ملخص
تجاوزت المساعدات الخليجية ما أنفقته الجهات المانحة بما فيها صندوق النقد الذي قدم 162 مليار دولار في صورة قروض
برزت دول الخليج العربي لاعباً رئيساً في دعم اقتصادات منطقة الشرق الأوسط المضطربة، حتى صارت تملك ما بات يعرف اصطلاحاً بـ"دبلوماسية الإنقاذ" الاقتصادي، ولم تكن هذه الدبلوماسية حديثة العهد، إذ تعود جذورها لأكثر من خمسة عقود مضت، حين استقبلت الأسواق العالمية صدمتها النفطية عام 1973، واستخدمت بعدها المساعدات والاستثمارات وتدفقات رأس المال الأخرى للاضطلاع بدور مركزي في الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط خلال أحداث عدة، بدءاً من الحرب الإيرانية- العراقية في الثمانينيات وصولاً إلى ما يعرف بـ"الربيع العربي" عام 2011.
عرفت دول منطقة الخليج مقرضاً رئيساً ومنقذاً للدول المتعثرة في الإقليم وخارجه، إذ تشير ورقة بحثية حديثة إلى أن هذه الدول أنفقت ما بين 1963 و2022 ما يتجاوز 363 مليار دولار (بالقيمة الثابتة للدولار الأميركي في 2020) من المساعدات والمنح، وهو رقم يتجاوز بكثير ما أنفقته الجهات المانحة التقليدية الثنائية ومتعددة الأطراف، بما فيها صندوق النقد الدولي الذي قدم 162 مليار دولار بصورة قروض، ورسخت دول الخليج بذلك مكانتها الرائدة في تنمية دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
الباحثان في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية(IISS) الذي يتخذ من لندن مقراً رئيساً له، حسن الحسن وكاميل لونس سلطا الضوء على بزوغ قوة دول الخليج التي أصبحت مصدراً لحزم المساعدات المالية والعينية الهائلة لإنقاذ الدول التي تواجه أزمات اقتصادية، وهو دور مارسته دول الخليج بقوة منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي، ويقران في الوقت ذاته بصعوبة الوقوف على الحجم الحقيقي لحزم الإنقاذ الخليجية التي تشمل تمويلات مباشرة لدعم الموازنات العامة وودائع في البنوك المركزية ومساعدات النفط والغاز وشطب الديون ومشتريات السندات الحكومية، إضافة إلى مقايضات العجز الائتماني.
مساعدات لمصر والسودان واليمن
واعتمدت الدراسة على ست حالات هي مصر والعراق والأردن وباكستان والسودان واليمن، مستندة إلى مجموعة البيانات ودراسات الحالة المتعمقة، وترى أن المساعدات الخليجية أسهمت بقوة في إنقاذ البلدان المتعثرة في المنطقة من الإفلاس في مناسبات متعددة، وجرى تقديم معظمها في استجابة للصدمات الإقليمية التي شكلت تهديداً مباشراً للمنطقة، وتناولت الحزم التمويلية التي تعهدت بها في قمة بغداد عام 1978 للأردن ولبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية وسوريا بما مجموعه 3.5 مليار دولار سنوياً لمدة 10 أعوام، مع تزويد لبنان بمبلغ 0.25 مليار دولار كمساعدات سنوياً بين عامي 1980 و1984، ثم تداخل الدعم الخليجي للدول العربية خلال الثمانينيات مع الحرب العراقية- الإيرانية في الفترة من 1980 حتى 1988، ثم تدخلت دول الخليج لمساعدة باكستان في تجاوز العقوبات المفروضة عليها بسبب تجاربها النووية عام 1998 وللحفاظ على اتفاق الطائف 1989 الذي شهد نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، قائماً من خلال تمويل إعادة الإعمار بعد الحرب في لبنان.
