Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

برلين التي تجمع الحرية والفوضى وتجبر على العودة إليها

تجربة الحرب واستعادة الوحدة وقصة اللجوء الأبدي إليها عوامل جعلت من برلين واحدة من أكثر المدن تمايزاً في أوروبا، وفق ما يورد جون كامبفنير ضمن مقتطف خصنا به من كتابه الجديد عنها

مشهد عام لمدينة برلين (غيتي/آي ستوك)

ملخص

برلين لا تهدأ أبداً ولا تقتنع أبداً بذاتها... وذاك ما يجعل منها حالة استثنائية، وما يجذب العالم إليها

في أكتوبر (تشرين الأول) 1990، عندما استعادت ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية وحدتهما، وغدت البرلينان برليناً واحدة، شكل الأمر بالنسبة إلى المدينة دافعاً لبداية جديدة. تخلوا عن الحذر واطلقوا العنان لأنفسكم. دمروا هذا الجدار مرة واحدة وإلى الأبد. أمحوا التاريخ. وارفعوا نصباً لـ"التقدم".

هل يمكن لبرلين أخيراً أن توصف بالتلقائية؟ سقوط الجدار عجل بموجة جديدة من موجات الهجرة إليها. فكثيرون من "جمهورية ألمانيا الديمقراطية" (أو ألمانيا الشرقية) انتقلوا غرباً، ووجهتهم لم تشمل كثيراً برلين الغربية القديمة بقدر ما شملت البلدات الأصغر والأكثر تنظيماً في "الجمهورية الفيدرالية" (ألمانيا الغربية). وحلت مكانهم [في ألمانيا الشرقية] أمواج من الأجانب والألمان الغربيين متهافتين على عقارات رخيصة ومتأملين التمتع بما بقي من برلين "الأصلية". المدينة الآن يسكنها 3.5 مليون نسمة، ثلثهم لم يكونوا من سكانها عندما استعادت وحدتها.

في التسعينيات كانت فوضى الفضاء المادي منحتها قوة جذب تسويقية فورية وفريدة. وغدا تقريباً ثلث مباني قسمها الشرقي شاغراً. وأقام فنانو الـ "دي جي" (التنسيق الموسيقي) والموسيقيون، الفوضويون منهم والاستثماريون، أندية للموسيقى والسهر في مستودعات ومخازن سفلية مهجورة، كما استخدم الفنانون أمكنة مشابهة مثل محترفات وورش عمل. ولم يكن أحد يعرف إلى متى ستستمر تلك الأمكنة بوجهة استخداماتها المذكورة، مما زاد من حدة شعور الإثارة من الاكتشاف الجديد. ويبقى المشهد الموسيقي إلى اليوم واحداً من أكبر توجهاتها. وكتبت مجلدات عن أشهر تلك الأمكنة المخصصة للموسيقى، "بيرغهاين" (Berghain)، وعن تاريخه كمحطة تدفئة سابقة، ومشهده الحالي المتعلق بالمخدرات والجنس والموسيقى والأسماء الكبيرة التي حاول أصحابها تجاوز رجال الأمن والحراس، وفشلوا أحياناً.

أتحدث عن سحر هذا المكان مع صديق إيطالي، أندريا الذي انتقل إلى برلين منذ 10 أعوام "سعياً إلى فرصة ثانية" والاستمتاع بالمشهد "الكويري" [متحررو الميول الجنسية] الذي تضمه المدينة. ويكون أندريا موجوداً كثيراً في "بيرغهاين" خلال عطلة نهاية أسبوع. وفي الأوقات الأخرى يشغل منصباً رفيعاً في إحدى كبرى شركات التجارة الرقمية (الإلكترونية). كل الأشخاص الذين يعرفهم أندريا، ألماناً أو أجانب – ويبدو بالفعل كأنه يعرف الجميع – يذهبون إلى "بيرغهاين" نظراً إلى إحساس الهجران الذي يؤمنه المكان. ويقول أندريا إن "بيرغهاين" أكثر من هذا. فيذكر في حديثه معي أن "كل شخص يقصد المكان يفعل ذلك لأنه يهرب من أمر ما في حياته. وأيضاً للوجود والتجوال عند حدود الحرية والفوضى. فبرلين وبيرغهاين يشكلان معاً قطباً جاذباً للمصابين بالصدمات، ومكاناً للتأمل. ما من مدينة أخرى توازي [برلين] في ذلك".

