ملخص
تصارع صناعة الأجراس في لبنان من أجل البقاء مع الحرفي الوحيد الذي يعمل فيها متمسكاً بمعايير أساسية
تشهد الحرف اللبنانية على تراث، وما عرفه من إبداع في صناعات ازدهرت في ما مضى، صناعة الأجراس من تلك الحرف التي تميز بها لبنان، البلد الوحيد المصنع لها في الشرق الأوسط، ويصدر إنتاجه بنسبة كبيرة منه إلى مختلف دول العالم. أما اليوم فهي صناعة تصارع من أجل البقاء في ظل التحديات، خصوصاً مع الأزمة وارتفاع أسعار المواد الأولية المستخدمة فيها، وعلى رغم ذلك لا يزال صاحب المعمل الوحيد المتبقي في البلاد وفي الشرق متمسكاً بالصناعة التي توارثها أباً عن جد، فينقلها الآن إلى أبنائه لتستمر هذه الحرفة التي تعكس إرثاً عريقاً.
أجراس لبنان في العالم
في قرية "بيت شباب" الجبلية في قضاء المتن (جبل لبنان) التي تقع على بعد 20 كيلومتراً من العاصمة بيروت، أسهمت عائلة نفاع ولا تزال في الحفاظ على إحدى الصناعات العريقة في لبنان والشرق. فاستطاع أفرادها التطوير فيها مع مرور الزمن، مع حفاظهم على المعايير الأساسية التي لطالما ميزتهم في هذه الحرفة، إذ تبقى أصالة الأجراس التقليدية وجودة الصوت الصادر عنها من العناصر الأساسية التي لم يتخلوا عنها يوماً. وإذا كان من الممكن أن تطلب هذه الأجراس لتزيين المنازل أو باحاتها، إلا أن وجهتها الأساسية تبقى الكنائس والأديرة لتنذر بمواعيد الصلاة أو تدق في مناسبات معينة للحزن أو الفرح.
في معمل نفاع نفاع آخر أفراد العائلة العاملين في صناعة الأجراس في بلدة "بيت شباب"، وهي الوحيدة التي عرفت صناعة الأجراس يوماً، يعمل مع ولديه يوسف وشربل في صناعة الأجراس. فهما يساعدانه في العمل حتى أصبحا يحترفان ويتقنان هذه الحرفة تماماً كوالدهما، خصوصاً أنهما يواظبان على العمل يومياً بعد عودتهما من المدرسة. في جلسة ممتعة في المعمل الذي أقامه تحت منزله، تحدث نفاع بشغف عن هذه الحرفة التي توارثتها الأجيال حتى وصلته، لذلك هو حريص على نقلها إلى ولديه لإصراره على ألا يندثر هذا الإرث القيم.
بدأت قصة العائلة مع صناعة الأجراس منذ عام 1700، في وقت كان لبنان يستورد حاجاته من الأجراس قبلها من أوروبا، لكن عندما حصل الحصار البحري في ظل الحكم العثماني، فرضت الظروف العمل في صناعة الأجراس في البلاد لتلبية الطلب عليها. وبدت بيت شباب المكان الأمثل لانطلاقة هذه الصناعة لأنها كانت مزدهرة بالصناعات التي لديها وبالعاملين المحترفين فيها، ويصفها نفاع بـ"أم الصناعات". أما أول أفراد العائلة الذين عملوا في صناعة الأجراس، فكان يوسف نفاع الذي علم أولاده أيضاً، لتنتقل الحرفة عبر الأجيال. بين عامي 1700 و1900 انتشرت صناعة الأجراس في البلدة وهي حرفة لـ10 بيوت فيها، لكنها بقيت محصورة ضمن عائلة نفاع. ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى ارتفعت أعداد الوفيات في البلدة بسبب الأمراض والجوع وغيرها من تداعيات الحرب. لذلك لم يبق بعد الحرب من العاملين في صناعة الأجراس إلا أربعة بيوت تابع أفراد العائلة فيها في هذا المجال حتى الحرب العالمية الثانية التي قضت أيضاً على بيتين آخرين، فلم يتبق من العاملين في صناعة الأجراس إلا يوسف سليمان نفاع الذي كان له ولدان عملا في صناعة الأجراس ولم يتزوجا وتوفيا عام 2000، وبيت يوسف حبيب نفاع، وابنه نفاع نفاع الذي ورث المصلحة من أجداده الذين لمعت أسماؤهم ودقت أجراسهم في لبنان والشرق والعالم. لذلك تمسك نفاع بها حتى الرمق الأخير، إذ يستمر في العمل ليلبي لا الطلبات المحلية وحسب، إنما تلك التي من المشرق العربي مثل العراق وفلسطين ومصر وسوريا، بما أن الأجراس كافة فيها مستوردة من بلدة "بيت شباب"، فضلاً عن الدول التي تنتشر فيها الجالية اللبنانية في الغرب مثل كندا وأستراليا وأفريقيا والولايات المتحدة.
