من نص إلى آخر، يتابع الكاتب والمسرحي اللبناني الكندي وجدي معوض منذ سنوات، استكشاف خارطة عائلته التي طبعها عنف التاريخ والمنفى. استكشاف يندرج في سياقه نصه المسرحي الجديد، "أم"، الذي يقارب فيه موضوعاً هو من دون شك، الأكثر حساسية وأثراً على تكوينه ومسيرته، أي أمه التي فقدها في سن مبكرة، وتحديداً السنوات الخمس التي أمضاها معها ومع أخته وأخيه في باريس، في حالة انتظار يومي لانتهاء الحرب الأهلية في لبنان كي يعودوا إلى ديارهم، ويستأنفوا حياتهم السابقة، وهو ما لم يحصل أبداً. نص سير ذاتي بامتياز، صدر حديثاً عن دار "أكت سود" الباريسة، ويلجأ صاحبه فيه إلى أدوات سردية وكتابية جديدة تعزز وقع خطابه والقصة المؤثّرة التي يرويها فيه.
مَن قرأ أعمال معوّض يعرف أنه، منذ البداية، غرف من تجربته الحياتية الأولى مادة نصوصه المسرحية الباهرة، لكن من دون أن يتناولها بطريقة مباشرة. ولا نعجب من ذلك حين نعرف أيضاً عنف "الحرائق" التي اكتوت هذه التجربة بها. لكن عاجلاً أم آجلاً، كانت هذه المواجهة محتّمة، لمن يملك الجرأة والرغبة والإمكانات للغوص في عمق الأشياء، مثله. وحين حان زمنها، دفعته إلى إجراء تحوّل جذري في كتابته المسرحية، أفضى إلى تحريرها إلى حد كبير من نفَسه الملحمي الآسِر الذي طبع رباعيته الشهيرة "دم الوعود".
قرار جريء تجلت نتيجته عام 2008 في نص "وحيدون" الذي نتعرّف فيه إلى طالب شاب من مونتريال، هو صنو معوض، نراه يتجادل مع والده، الواقع في غيبوبة، حول طفولته في لبنان خلال الحرب، ورغبته في معانقة الفن على رغم هذه التجربة، أو بالأحرى، بسببها. نص نستشعر فيه توتراً حاداً ومركزياً بين العائلة، من جهة، والفن، من جهة أخرى، بين الحرب والرغبة في الحياة، وبين الوفاء للذاكرة وضرورة الانعتاق منها لإنجاز الذات. توتر لم يخطئ أحد النقاد في اعتبار أنه بات يشكّل ركيزة في عمل معوض، وما يجعل من الوجود الذي يصوّره فيه مأساة لا حل لها.
تجربة الحياة الأولى
وفعلاً، يحضر هذا التوتر بقوة في نص "أختان" (2015) أيضاً الذي تابع معوض فيه مواجهته المباشرة لتجربة حياته الأولى، عبر كتابته كنشيد احتفاء بأخته نايلة التي حملت عبء عائلتهما على أكتافها، كقدر شخصي. نص تمكن فيه، بخياله وحسّه المسرحي الفريدين، من منح بطلته حضوراً قوياً وثرياً بأبعاده، من خلال المونولوغ الرقيق والرصين الذي نتلقاه منها. أخت نتابع اكتشافها في نصه الجديد، "أم"، حيث تحضر كأكثر شخصية مؤثّرة، ليس فقط بسبب التضحيات التي تقدّمها لعائلتها بصمت، وسعيها بلا كلل إلى تهدئة هستيريا أمها وحماية أخيها الصغير، وجدي، من نوبات غضبها وعنفها، بل لتجسيدها أيضاً الثغرة الوحيدة للإفلات من اللوحة القاتمة التي يرسمها معوض في هذه المسرحية، وتوفيرها له، بدورها ومأساة حياتها، فرصة الانقضاض على تلك العادات والتقاليد الشرقية التي تنشأ المرأة في كنفها ككائن مرصود لإرضاء الرجل وتلبية مختلف رغباته.
