لعل ما يمنح كتاب "الاستشراق" للمهندس المعماري الأردني رائد أرناؤوط الصادر حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر أهميته هو أنه يخوض في مجال معرفي قلما خاض فيه الاستشراق، ذلك أن الدراسات الاستشراقية المتعلقة بالفنون والعمارة الإسلامية قليلة "إذا ما قورنت بالدراسات الموجهة نحو الإسلام كتاريخ ودين وفلاسفة"، وهو ما يعزوه إدوارد سعيد إلى اعتماد الاستشراق على المخطوطات النصية أكثر من اعتماده على الأشياء والمصنوعات. والكتاب هو الثاني لصاحبه في هذا المجال المعرفي بعد "الاستشراق في العمارة العربية إشكالية بناء الفكر والهوية" الصادر في عام 2009، والكتابان يعدان من المحاولات الأولى لـ"توثيق التاريخ الحديث للعمارة في المنطقة العربية بأسلوب تحليلي متعدد المستويات"، وقراءة "الواقع المعماري العربي من خلال المؤثرات الأساسية التي أسهمت في تكوينه ولا تزال تعمل على صياغة توجهاته المستقبلية"، مما يجعل منهما دراسة مرجعية في موضوعها وحاجة فعلية للمكتبة العربية. أما الكاتب فهو معماري ومهندس وباحث وناقد معماري ومحاضر أكاديمي، ما يصح معه القول المأثور: "أعطي القوس باريها".
يقع الكتاب في مقدمة وأربعة أجزاء و12 فصلاً، بمعدل أربعة فصول لكل جزء من الأجزاء الثلاثة الأولى، بينما يخرج الجزء الرابع عن هذا التفصيل ليقتصر على خاتمة تشغل نيفاً و70 صفحة، على أن الجزء الأول منه، بفصوله الأربعة، يتناول المنظور الاستشراقي الذي يتم النظر منه إلى العمارة العربية، بينما تتناول الأجزاء الثلاثة الأخرى المنظور إليه، وهو العمارة العربية في تاريخها وتمظهراتها، خلال القرون الثلاثة الأخيرة.
في مقدمة الكتاب يطرح أرناؤوط سؤالاً: "لماذا الاستشراق؟"، وفي معرض الإجابة عنه يشير إلى اتخاذه منظوراً لدراسة العمران الذي يشكل جزءاً من الهوية الثقافية ويدرس من خلاله التحولات العمرانية والإشكاليات التي تثيرها في البيئة المدروسة، لا سيما إشكالية الهوية في الثقافة العربية في ارتباطها بالجذور وعلاقتها بالآخر، ويحدد أهداف الدراسة والتقنيات المنهجية المعتمدة فيها ومبررات اعتمادها، ويبين آلية تحقيق الأهداف من خلال "تحليل الاستشراق ثقافياً"، وهو ما يدخل في باب المنظور منه، و"مناقشة إسقاطاته على الناتج العمراني والحضري"، وهو ما يدخل في باب المنظور إليه.
ازدواجية المستشرقين
في المنظور منه يدرس أرناؤوط الاستشراق في: جذوره المعرفية وعلاقته بالسلطة المعرفية وأبعاده الحديثة ووترجحه بين الأزمة والتجديد، وهو في إطار هذه الدراسة يقدم في الفصل الأول معرفة تاريخية بموضوعه بين القرنين العاشر والـ18 الميلاديين، يتوقف فيها عند بداياته وزوايا النظر إليه ودوافعه، ويخلص إلى القول باختلاف الباحثين في تحديد البدايات، وتعدد المنظورات الغربية إليه، وطغيان المنظور السلبي على ما عداه، وتغليب الدافع الديني فيه على الدوافع الأخرى. ويتناول في الفصل الثاني الاستشراق السياسي في علاقته بالاستعمار من خلال تزويد بالذرائع والمبررات قبل حدوثه، مما يشي بازدواجية دور المستشرقين بين العلمي والإمبريالي، ويرصد تمظهرات هذا الدور من خلال كتاب "وصف مصر" الذي يشكل ناتجاً نصياً لحملة نابليون بونابرت على مصر وقناة السويس التي تشكل طرحاً تكنولوجياً استشراقياً. ويدرس في الفصل الثالث أبعاد المعرفة الاستشراقية الحديثة بما هي منهجيات وأدوات ومجالات، فيتوقف في الأولى عند المنهج الفردي والفيلولوجي والتاريخي والاجتماعي، ويتوقف في الثانية عند الكتب والمجلات والإرساليات والمحاضرات والمقالات والموسوعات والمؤتمرات والمعارض والجمعيات والمكتبات وشبكة المعلومات، ويتوقف في الثالثة عند الدراسات الإسلامية والأدب والفنون والعمارة.
ويستكمل التعريف بالمنظور منه، في الفصل الرابع من الجزء الأول، بالمقارنة بين مناهج استشراق قديمة تتدرج في رؤيتها إلى الآخر من عدو في العصور الوسطى إلى موضوع في عصر الأنوار، ومناهج جديدة تصدر عن منظور إنساني وتقول بالاختلاف والتعددية وتفكيك الثنائيات وإلغاء التناقضات، من جهة، ويقارن بين ثلاثة أجيل من المفكرين العرب في تعاملها مع المعرفة الاستشراقية، يصدر الأول منها عن خلفية دينية، ويضم في عداده محمد عبده وجمال الدين الأفغاني. ويصدر الثاني عن خلفية تنويرية ويضم في عداده طه حسين وعلي عبدالرازق. ويصدر الثالث عن خلفية نقدية، ويضم في عداده أنور عبدالملك وإدوارد سعيد.