حرفة لها أصولها
ينقل نفاع عشقه لهذه الحرفة في حديثه عن تفاصيل إنجاز الأجراس، بكثير من الدقة، فيوضح أنه ينجز الجرس عبر صبه بالقالب المصنوع من مادة "الحوارة" البيضاء، وهي عبارة عن نوع من التراب الموجود في الأراضي اللبنانية، وهو يتحمل حرارة عالية، مما يسمح باستخدامه في صنع القوالب للأجراس، تعجن هذه المادة بالماء مع التبن ووبر الماعز لتتماسك مع بعضها، ولا تتفسخ ينجز هذا القالب على مراحل، خلال مدة لا تقل عن 40 يوماً، وتعتبر هذه المرحلة الأصعب في صناعة الجرس، ويصنع القالب من قسمين: أحدهما داخلي وآخر خارجي، وبينهما فراغ بمقاسات هندسية محددة تتطلب الكثير من الدقة والإتقان، ففي هذا الفراغ أو الفجوة التي بينهما تحديداً، تصب المواد الأولية لصنع الجرس بشكله النهائي.
وفق ما يوضحه الحرفي، يصنع الجرس من البرونز بنسبة 60 في المئة منه، ومن القصدير الصافي بنسبة 40 في المئة، لكن حكماً كون عملية بناء القالب تتطلب كل هذا الوقت، لا يكتفي ببناء قلب واحد في كل مرة، بل ينجز قوالب عدة لتسريع عملية التصنيع. أما صنع الجرس بذاته بعد تحضير القالب، فينجز خلال ما لا يزيد على 24 ساعة، لكن في كل مرة لا بد من هدم القالب وحرق مادة "الحوارة" بحيث لا يمكن استخدامه مرة ثانية. وبالتالي من الضروري بناء قالب جديد في كل مرة بسبب التقنية المعتمدة، علماً أن الأجراس تكون بمقاسات عدة وأوزان تراوح بين 100 كيلوغرام وألف 1000 كيلوغرام.
ويرفض نفاع التهاون في جودة المواد التي يستخدمها، واستخدمها أجداده قبله في صناعة الأجراس من مئات السنوات، لذلك هو حريص على الحفاظ على معايير معينة في المواد الخام المستوردة على رغم الظروف، ويستورد المواد الأولية من السويد أو من بريطانيا حصراً، أما السبب وراء إصراره على جودة المواد هذه المستوردة، فهو الحصول على جرس له طنة أجمل عندما يقرع، وإلا فيكون صنع جرساً لا صوت له.
