وما كاد يتزوج بالفتاة ذات الماضي البورجوازي، إديث، آملاً في بعض الاستقرار والهناء، حتى يصدم بفتورها، وخيبتها من الفقر وضيق أحواله، على رغم وضعه المهني الثابت، أستاذاً جامعياً. وقد بلغت صدمته مداها لما عزمت على مغادرة المنزل والإقامة لدى أختها، تاركة ابنتها الوليدة غريس، في عهدته، ليعنى بها، إلى جانب عنايته بتحضير مقرراته اليومية وأبحاثه التي بالكاد أنجز منها كتاباً كاملاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي مقابل الصدمة والحرمان اللذين حلا بستونر، بسبب علاقته الزوجية الفاشلة التي كان قد استشرف نذرها من زمن، ألفى نفسه منساقاً إلى تجربة عشقية وإن تكن قصيرة، فإنها عوضته قليلاً عما أصابه، إذ علق فؤاده بإحدى طالبات الشهادات العليا، الآنسة دريسكول، التي كانت تخطط لمثل تلك اللحظة وترسم السبيل لنيل الحظوة عنده، على ما بدا من سياق الرواية. بيد أن بيئة الجامعة المحافظة (البروتستانتية المتشددة)، سرعان ما تداولت أخبار مغامرات الثنائي (ستونر / ودريسكول) الغرامية، وخيضت حملات لتشويه سمعة أستاذ لا يزال في عداد هيئتها التدريسية، وبتحريض زائد من رئيس قسم اللغة الإنجليزية العتيد لوماكس، ما حمل الآنسة دريسكول على مغادرة المقاطعة نهائياً، ووضع حد نهائي لعلاقتها الظرفية بستونر.
رواية التلقين
أطلق البعض على رواية جون ويليامز صفة التلقينية أو التربوية، لاعتبار أنها تنطوي على أبعاد فكرية واجتماعية وأخلاقية، ما دامت تروي تجربة شخصية رئيسة فيها، وعيشه مغامرات بقصد التكوين والإعداد الخلقي، وتأثره الشديد بالموت، والحب، والخيانة، والوحدة، وتفضي به إلى النضوج، والمصالحة مع العالم.
ومن المعلوم أن رواية التلقين هذه نوع بذاته، تندرج فيه العشرات بل المئات من الروايات العالمية، بدءاً من منتصف القرن الـ19 إلى يومنا هذا، مثل رواية مولن الكبير للكاتب آلان فورنييه، و"ذئب السهوب" لهرمان هيسه، و"التربية العاطفية" لفلوبير، و"دافيد كوبرفيلد" لشارلز ديكنز، و"بورتريه الفنان" لجيمس جويس، و"رقصة المستحيل" لموراكامي، وغيرها.
وما تنفرد به رواية "ستونر" في هذا الشأن، أنها تجعل كلاً من شخوصها نموذجاً خاصاً، سواء على صعيد المواقف الإنسانية الكبرى، أو على صعيد العلاقات في ما بين الأفراد، والجماعات، والنظرة إلى العائلة، والمال، والرفاه، والعمل، وتقييم الفكر والفن، والتزام المعايير الدقيقة في الحكم على أعمال الآخرين، وغيرها من الموتيفات. ولعل هذه الملامح الكلية (الكونية) ما يزكي انتشار الرواية، واستدامة الالتفات إليها، من النقاد والقراء، على توالي الأزمنة وتبدل الأمزجة حيال الروايات.
ولا ننسى أن الكاتب ويليامز قصد أن يحمل الرواية بعضاً من آثار المعاناة التي كابدها كثير من الأميركيين خلال أزمة عام 1929، الاقتصادية والمالية، وما رافقها من مآس وبؤس عميمين.