الحوار العمراني
في المنظور إليه الذي تتمحور حوله الأجزاء الثلاثة الأخرى يدرس أرناؤوط في الجزء الثاني من الكتاب الاستشراق والعمارة الإسلامية بإلقاء الضوء على بدايات فن الاستشراق والمعارض الدولية والاستشراق المعماري في القرن الـ19 والتنمية الحضرية للمدينة الإسلامية. ويدرس في الجزء الثالث مرجعية العمارة العربية المعاصرة في: منهجياتها الفكرية ونماذجها التمثيلية وتوجهاتها المعاصرة وتجلياتها في المدينة العربية المعاصرة ومعارضها الدولية أواخر القرن الـ20. ويختم الدراسة في الجزء الرابع والأخير بقراءة منهجية لدراسة الاستشراق في: بعده المعماري وعلاقته بالعولمة وتجلياته في المعارض الدولية الأخيرة والتحديات التي يطرحها ضمن البيئة المبنية. وبنتيجة هذا الدرس نخلص مع الدارس إلى أن الحوار العمراني بين الشرق والغرب يعود إلى فترة ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي، ويتطور في القرن التاسع خلال حكم هارون الرشيد في الشرق وشارلمان في الغرب، ويستمر في التطور خلال الحروب الصليبية وعصر النهضة الأوروبي. وتتعدد تمظهرات هذا الحوار في المراحل التاريخية المختلفة، وتراوح ما بين تزيين كاتدرائية في فلورنسا بموتيف شرقي إسلامي، وإنشاء مقاهٍ وحمامات تركية في بريطانيا في القرن الـ17، وظهور دراسات غربية حول عمارة الشرق، وتوثيق صروح معمارية في كتاب "وصف مصر"، ولوحات أنطوان جان غرو خلال حملة نابليون بونابرت على مصر، ودراسات العمارة في إسبانيا والجزائر والقاهرة وإيران، وغيرها. على أن الملاحظة التي يتواتر إبداؤها في هذه التمظهرات هي أن الدرس الاستشراقي للعمارة العربية الإسلامية كثيراً ما يعمد إلى إخفاء هويتها الأصلية بالتحوير والتشويه والتغريب، فلا تبقى كما كانت، ولا تكتسب هوية جديدة. ولعل هذه الملاحظة نابعة من تغليب السياسي على العلمي في الدرس الاستشراقي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا يقتصر الجهد المبذول في الكتاب على التوثيق التاريخي للعمارة العربية الإسلامية من منظور الاستشراق، بل يتعدى ذلك إلى الجانب الوصفي للناتج المعماري الذي لا يخلو من أحكام نقدية فنية. لذلك، يولي الدارس اهتماماً خاصاً للمعارض الدولية وتمثيلات العمارة العربية فيها، فيتناول بالوصف والنقد 28 معرضاً دولياً، بدءاً من معرض لندن عام 1851، مروراً بمعارض باريس 1867و1878 و1889 و1900، وفيينا 1873، وشيكاغو 1893، وإشبيليا 1992، وهنوفر 2000، وانتهاءً بمعارض آيشتي 2005، وشنغهاي 2010، ودبي 2020. وهو يفرد حيزاً خاصاً في وصفه للأجنحة العربية في هذه المعارض الدولية.
ثمة ملاحظات يبديها أرناؤوط في دراسته العمارة العربية الإسلامية من منظور الاستشراق، تتعلق بمجال الدرس وحجمه وأدواته والمنهجية المعتمدة فيه وعلاقته بالهوية، وغيرها، من قبيل: تأخر اهتمام الاستشراق بمجال العمارة نحو ألف عام عن المجالات الأخرى، وإسقاط مفاهيم قديمة على الناتج العمراني الحديث، وقلة التوجهات المعمارية المشمولة بالدرس الاستشراقي مقارنة بالتوجهات الدينية والأدبية، وتطور أدوات الدراسة لتشمل شبكة المعلومات ووسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي، والخروج على العولمة ومقتضياتها، وتبلور هوية معمارية جديدة مطلع القرن الحالي في بعض المدن العربية، وإنشاء مشاريع غريبة عن هويتنا المعمارية تبرز التفوق الغربي ما يضعها في قلب العملية الاستشراقية بالمعنى السياسي للكلمة، وغيرها. وإذا كان الانطباع السلبي عن ظاهرة الاستشراق ببعده المعماري هو ما تنضح به الدراسة، فإنها لا تفوتها الإشارة إلى إيجابيات كثيرة تغلب على الظاهرة بأبعادها الأخرى مما لا يتسع المجال لذكرها. ولا بد من الإشارة، في ختام هذه القراءة إلى أن الكتاب يزخر بكثير من الصور الفوتوغرافية لمعارض ومعالم عمرانية، مما يشكل قيمة أخرى تضاف إلى الكم الكبير من المعلومات والملاحظات والأفكار والحقائق التي يزخر بها، مما يجعل منه كتاباً مرجعياً في مجاله، لا غنى عنه للدارسين والمتخصصين وأصحاب الاهتمام.