وتبقى جاذبية المدينة قوية كما كانت على الدوام، إذ إنها تثير الأسئلة ذاتها التي أثارتها طوال قرون. من هو البرليني؟ ما هي برلين أصلاً؟، إذ إن "الهوغونوت" [جماعة فرنسية بروتستانتية تهجرت من بلادها خلال القرن الـ17] والهولنديين والروس واليهود وكل فئة أخرى من البرلينيين الجدد – ألماناً كانوا أو أجانب – يطرحون في الحال تحدياً أمام كل من يدعي فهم المدينة تمام الفهم. اللغة الإنجليزية الآن تنتشر في كل أنحاء المدينة، فيرى أجانب كثر أنه ليس من الضرورة تعلم اللغة المحلية [الألمانية]. أما بالنسبة إلى مئات آلاف الوافدين الألمان إلى برلين، فإن أهل المدينة سرعان ما يصنفونهم ضمن فئة واحدة باعتبارهم "سوابيين" Swabians [منطقة ألمانيا]، المصطلح التوصيفي الذي يردهم جغرافياً إلى ولاية بادن فورتيمبيرغ (التي ينحدر منها بعض أبناء المدينة وليس أكثريتهم أبداً). كذلك فإن المصطلح المذكور إضافة إلى هذا، يعني واحداً من التوصيفات التالية: ميسورون، برجوازيون، محافظون. أو بكلمات أخرى: غريبون عن المكان (أو طارئون).

هل يندمج أولئك الوافدون الجدد في برلين الجديدة ويصبحون برلينيين "كما ينبغي"؟ أم هل يقومون بتغييرها؟ الجواب عن السؤالين هو نعم، وفق ما حصل على مدى تاريخ المدينة. فبرلين مدينة تود أن تكون عالمية فيما لا تعير للعولمة سوى انتباه ضئيل، إذ إنها واحدة من العواصم الأقل استعجالاً في العالم. من السهل الخروج من برلين، وحين يفعل المرء ذلك فإن الطبيعة ليست بعيدة أبداً. لكن أجزاء عدة من المدينة نفسها، على رغم كل محاولاتها للتحديث، تبقى محتفظة بطابع القرية، أو بالأحرى بطابع مجموعة قرى متصلة أو محبوكة ببعضها بعضاً. الأعوام التي قضيتها متجولاً فيها من طرف إلى آخر، مصادفاً نفسي في أكثر الأمكنة غموضاً، تركت بعض أصدقائي البرلينيين في حيرة من أمرهم، إذ إن كثراً منهم ما عادوا يغامرون بالذهاب أبعد من أحيائهم السكنية.

وتبقى برلين أهدأ وأكثر نزوية وأقل استهلاكية – وأرخص – من المدن مثيلاتها. أو في الأقل كانت كذلك. مسألة الإسكان على الدوام كانت في قلب مشهد التجاذبات السياسية. فالمدينة منذ إعادة توحيدها راحت تنمو بمعدل 40 ألف نسمة في السنة، كثيرون منهم أشخاص متنقلون يأتون إليها طامحين من مناطق ألمانية أخرى أو من الخارج. كذلك فإن عدداً من ذوي الدخل المنخفض جرى لفظهم إلى خارجها، بيد أن عدد سكانها ما زال اليوم أدنى من الذروة المسجلة قبل الحرب العالمية الثانية. وكذلك فإن لألمانيا واحداً من أدنى مستويات امتلاك المساكن في أوروبا، وقد سجل معدل البيوت المستأجرة في العاصمة خلال العقد الفائت ارتفاعاً تجاوز الضعف. من هنا فإن كثيراً مما يشكل حالة برلين ويميزها مرتبط بمسألة الإسكان والسكن: فهي المدينة التي كثيراً ما افتخرت باشتراكيتها، وبتضامن طبقتها العاملة (من دون أن تتمكن تماماً من إيصال ثوراتها إلى خواتيم النجاح)، والمدينة التي ترتاب من التأثيرات الخارجية لتعود وتستفيد منها، والمدينة الساعية على الدوام إلى الاختلاف. فبرلين لا تريد أن تكون مثل نيويورك أو لندن. بل تود التربع على مركز العالم. إلا أنها أيضاً تريد حياة هادئة.