أحداث "أم" تنطلق عام 1978 وتدور في معظمها داخل الشقة الباريسية التي حطّت جاكلين، والدة معوض، فيها مع أطفالها، بعد فرارهم من لبنان والحرب الدائرة فيه، بينما بقي زوجها تحت القنابل في بيروت لمتابعة عمله وتوفير ما تحتاجه عائلته. شقة نعيش في أرجائها الحياة اليومية لهذه الأم التي لا تتوقف عن الطبخ من الصباح حتى المساء، إلا لمساعدة ابنها الصغير معوّض في فروضه، أو للرد على الهاتف الذي يرنّ باستمرار، أو لمشاهدة نشرة الأخبار على "القناة الثانية" التي كانت تقدّمها المذيعة الفرنسية كريستين أوكرين آنذاك، ولا تؤدي في هذا النص دورها فحسب، بل تتفاعل أيضاً ومراراً مع جاكلين وأولادها. وفي المقابل، لدى إصغائها إلى أوكرين فقط، توقف جاكلين شكواها التي لا نهاية لها، وتصبح كائناً آخر، وهو ما يجعلنا ندرك ما كان يمكن أن تكون، لو لم تقرر الحياة خلاف ذلك. وبالتالي، بموازاة النقاش الحميم الذي يقوده معوض مع نفسه بغية استكشاف تلك المرحلة من حياته، يبيّن نصه كيف تغيّر أحداث العالم الفرد وقدره، وكيف يمكنها أن تلتهمه أحياناً، فتحرمه من أي إمكان لعيش حياته.
صحيح أن جاكلين أفلتت جسدياً من الحرب، لكن الحرب ستلحق بها إلى باريس وتدمرها نفسياً، فنراها تعيش داخل فضاء وزمن ليسا هما فضاء أولادها وزمنهم، في محنة تجعل بلوغها متعذّراً، حتى لطفلها وجدي، الذي كان آنذاك في سن الثامنة. من هنا تكراره على طول نصه الجملة التالية: "لم أبكِ منذ وفاة أمي". جفاف في المقلتين ناتج من ألم يتعذر تلطيفه. ألم من تلك الكراهية التي عصفت، وما زالت تعصف بوطنه الأم، وألم من الصراخ المتواصل لأم لم تكن قادرة على العيش بسلام، وهي ترى بعينيها موت وطنها. وبالنتيجة، لم تكن قادرة على سماعه وسماع أخته اللذين كانا يحاولان عبثاً التواصل معها.
لقاء متخيل
ولهذا السبب تحديداً، يتخيّل معوض في منتصف هذا النص لقاءً مع أمه، راشداً، في سنّه الحالية، بغية "ابتكار لحظة معك لم تحصل أبداً"، وليقول لها بجرأة ما فشلت في فعله معه: "لقد مرت 34 سنة على المرة الأخيرة التي رأيتك فيها، ولا أفتقدك. لماذا؟ لأنه هو الذي يراك كل يوم، يفتقدك. هذا الطفل الذي كنت، يفتقد أمه. أنتِ تخسرينه، أتسمعيني؟". لقاء يقول لها فيه أيضاً ما كان لوفاتها وللمنفى الداخلي والخارجي الذي عاشه وهو طفل من نتائج على مسيرته: "كنتم تعتقدون أن ما هو جيد لي، هو المدرسة والعائلة والوطن. لكوني على علم بأن ما سيسعدني في الحب والمسرح والعلاقات أدين به للحرب، أدين به للمنفى، وأدين به لموتك. لو لم تموتي، يا أمي، لما تمكّنت من أن أصبح رجل مسرح. هذه هي المفارقة النتنة. كل سعادة هذا الطفل المستقبلية ترتكز على تعاسته الحالية، وهو يحتاج إليك، يحتاج إلى أن تجعليه يشعر، بلفتات حبّ لن يفهم معناها إلا لاحقاً، بأنك لن تزعلي منه من جرّاء ذلك".