ويلفت الباحثان إلى المساعدات الخليجية التي ضخت لاستيعاب آثار الاضطرابات التي خلفها ما يعرف بـ"الربيع العربي" عام 2011 وتضمنت إنفاق أكثر من 60 مليار دولار كمساعدات إنقاذ لمصر والأردن والمغرب وباكستان والسودان واليمن بين عامي 2011 و2019، وأسهمت تدخلات الإنقاذ المالي التي قامت بها دول الخليج في دعم مصر والسودان واليمن، وساعدت في إبقاء الأردن وباكستان "على قيد الحياة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في الآونة الأخيرة، دشنت التداعيات الاقتصادية لجائحة "كوفيد-19" والحرب الروسية – الأوكرانية مرحلة جديدة من "دبلوماسية الإنقاذ" الخليجية، إذ عانت بلدان عدة في المنطقة ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء وواجهت آفاقاً اقتصادية صعبة، وفق ما تقول الدراسة، وتشير إلى أنه بين عامي 2021 و2022، أنفقت دول الخليج مبلغاً مذهلاً قدره 34 مليار دولار أميركي كمساعدات إنقاذ للبحرين ومصر والأردن وباكستان وتركيا واليمن، وذهب أكثر من نصفه إلى مصر وحدها، ونظراً إلى الرياح الاقتصادية العالمية المعاكسة، يرى المعهد أن دول الخليج تخاطر بمواجهة طلب أكبر على مساعدات الإنقاذ الإضافية من الشركاء المتعثرين في المنطقة.
حزم الإنقاذ الخليجية
تحمل "دبلوماسية الإنقاذ" الخليجية آثاراً بعيدة المدى على الجهات الفاعلة في مجال التنمية الغربية والمؤسسات المالية الدولية، كيف لا وهذه الدول شريكة منذ زمن طويل للمؤسسات المالية الدولية وتسهم في موازناتها وتتعاون معها بطرق متعددة، وفي أوقات الأزمات تدعو القوى الغربية والمؤسسات المالية الدولية دول الخليج بانتظام إلى التدخل، ولتوضيح ذلك، فإن بعض قروض صندوق النقد الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الأوسع مثل الحزمة البالغة 12 مليار دولار التي تمت الموافقة عليها لمصر في 2016 وحزمة الـ1.17 مليار دولار التي تمت الموافقة عليها لباكستان عام 2022، تم تمكينها من خلال تمويل تكميلي من دول الخليج، وهذا يوفر لدول الخليج نفوذاً أكبر داخل تلك المؤسسات ويجعلها محاوراً رئيساً للقوى الخارجية في المنطقة.
وسعت دول الخليج بشكل متزايد إلى تحقيق مصالحها الأمنية والسياسية بشكل مستقل عن الأولويات الغربية، وعلى رغم أن المانحين التقليديين مثل الولايات المتحدة واليابان مارسوا أيضاً دبلوماسية الإنقاذ، إلا أن تدخلات الإنقاذ الخليجية تختلف في بعض النواحي، كما يعتقد الباحثان في المعهد الدولي، ففي حين أن ممارسات مساعدات التنمية الخارجية الخليجية أصبحت تتماشى تدريجاً مع المعايير الغربية، فإن دعم الإنقاذ الذي عادة ما يقرره زعماء الخليج أنفسهم ظل مرتبطاً بشكل وثيق بالمصالح رفيعة المستوى، وخلافاً لحزم صندوق النقد الدولي، فإن دعم الإنقاذ في دول الخليج لا يكون مشروطاً عادة بالإصلاحات الاقتصادية أو إصلاحات الحوكمة.
لكن مع حال عدم اليقين في شأن الطلب العالمي على المدى الطويل على النفط والغاز، فإن مواقف الدول الخليجية النفطية ومدى استعدادها لإنقاذ الدول الأخرى قد تتغير على المدى البعيد وتترك مساحة أقل لحزم الإنقاذ السخية، ومع ذلك يعتقد المعهد بأن طموحات التنويع الاقتصادي ومن أبرزها "رؤية 2030" السعودية التي تهدف إلى تمهيد الطريق لمستقبل اقتصادي متنوع وأكثر استدامة تدعم "دبلوماسية الإنقاذ" على الأرجح، ومن غير المتوقع أن تتغير الدوافع الجيوسياسية الأساسية لسلوك الخليج، وأبرزها الرغبة في تعزيز مصالحها الوطنية وتأكيد استقلال سياستها الخارجية عن الولايات المتحدة والتنافس مع الخصوم الإقليميين وتحقيق الاستقرار لحلفائها في المنطقة، مما يؤدي إلى انتعاش عمليات الإنقاذ الخليجية.