كأن الجريمة حدثت في الأمس فقط مع أن أكثر من 60 عاماً مرت على اقترافها، فقد حدث ذلك تحديداً يوم 17 يناير (كانون الثاني) 1961 في عاصمة الكونغو. ففي ليلة أفريقية هادئة عكر ذلك الهدوء مشهد غريب ومقابري حين تسلل رجلان أبيضان ثملان بعدما شربا ما شرباه، ويبدو واضحاً أن قدراً كبيراً من الارتباك يسيطر عليهما. وكان الارتباك ناجماً عن المهمة التي كلفا أداءها، وهي تتلخص ببساطة في إخفاء ثلاثة أجساد ملفوفة بقماش تصبغه دماء غزيرة. كانت الأوامر التي وجهت إليهما تقضي بألا يتركا أي أثر يدل على وجود ما لـ"القتلى" الثلاثة. وهما كانا يعرفان أسماءهم ومكانتهم: جوزيف أوكيتو وموريس مبولو وباتريس لومومبا. ولعل ما كان يرعب الأبيضين ذلك الصوت الذي راح يدوي في هدأة الليل، صوت هذا الأخير الذي كان المطلوب الآن أن ينكر عليه موته تماماً كما أنكرت عليه حياته. على هذا النحو يبدأ فيلم "لومومبا" الذي حققه في عام 1999 المخرج راؤول بيك عن سيناريو كتبه بنفسه مع الناقد والسينمائي الفرنسي باسكال بونيتزر. وربما يبدو اسم لومومبا غريباً ومنسياً بعض الشيء اليوم، لكنه يشير إلى واحدة من أساطير تلك السنوات المباركة التي كانت تشهد كثيراً من الاستقلالات وتغيرات كان معظمها يبدو إيجاباً على الصعيد العالمي، ولا سيما على صعيد الكرامة الإنسانية في البلدان التي كانت مستعمرة ومنهوبة ومقموعة منذ بدايات التقاسم الأوروبي للمناطق الأفريقية وغير الأفريقية، بخاصة عند منتصف القرن الـ19. كانت تداعب أهل تلك البلد الأصليين آمال.
مصير العالم الثالث
في نهاية سنوات الـ50 كان لومومبا واحداً من الأسماء الكبيرة في ما كان يسمى حينها "العالم الثالث"، بل كان الوجه الأكثر إشراقاً بين الوجوه النيرة التي برزت في عالم السياسة العالمية مقارعة الاستعمار محاولة أن تخلق قدراً جديداً للبشرية، لكن سياسات ما كان قد تبقى من القوى الكولونيالية استشرست في معارك دامية راحت تتخذ أشكالاً متنوعة. أما بالنسبة إلى لومومبا فقد كان من نصيبه أن الشكل الذي اتخذته المعركة ضده كان الأكثر دموية وتراجيدية. وكان ذلك ما حوله حتى قبل مقتله إلى أسطورة. غير أنها كانت أسطورة غريبة، حيث إنها لم تعش سوى شهرين، وهما الشهران اللذان يحكي فيلم راؤول بيك حكايتهما محاولاً أن يعيد إلى الواجهة تلك الشخصية الهادئة الصلبة التي كانت قد غابت عقوداً طويلة خيل لكثر أنه لم يبق منه سوى زاوية متواضعة في كتاب تاريخ القرن الـ20، إضافة إلى اسم أطلقه الاتحاد السوفياتي على جامعة فيه كانت مكرسة للطلاب المبتعثين إلى تلك الدولة التي لم يعد لها وجود، فهل لا تزال الجامعة موجودة اليوم؟ من بلدان أكثر بؤساً. واللافت أن الفيلم حتى وإن كان قد عرض في تظاهرة نصف شهر المخرجين في مهرجان كان السينمائي، لم يتمكن من لفت الأنظار حقاً. وكأن الأسطورة دفنت من جديد.
أزمنة متغيرة
ومع هذا كان الفيلم وصاحب الحكاية التي يرويها يستحقان أكثر من ذلك المرور العابر، ولكن مياهاً كثيرة مرت تحت الجسور منذ مقتل لومومبا ورفيقيه، وعرف العالم من التغيرات والجرائم ما يفوق التصور، بل ما يفوق ما كان من شأنه أن يملأ كوابيس أي واحد من أولئك الحالمين الذين عايشوا عصر لومومبا الذي كان رفيقاً لتيتو ونهرو ونكروما وسوكارنو وعبدالناصر وحفنة أخرى من وجوه كانت تعتقد ويعتقد محبوها أنها ستغير العالم. لكن العالم لم يتغير كما كان كل هؤلاء يشتهون، لأن مصائرها هي نفسها عجزت عن أن تتغير. ولعل هذا ما يحاول مخرج هذا الفيلم أن يقوله هو الذي كان، قبل سنوات من تحقيقه هذا الفيلم الروائي الفذ عن لومومبا، قد حقق فيلماً أولاً عنه أتى في تلك المرة (عام 1991) وثائقياً. ومن هنا لن يكون بعيداً من الصواب حين قال إن غايته لم تكن تصوير فيلم عن حياة لومومبا، ولا حتى فصلاً من حياته، بل بالتحديد تصوير الكيفية التي تموت بها الأساطير وتشتغل بها السياسات "الواقعية" أي سياسات الدم البارد التي تقترف جرائمها وكأنها تلعب لعبة شطرنج بسيطة على رقعة لعب هي العالم كله. ومن هنا قال المخرج إنه للتوصل إلى إعادة أسطورة لومومبا إلى الحياة "تصورت ورفيقي في العمل باسكال بونيتزر، عدة حلول منها الاشتغال انطلاقاً من تقارير بعثة الأمم المتحدة بالكونغو في ذلك الحين والتي فتحت تحقيقاً في الجريمة، أو تصور كونغولي شاب ينتمي إلى زمننا الحاضر يحاول أن يعرف ما الذي حدث في تلك الأيام التي كم تبدو له الآن بعيدة"، لكن الأمر استقر به في نهاية المطاف على الانطلاق من الجريمة نفسها والتراجع الزمني بعد ذلك، للتوقف عند تلك السنوات الزاهية ثم الأليمة والتي شكلت التمهيد لتلك النهاية التي يبدأ بها الفيلم: 1957 – 1960. وكان ذلك "لأنني قررت أن يكون فيلمي سياسياً ولا يكتفي بأن يكون حكاية مقتل سياسي". والواقع أن الكونغو مر خلال تلك السنوات وبشكل سيبدو لاحقاً مباغتا من بلد مستعمر على الطريقة البائدة إلى بلد حصل على استقلاله. وعند بداية تلك السنوات القليلة والتي تبدو سريعة اليوم، يتحول لومومبا أمام أنظارنا من موظف في البريد ومروج لصنف بلجيكي من الجعة، إلى ذلك الزعيم المحبوب والمحترم للحركة الاستقلالية الكونغولية، إذ يتمكن من فرض مكانته ورؤيته السياسية بفضل موهبته الفكرية وعزيمته وحلمه بالوصول بالكونغو لأن يكون بلداً حراً وموحداً.