تختلف الأجراس التي تصنع في لبنان عن تلك التي في بلاد الغرب، ويعود السبب للحرفية العالية والحرص على أدق التفاصيل والمعايير في إنجاز الأجراس "نحن نصنع جرساً وزنه 100 كيلوغرام، وله رنة يدوم صداها لأكثر من دقيقة، أما في الغرب فيحتاجون إلى جرس وزنه لا يقل عن 300 كيلوغرام حتى يستمر صدى رنته أكثر من دقيقة، بسبب طريقة التصنيع المختلفة والمواد الأولية المستخدمة، كما ننجز القالب وفق مقاسات هندسية دقيقة مع طريقة محددة لصب المواد الأولية في صناعة الجرس. أما في الغرب فيزيدون من سماكة الجرس لتعديل صوته، وهذا ما أرفض القيام به لحرصي على إنجاز عمل متقن للحصول على جرس له صوت لا عيب فيه من دون حاجة إلى إجراء تعديلات، فلا يمكن التلاعب بالمواد المستخدمة في صناعة الجرس ويجب أن تكون من المواد الخام بنسبة 100 في المئة من أجل تحقيق الهدف".
تحديات في ظل الأزمة
من الطبيعي أن تزيد التحديات في صناعة الأجراس كما بالنسبة إلى مختلف الحرف والصناعات في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، لا ينكر الحرفي الخمسيني أن المرحلة الأولى من الأزمة كانت الأصعب، عندما ارتفع الدولار بشكل سريع وغير متوقع، فكانت المشكلة في ارتفاع أسعار المواد الأولية بمعدل الضعف، كان كيلوغرام الجرس يباع بـ30 دولاراً أميركياً، وأصبح اليوم يباع بـ60 دولاراً لأنه مستورد، مع ارتفاع تكاليف الشحن والرسوم الجمركية وأسعار المواد الأولية المستوردة، وعلى رغم ذلك لم يتوقف الطلب خلال الأزمة، خصوصاً بوجود مغتربين يقدمون الدعم ودول داعمة أيضاً للأديرة والكنائس، يضاف إلى ذلك أن نفاع هو صانع الأجراس الوحيد في المنطقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في حفاظه على هذه الصناعة التي ورثها من أجدادها، حرص نفاع على التطوير في صناعة القالب متمسكاً ببقية المعايير المعتمدة مع مرور الأجيال، فقديماً كان القالب ينجز خارجاً تحت أشعة الشمس خلال فصل الصيف، وكان الحرفي ينجز حوالى 30 قالباً صيفاً ليعمل على صنع الأجراس تدريجاً في الشتاء بحسب الطلب، أما اليوم فطور هذه الصناعة لتواكب الارتفاع المتزايد في الطالب، فيبني القالب داخل المحترف الخاص به بطريقة أسرع، كما خفف بنسبة عالية من الصعوبات في صب الجرس مع تغيير طريقة بناء القالب لتصبح أكثر سهولة ودقة، لكن في كل الحالات، يبقى الجرس نفسه سواء كان من 300 عام أو إذا صنع اليوم، فلا يختلف في تفاصيله.
في المقابل يمكن اليوم صنع الأجراس التي تعمل على الكهرباء بتقنية معينة عبر تركيب نظام يجعله يرن بطريقة أوتوماتيكية، لكن يصدر الصوت نفسه عنه، تماماً كما في الجرس التقليدي، بسبب الحرص على التفاصيل الدقيقة في إنجازه بالطرق التقليدية المعتادة.
بتعليم ولديه الحرفة، ينقل نفاع إليهما صناعة يجب ألا تزول، ويشدد على ضرورة أن يتقناها وينقلاها إلى أولادهما مستقبلاً لتمسكه بهذه الصناعة اللبنانية التي وصلت إلى العالم، وفي الوقت نفسه هو أشد الحرص على الحفاظ على المعايير والدراسة المتقنة في هذه الحرفة بمعايير معينة ومقاييس هندسية دقيقة، وإن أدخلا إليها شيئاً من التطور، حفاظاً على جمالية الأجراس وصوتها.