بالتالي، "أم" هو غوص في عمق الحميمي، في عمق الذات، في قلب مصنع الذكريات التي تقع حتماً بين واقع وخيال: "المزعج مع الذاكرة هو أنها تعتقد بأنها دائماً على علم، في حين أنها لا تفعل سوى سرد قصص"، يقول معوض في هذا النص. ومن مادة هذه الذكريات يشيّد صرحه. ذكريات والدة شكّلت إقامتها في باريس، على تلك "الأرض المقابِلة"، عذاباً "بروميثيوسياً"، ألماً كان يلتهم قلبها يوماً بعد يوم. فمع أنها غادرت لبنان، فلبنان لم يغادرها، بل بقي مسلّطاً على أفكارها، مثل قيد ذهني، مثل هوس يتعذر التخلص منه. أمّ غنية بالألوان، ولكن متسلطة وعنيفة مع أولادها، كما لو أن ألمها كان يسحق كل شيء في طريقه، بما في ذلك الحب الأمومي الذي لا نُشفى من حرماننا منه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بورتريه معتم لأمه، نص معوض هو أيضاً نشيد احتفاء بخصوصيتين لبنانيتين: مطبخ وطنه الغني بالمأكولات والحلويات الشهية، التي تحضر عن طريق وصفه لما كانت تحضّره أمه كل يوم تحت ناظريه، وأيضاً عبر توقيع نصّه بوصفات عديدة؛ وكذلك اللغة اللبنانية المحكية التي عمد الكاتب إلى ترجمة عبارات نموذجية منها حرفياً إلى اللغة الفرنسية، مثل "يا تؤبرني"، مبيّناً ميلها إلى التنميق والتفخيم والتضخيم، قوتها الرمزية. وأيضاً حضور الموت والقتل بغزارة فيها، لكن بخفّة أو فكاهة تبطل مفعولهما. من جهة أخرى، أصاب أحد النقاد بملاحظته أن اختلاط الفرنسية باللبنانية المحكية في هذا النص يعكس ذلك الصراع داخل المنفي بين العادات المستوعبة في وطنه، وتلك التي يجب عليه استيعابها في البلد الذي حطّ فيه، وبالتالي كيف يشكّل تداخُل مصطلحات اللغتين في كلامه "لغة المنفى".
باختصار، يخلط معوض في هذا النص قصته مع أمه بأحداث التاريخ الكبرى، بغية تمزيق حُجُب الماضي وسبر مأساة طفولته المسروقة، وأيضاً لغز قدره السعيد في نهاية المطاف. وفي هذا السياق، يقول أنه حظي بأمّين: جاكلين والحرب. الأولى لم تستطع منحه الحنان الذي كان يتوقعه منها، والثانية سددت خطاه وأثارت داخله الرغبة في الخلق والكتابة والسرد.
لكن أبعد من الجانب السير- ذاتي المؤثّر لهذا النص، الذي يسترجع صاحبه فيه تلك السنوات الخمس من طفولته التي كان عليه أن يتعلّم خلالها لغة أخرى، ويكتشف عادات وتقاليد أخرى، ويجد مكاناً له داخل مجتمع غريب عنه، ويسعى إلى فهم نفسه وتشييد الكاتب ــ الفنان الذي صاره؛ أبعد من كل ذلك، يمنحنا معوّض في "أم" تأملاً عميقاً وبصيراً في الحرب التي لا تنتهي، وفي جرحها القاتل الذي يجبر نساء ورجالاً وأطفالاً على مغادرة بيوتهم وأرض ولادتهم، إلى منفى لا يحظى معظمهم فيه بفرصة تشييد قدرٍ مثل قدره.