المؤرخ بينيديكت غوبيل يربط هذه المسألة بأمر أكثر ابتذالاً وواقعية: فشل التخطيط (المديني). وقضى غوبيل مسيرته كمؤرخ داعياً إلى اعتماد مقاربة جديدة في التعامل مع المدينة، مُنسقاً قبل أعوام قليلة في هذا السياق معرضاً بـ"مركز ستولين" (Stolen Centre) البرليني. نعم، الصروح والنصب التذكارية مقامة وموجودة، ونعم، السياح يتدفقون إلى بوابة براندنبرغ والمواقع الأخرى، لكنه يرى أن القلب التاريخي للمدينة جرى تجريده من الحياة. وسبب ذلك يتمثل في جزء منه بالعمارة الباقية من "جمهورية ألمانيا الديمقراطية" السابقة، كما يتمثل في نواح أخرى بتعولُم المدينة ومظاهر حياتها المعاصرة.

وهناك طريقة أخرى أكثر إلهاماً للنظر إلى برلين الجديدة، إذ إنها المدينة المستمرة في تفكيرها الجاد المتعلق بماضيها الصعب، وبكيفية تأثير ذلك الماضي في المستقبل. ويمكن للمرء أن يقوم بجولة فاحصة بمحاذاة أحياء دايملر وسوني القبيحة في بوتسدامر بلاتز ليكتشف بقايا ومخلفات محطة قطار. محطة آنهالتر بانهوف هذه، والمنطقة المحيطة بها، تمثل قصة برلين بصيغة مختصرة.

شيدت تلك المحطة عام 1841، وكانت صغيرة في البداية. ومع تدفق الأموال وتطور برلين من حيث الموقع والقوة، جرى هدمها وأعيد بناؤها وافتتاحها في 1880 من قبل القيصر فيلهلم الأول وبسمارك. وكان يمكن لتلك المحطة الفخمة، المعروفة بـ "بوابة الجنوب"، أن تخدم أربع طبقات (أو فئات) من حاملي البطاقات – مع مدخل منفصل (وفندق) مخصصين للزوار الملكيين والدبلوماسيين. وفي الثلاثينيات بعز أيامها، كانت القطارات تنطلق من ستة أرصفة في آنهالتر بانهوف كل ثلاث أو خمس دقائق، ناقلة 16 مليون مسافر في السنة، مما جعلها واحدة من أنشط محطات القطارات في أوروبا. اليوم لم يبقَ منها سوى واجهتها، أو قشرة واجهتها، لتشكل واحداً من صروح عدة من القرن الـ19 ما زالت واقفة وشاهدة على حماقة البشر.

وكان ألبيرت سبير وضع مخططات أكثر فخامة وعظمة لمحور شمالي – جنوبي، حيث تقوم المحطة في سياقه. لكن بدلاً من تنفيذ هذا المخطط غيّر النازيون أهدافهم توافقاً مع الحرب، فقاموا باستخدام المحطة (وهي إحدى ثلاث محطات في المدينة. المحطتان الأخريان هما غرونيفالد ومحطة موآبيت لتخزين ونقل البضائع) لنقل اليهود إلى حجرات الغاز (في سياق الهولوكوست). وفي الثاني من يونيو (حزيران) 1942 عند الساعة 6:07 صباحاً، غادر الرصيف رقم واحد قطار متوجه إلى تيريزينشتات (Theresienstadt)، وعلى متنه 50 مسناً يهودياً من الرجال والنساء كدفعة أولى من رحلات الموت المنطلقة من آنهالتر بانهوف. وبعد 18 شهراً، وفي غضون ليلة واحدة في الـ 23 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1943، أدت غارة نفذها السلاح الجوي الملكي البريطاني إلى تحويل معظم محطة آنهالتر إلى ركام. إلا أن عدداً من خطوط السكة فيها نجا.

