Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مكنونات رسائل سيد الأوبرا فيردي في مئات الصفحات

تنسف صورته كرمز للبعث الإيطالي وأنه لم يكن ذلك المناضل الملتزم سياسياً

جيوزيبي فيردي (1813 - 1901) (غيتي)

ملخص

فيردي صاحب أوبرا "عايدة" التي تدور أحداثها بين مصر والحبشة وتنهل من التاريخ الفرعوني موضوعاً لها

منذ رحيله عن عالمنا خلال العام الأول من القرن الـ20، اعتبر رحيل الموسيقي الإيطالي جيوزيبي فيردي خسارة للفن عموماً والموسيقى خصوصاً لا تضاهيها خسارة، ولكن، أيضاً، اعتبر المؤرخون أن ثمة في الأمر خسارة إضافية بالنظر إلى أن سيّد الأوبرا الإيطالية من دون منازع قد رحل "أبكر" من أن يسمح له الوقت بأن يترك ما يعبّر، كتابة وليس فقط من طريق الموسيقى، عن نظرته إلى أعماله كما عن علاقته بمحيطه وبالفنون عموماً، ومن هنا، حين أصدرت دار "إينودي" الإيطالية أخيراً، وقبل نحو 10 أعوام من الآن ذلك المجلد الضخم المعنون ببساطة "رسائل"، تنفس أهل المهنة المهتمون الصعداء، فالرسائل التي يضمها ذلك الكتاب هي بالتحديد رسائل جيوزيبي فيردي ولا يقل عددها عن 700 رسالة موزعة على ما يزيد على 1200 صفحة لتغطي معظم سنوات نشاط وحياة صاحب "عايدة" و"لا ترافياتا" و"ريغوليتو" وغيرها من تلك الأوبرات التي ترى إيطاليا دائماً أن موسيقيّها القومي قد تمكّن بها من التفوق على مجايله الألماني الكبير ريتشارد فاغنر إلى حدّ كبير، ولعلّ ما لم يتمكّن فيردي من أن يقوله في العدد الكبير من الروائع الأوبرالية التي لحنها طوال حياته، بدا أخيراً وكأنه قاله في رسائله.

حكاية "عايدة" وقناة السويس

ولكن قبل التوقف عند تلك الرسائل لا بدّ من العودة إلى صاحبها الذي لا شكّ أننا نعرفه نحن العرب أكثر مما نعرف أي ملحن أوبرالي آخر في العالم، ففيردي هو في نهاية الأمر صاحب أوبرا "عايدة" التي تدور أحداثها بين مصر والحبشة وتنهل من التاريخ الفرعوني موضوعاً لها، وهي الأوبرا التي كانت قد وضعت أصلاً بناء على طلب الخديوي المصري المتنور إسماعيل لكي تقدم عند الاحتفال بالافتتاح العالمي الكبير لقناة السويس، غير أن الموسيقي الإيطالي الكبير لم يتمكّن من الوفاء بوعده، فلم يقدّر لـ"عايدة" أن تشارك في ذلك العيد الكبير، بل تأجل تقديمها، عامين، لتشهد النور بعدهما في مدينة ميلانو التي كان فيردي قد اعتاد تقديم أعماله الكبرى في قاعتها البديعة "لاسكالا". ففي نهاية الأمر، من المعروف أن فيردي الذي ولد ومات في مدينة ميلانو بالشمال الإيطالي تحديداً، كان غزير التأليف، إذ إنه وضع عدداً كبيراً من الأوبرات التي لا تزال تقدم حتى اليوم وتحظى بما تستحق من النجاح ولا سيما في تلك المدينة نفسها. ومن بين أشهر أوبرات فيردي نذكر إلى جانب "عايدة"، "القرصان" 1848، و"الحفل المقنع" 1859، و"دون كارلوس" 1867، و"هرناني" 1844، و"فالستاف" 1893، و"قوة الأقدار" 1862، و"ماكبث" 1847 و"نبوخذ نصر" 1842، ولعل ما يلفت نظرنا هنا هو تلك الأبعاد الشرقية التي تطغى على ما لا يقل عن عملين كبيرين لفيردي: "عايدة" و"نبوخذ نصر"، غير أن ذلك إنما أتى ضمن إطار الأبعاد التاريخية التي أثارت دائماً اهتمام فيردي وحرّكت موهبته الموسيقية تماماً كما فعل أدب شكسبير وفكتور هوغو بالنسبة إليه.