الاستعمار بالمرصاد
ولكن السلطات البلجيكية المستعمرة الكونغو كانت له بالمرصاد، كما يخبرنا الفيلم، فقد قبضت عليه في بروكسل حين كان يشارك في مؤتمر كان هو من أطلق الشرارة الاستقلالية، وكانت نتيجة ذلك أن حقق حزبه انتصاراً مدوياً في أول انتخابات عرفها الكونغو المستقل. وكان ذلك الانتصار مزعجاً ليس فقط للبلجيكيين الذين رأوا مصالحهم في خطر، بل كذلك لرفاق درب لومومبا من السياسيين الكونغوليين النهمين للتحكم بمصير البلد ولو باتوا أدوات في يد المستعمر القديم، والقادة العسكريين المستوطنين الأوروبيين من الذين كانوا أول الأمر يعتبرون الاستقلال مجرد شعار وكلام في الهواء، فإذا بذلك الرجل ذي الكاريزما الهائلة يخبط يده على الطاولة قائلاً إما أن يكون الاستقلال استقلالا حقيقياً أو لا يكون. وهو عزز موقفه حين تسلم رئاسة الحكومة في نهاية المطاف، لكن كل أولئك الذي باتوا غير قادرين على الالتفاف عليه بدأوا يجمعون جهودهم ويتحالفون فيما بينهم للتخلص منه. وكانت أول محاولاتهم في ذلك دفع إقليم كاتانغا للانشقاق عن الدولة المركزية ليتلو ذلك تدخل قوات الأمم المتحدة ثم مجازر طاولت مستوطنين أوروبيين فيها. وبات واضحاً أن الأمور لم تعد تحت السيطرة. ولافت هنا أن الفيلم راح يقدم هذا كله من منظور لومومبا نفسه ليروي لنا كيف أنه راح يدور في أرجاء البلاد محاولاً طمأنة الشعب. وهو إذ تلمس التفاف الشعب من حوله لم يدرك أن حلف أعدائه راح يتوسع ليشمل، سراً على أية حال، عددا كبيراً من المقربين إليه وعلى رأسهم كازافوبو وموبوتو اللذان كانا لا يكفان عن إعلان الولاء له.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
انتصار حلف مقدس
وهكذا بالتدرج أمام هذا الحلف المقدس لم يدرك لومومبا إلا متأخراً أن مقر رئاسة الوزراء قد أضحى سجنه الكبير. وهو حين أدرك ذلك حاول الهرب للانضمام إلى أنصاره في الشمال، لكن قوات صديقه الأقرب موبوتو قبضت عليه وراحت تمعن في تعذيبه قبل أن تسلمه إلى المنشقين في كاتانغا وهو لا يزال حتى اللحظات الأخيرة مؤمناً بأنه لا بد للغادرين به أن يرتدعوا ما داموا لا يزالون يراسلونه مبدين حسن النوايا تجاهه. ومن هنا لا شك أنه كان أول المفاجأين حين تم التخلص منه في نهاية الأمر بالطريقة التي وصفها المخرج في بداية الفيلم. هذا الفيلم السياسي إلى حد التخمة، لكن مع لمسة عاطفية تمثلت في نص مأخوذ من رسالة يخبرنا الفيلم أنها كانت آخر رسالة بعث بها لومومبا إلى زوجته بولين ختم بها راؤول بيك فيلمه، وفيها يقول لومومبا بالكلمات التي لم يتوقف يوماً عن الإيمان بها، "إن التاريخ هو الذي سيقول ذات يوم كلمته، لكنه لن يكون التاريخ الذي يدرس في واشنطن أو باريس أو بروكسل، بل ذلك الذي سيدرس في البلدان المنعتقة من الاستعمار وبيادقه. أما أفريقيا فهي التي ستكتب يوماً تاريخها الخاص، والذي سيكون من شمال الصحراء الكبرى إلى جنوبها تاريخ مجد وكرامة". ولا شك أن فيلم راؤول بيك هذا عرف كيف يكون جزءاً من ذلك التاريخ، ولذا قد يحتاج إلى زمن آخر قبل أن يصبح حتى كفيلم سينمائي تاريخاً يقوم بلعب دوره في حياة أصحاب العلاقة الذي لم يشاهده كثر منهم على أية حال.