وفي أواخر عام 1945 وعلى مدى فصلي شتاء قارسين، تحولت المنطقة حول المحطة إلى مدينة خيام (لإيواء المشردين والنازحين)، إذ إن عشرات آلاف الألمان الذين شردوا من مناطقهم الشرقية، وصلوا إلى تلك المنطقة المدمرة وكانوا في حال ضياع وبلا وجهة. قافلة لا هدف لها. المصورة في مجلة "لايف"، مارغريت بوركي – وايت، التقطت سلسلة من الصور لنساء وأطفال هزيلين موزعين في كل مكان، وبعضم يتشبث بأطراف تلك القطارات التي تمكنت من الانطلاق. "لقد بدأوا يشبهون أصداف البحر"، كتبت بوركي – وايت عن ذلك المشهد.

خلال الأعوام الأخيرة كلما مشيت عابراً هذه المنطقة الموحشة أبدأ بالتفكير بالرغبة التي أظهرتها ألمانيا في استقبال أناس هم الأفقر في العالم – أكثر من مليون لاجئ من سوريا والعراق وأفغانستان، وفي الآونة الأخيرة عدد مماثل من اللاجئين الأوكرانيين. قصة اللجوء هنا لا تنتهي أبداً.

في 2022، كان مفيداً أن يقف المرء على الرصيف 13 في "هوبانهوف" (المحطة الرئيسة في برلين)، تلك المحطة المركزية الجديدة والمتلألئة، ويشاهد آلاف الأوكرانيين يخرجون مرتبكين من قطارات خصصت لإحضارهم. وقد جرى استقبالهم والترحيب بهم من قبل متطوعين يرتدون قمصاناً صدرية فاقعة اللون، كلفوا بتأمين المأوى لهم. كثيرون من الأوكرانيين سيعودون لوطنهم. أما معظم اللاجئين الوافدين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فسيصبحون حتماً الجيل الجديد من البرلينيين، بعدما جاؤوا من أماكن مختلفة لالتماس العزاء في هذه المدينة دون غيرها.

متحفان في برلين غايتهما وضع قصة اللجوء في سياقها الألماني، وقد تقررت إقامتهما في محطة "آنهالتر" عن وعي مسبق. أعمال تشييد "متحف المنفى" Exile Museum الجديد ستبدأ قريباً، وهو سيسرد قصصاً إنسانية للاجئين من كل أنحاء العالم. قبالته، في الجانب الآخر من الطريق، هناك مبنى أقل ضخامة، يمثل مركز معارض افتتح خلال جائحة كورونا، وهو يشكل إحدى أهم المحاولات التي ظهرت حتى الآن والهادفة إلى المساعدة في تفسير هوية برلين المشوشة: إنه "المركز من أجل التعلم والتذكر في مظاهر النزوح والطرد والهجرة القسرية" Centre for Learning and Remembrance for Displacement, Expulsion and Forced Migration.

ويهتم هذا المركز على نحو خاص بقصة 12 مليون شخص ممن أصيبوا جسدياً ومعنوياً وفقدوا بيوتهم في المناطق التي كانت تشكل نواحي الشرق الألماني [مقاطعات كانت تشكل بروسيا الشرقية وشرق ألمانيا وانتقلت إلى سيادة بولندا وروسيا بعد الحرب العالمية الثانية]، وكانت تنبغي إعادة إسكانهم واستيعابهم بسرعة خلال أعوام قليلة بعد الحرب في كل من ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية. كل واحد من خمسة أشخاص في ألمانيا هو من عائلة تعرضت للطرد من بيتها. وعلى رغم مرور عقود على هذه التجربة فإن المسألة ما زالت حساسة ومثيرة للشقاق. فهي تخدش جرحاً وتطرح سؤالاً مؤلماً عما إذا كان يمكن اعتبار الألمان، الجناة، من الضحايا. لكن الإنجاز الكبير الذي حققه هذا المتحف يتمثل في استذكار المعاناة الألمانية من دون إعادة تحديدها والتقليل من شأنها واعتبارها نسبية. وفي هذا الإطار يصف الصحافي يورغ لاو هذا المتحف بأنه "بيت من لا بيت له".