فن كبير بين عملاقين

لقد كان جيوزيبي فيردي، بكل تأكيد وخلال النصف الثاني من القرن الـ 19، سيد الأوبرا الكبير وعلى الأقل في الجنوب الأوروبي ذي الحساسية المتوسطية، سواء نظرنا إلى ذلك من وجهة نظر كمية أو نوعية، بل ربما كان، إلى جانب مواطنه روسيني، الموسيقي الذي أضفى على فنّ الأوبرا حساً شعبياً لا شك فيه جعل هذا الفن أكثر الفنون شعبية وأناقة، قبل أن تأتي السينما وتقضي على كل شيء، ومن المعروف أن موسيقى فيردي تميزت بهدوئها وعذوبتها بالتناقض مع موسيقى فاغنر التي تتبدى متوترة ذات جلال على الدوام، كما أن الفنان الإيطالي قد عرف كيف يدمج في أعماله استلهامات جاء بها من الموسيقى الشعبية، كما من موسيقى الشعوب الأخرى، ونلاحظ هذا، بخاصة في موسيقى أوبراته التاريخية، إذ نجده في "هرناني" مثلاً يستعيد أجواء إسبانية وربما أندلسية، مع مرور على موسيقى تنتمي إلى شتى مناطق البحر الأبيض المتوسط، كما أنه تخيل لأوبرا "عايدة" مثلاً، موسيقى فرعونية استقاها من تأمله العميق لصور الآثار الفرعونية في مصر، كما أنه، في كتابته لموسيقى "نبوخذ نصر"، استلهم عوالم شرقية ولكن من خلال تأمله في منحوتات عراقية كما يؤكد دارسو سيرته، ولكن، كما تؤكد، أيضاً، رسائله التي نتحدث عنها هنا، والتي باتت تشكل خير مرجع لفهم كل ما كان لا يزال ينقصنا للدخول عميقاً في عوالم ومرجعيات هذا الفنان، كما يفيدنا عالم الموسيقى الإيطالي المعاصر إدواردو ريشينيو الذي حرر هذه الرسائل وقدّم لها.

أنواع من الأوبرا متنوعة

ولعل أول ما اهتم ريشينيو بأن يلفت نظر القراء إليه هو أن في الإمكان بشكل عام تقسيم أوبرات فيردي إلى أنواع عدة انطلاقاً من مواضيعها، محدداً أن أبرز تلك الأنواع تضم الأوبرات التاريخية التي تعكس أحداث التاريخ مباشرة لتليها الأوبرات المقتبسة من المسرحيات أو الروايات الأدبية بخاصة من فكتور هوغو وشكسبير، أما في مجال الروايات التاريخية الواقعية، فنلاحظ أن عمل فيردي شمل التاريخ القديم للفراعنة، وللعراق القديم، بخاصة في زمن نبوخذ نصر، كما نجد لديه، وعلى العموم في أكثر من واحدة من أوبراته، اهتماماً بأميركا ما قبل الكولومبية وإسبانيا وغيرها، وفي رسائله التي يقل فيها البوح الذاتي كثيراً عن الاهتمامات الفنية التي يبدو أنها كانت تشغله أكثر مما يشغله أي أمر آخر، يمكننا أن نعثر على إجابات واضحة على كل أسئلة كان يمكن أن نتوخى طرحها على فن فيردي، ومع ذلك، لا شك أن القراءة الإجمالية للرسائل، لا يفوتها، وعلى ضوء تعليقات محرر الكتاب، أن تمكّننا من أن نبحر بمتعة تصل أحياناً إلى حدود متعة التلصص على حميمية فيردي بخاصة إذا كانت غايتنا من ذلك تصحيح وضبط العديد من الأساطير التي أُحيطت بها حياة الرجل كما أُحيط بها عمله، ولا سيما في ما يتعلق بمواقفه السياسية التي لطالما حيّرت الناس.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

نسف الأساطير

وفي المقام الأول في هذا المجال، لا بدّ من الكشف عن أن في الرسائل ما ينسف، ولو جزئياً، حكاية تعتبر فيردي دائماً رمزاً للبعث الإيطالي الذي أدى في زمنه إلى قيام وحدة الأمة الإيطالية، في الرسائل ما يؤكد لنا أن فيردي لم يكن ذلك المناضل الملتزم سياسياً الذي نعتقده، وكذلك لم يكن ذلك "الحربجي" الذي قد تفيدنا ألحانه بأنه كان يمضي وقته في عمل دؤوب في سبيل الوحدة الإيطالية. ولنقرأه هنا وهو يكتب في رسائله بكل وضوح: "أنا لا أؤمن بالحرب، أي حرب، فالحروب لا ترد على مطالب الشعوب إلا بالمجازر والمزيد من المجازر"، ولئن كانت أوبرات فيردي تبديه لنا مبدعاً ذا إيمان عميق وورع أعمق، فها هي الرسائل تصوره لنا وهو يتأرجح حائراً بين الدين والدنيا وعلى قدم المساواة، كما تبديه في حياته اليومية "حاسماً أمره" بشكل يبرر ما كانت زوجته جيوزيبينا تتهمه به من أنه كان لا يتوقف عن التجديف على الكنيسة في كل يوم وساعة، وأحياناً بعبارات شديدة القسوة، وهذا ليس سوى غيض من فيض يمكن لقارئ الرسائل المنشورة في الكتاب والتي يعد محرر هذا الأخير بأن ثمة "في الجعبة الكثير منها أيضاً ويمكن نشره عما قريب"، يمكنه أن يشعر بأن المبلغ الباهظ الذي دفعه ثمناً لاقتنائه لم يذهب هباء بالنظر إلى الاختلاف اللافت لصورة جيوزيبي فيردي فيه عن تلك الصورة المألوفة عنه، صورة "منعتقة من كل الأحكام المسبقة، تعبق بغرائبية تلقائية، غرائبية قد تبدو في بعض اللحظات مغمورة بقدر كبير من الضباب، لكنه ضباب سرعان ما ينقشع تاركاً للقارئ شعوراً بالراحة هو ذلك الذي يعده بشكل أفضل مما كان عليه سابقاً للتعامل مع موسيقى هذا الفنان"، الذي يمكننا أن نختم هذا الكلام قائلين إنه لم يكن ليسمح لنفسه حتى في أكثر رسائله حميمية أن يدع لجنون الفن أن يمارس عليه سلطانه بأي شكل من الأشكال.

المزيد من ثقافة