استناداً إلى كل ما عايشته المدينة، وإزاء هلع برلينيين كثر من أن يكونوا مثل غيرهم، فإن السؤال الذي يطرح اليوم يتعلق بمعنى النجاح الحقيقي بالنسبة إلى مدينتهم؟ هل يريدون من مدينتهم أن تكون "مدينة عالمية" من جديد، ذاك الموقع الذي حققته مرة واحدة في تاريخها ولفترة وجيزة بين 1871 و1914؟ هل تريد برلين هذا الأمر فعلاً؟ وماذا يعنيه ذلك في سياقها المعاصر؟

في آخر الصباحات مع نهاية البحث الذي كنت أجريه، قمت بما وعدت نفسي على الدوام بعدم القيام به أبداً. قررت الذهاب والصعود إلى برج التلفزيون والإذاعة الشاهق، فخر برلين الشرقية الشيوعية وبهجتها الذي زين حقبتها الحديثة. المفروشات داخل البرج ما زالت من أفخر مصنوعات "جمهورية ألمانيا الديمقراطية". مفروشات كلها باللونين البرتقالي والبني – فالأثاث الرديء ما زال مرغوباً على ما يبدو. وتتضمن لائحة الفطور النباتية (في الكافيتيريا) هريسة الجزر والبازلاء، مع سلطة العدس، وبزور دوار الشمس ولبن الصويا مع الغرانولا. اخترت العرض التقليدي، وهو اللحوم المطهوة والجبن. وفي الساعتين التاليتين جلت في أجواء المدينة ثلاث مرات (عبر المراقبة من برج التلفزيون)، على أمل أن يتيح لي المشهد الجوي من علٍ بعض المعطيات الإضافية المتعلقة بمستقبل المدينة.

كنت محظوظاً بسماء زرقاء صافية. فرحت أحدق إلى الأسفل نحو "أونتر دن ليندن" وبقية العلامات المدينية. انتبهت إلى مدى صغر حجم بوابة براندينبيرغ في الحقيقة وكم كانت ستبدو ضئيلة لو قيض لألبيرت سبير تنفيذ مشاريعه ومخططاته. أمكنني تصور كيف كان سيبدو "فوروم هامبولت" [لو نفذ سبير مخططاته]، الذي لم يمضِ وقت طويل حتى بدأ يصبح جزءاً لا يتجزأ من مركز المدينة ووسطها. وحين التفتّ إلى ناحية الشرق مرة أخرى، شاهدت قبة الكنيس الجديد متوهجة في الشمس. لينين لم يعد واقفاً ومتعالياً. لكن الإرث السوفياتي من الكتل الخرسانية يبقى دائماً ماثلاً للعيان، على عكس الإرث النازي الذي تستعيده المدينة بخفر على شكل نصب تذكارية.

برلين لا تهدأ أبداً. وهي لا تقتنع أبداً بذاتها. ولا تؤمن على الإطلاق بامتلاكها الجواب. وذاك ما يجعل منها حالة استثنائية، وهو ما يجذب العالم نحوها وما يدفعني باستمرار إلى العودة إليها. لا يمكن للمرء معاينة كثير من تاريخ برلين، لكن يمكنه الشعور به في كل مكان فيها. وبرلين لا تُجمع (في سياق واحد)، لكنها، بطريقة ما، تبقى معلقة على نحو كامل. فهي، من الأعلى أو من مستوى سطح الأرض، تبقى في طور التشكل، كما كانت على الدوام تقريباً. وكذلك هي ليست مدينة بالمعنى التقليدي، بل سلسلة من التصدعات، كل صدع منها يضيف نفسه إلى الصدع الذي سبقه. وكل حقبة تخلق مجموعة جديدة من الأبنية ومجموعة جديدة من السكان، تنطلق كل منها في مهمة التجديد وإعادة التكوين التي لا تنتهي أبداً.

"في البحث عن برلين: قصة مدينة متجددة" In Search of Berlin: A Story of a Reinvented City لـجون كامبفنير، منشورات "أتلانتيك بوكس"، السعر 22 جنيهاً استرلينياً    

© The Independent

المزيد من فنون