تعرض هالا مزنّر (1968) سلسلة أعمال في غاليري أجيال البيروتية. تنتقل في هذا المعرض الفردي، الثاني في مسيرتها، من التركيز على الجسد وتقلّباته، إلى اللوحة ليس بوصفها أداةً إنما طريقة للخلق والتحضير، فيخرج العمل متمايلاً بين الإثنين: رواسب المادة المستخدمة واللوحة التي تكتمل شيئاً فشيئاً.
نبدأ من العنوان الذي يحملُ فرضيّة لو أنّ المادة قادرة على الكلام، فتفترض الفنانة مسبقاً أنّ المادة قادرة على ذلك. هذا ما تحاوله اللوحات وتستدرجنا إليه. لوحات يجتمع في خلفيتها الفن مع الفكرة، ليثبت لنا لاحقاً أنها صماء وموحية، خرساء مع فسحة مفتوحة على السؤال. تطلع اللوحات من حياتين، سابقة وحالية. ففي معرضها الأول كانت الأعمال عبارة عن رحلة علاج، توصيف للجراح وهي تلتئم. في مراحل لاحقة انتهت رحلة الجسد وذهبت إلى تجربة أكثر روحية. تجربة المعرض الحالي على علاقة وثيقة بالمادة، اشتغال بمقدار ما تساعد المادة وتتفاعل. والمواد هنا مطواعة. هي أشبه برحلة صراع بينها وبين المادة.
ما وراء اللوحة
التجربة الحالية التي تقدمها مزنّر خاصة. ربما لأنها تُحيل إلى ما بعد اللوحة. النظام الخفي وراء اللوحة. وراء كل شيء. رحلة ذهاب وتواصل مع هذا النظام، لتخرج بهذه الحالات اللونية، فلا شيء يحكمه العقل البشري، ولا مكعبات ولا دوائر. إنما تعويل على تفاعلات المواد بعضها مع وتوليداتها واشتقاقاتها.
تدرك مزنّر أنّ الطريقة التي تقدمها هي مجرد اقتراح لكنه اقتراح جدي، يجعل المشاهد يقف أمام رحلة من الانطباعات حول مكونات اللوحة وكيفية الوصول إليها. ما هي المواد التي تشترك وتجتمع في صياغتها؟ ألوان، ومساحيق الحجر والسيليكون واللاتكس والشاش والزيت وربما الإيبوكسي وغير ذلك من الوقت والانتظار وتقلبات المادة وغليانها. مواد كثيرة تقدمها قائمة على حركات تدور وتتقلب لتشكل هذه البقع اللونية والجبال من المواد المتفاعلة المستقرة بعد انتظار في صيغتها شبه النهائية المعروضة في الصالة.
يمكننا أن نتحدث عن قوة التأليف رغم أننا لا نراها في بعض المساحات، إنما يمكن أن نسأل عن خصائص بعض المواد في بيئتها ونسيجها. المزج والتلطيخ والتكسير والردم والصب والقساوة في الضربة والطرح، هي الفضاءات التي تتجول فيها لوحة مزنّر. المكان الذي يتحول في نهايته إلى فضاء تُقام فيه هده العلاقة بين الصورة المقدّمة (اللوحة) والمواد المتفاعلة.
لسنا أمام أعمال في المعنى الحرفي للكلمة وإنما أشبه بمشاريع قيد الإنجاز. عمارات لونية وسلسلة متشعبة من المواد التي تجتهد لتأتلف في إطار لوحة. ما يُطرح بعد رؤية الأعمال هو حول عملية بنائها والأثر الذي يمكن أن تخلفه في المتلقي، خصوصاً وأن مزاجاً واحداً هو الذي يحكم الأعمال ويسيرها.
تشققات موحية تشبه الرئة أحياناً، وأحياناً نرى صحارى وتلالاً وجزراً وأوجهاً مدماة. وفي مقلب آخر نرى شموعاً ذائبة، نتوءات، صوراً على حائط مدرسي قديم ومهجور. وفي لوحات أخرى لوحات يبدو اسكتشاف، بحر صاخب في الداخل. يبرز الأحمر لوناً عنيفاً في بعض الأعمال. السلام الذي كان مسيطراً صار دامياً. اختيارٌ لونيٌ صارخ وأليم. حروبُ مرايا، حروبُ دم، وآثار قدائف، وكأنك ترى المشهد بطريقة بانورامية من فوق، من الأعلى.
كلمات مفتاحية تساعدنا على فهم ما تقدمه الأعمال: الوقت، طبقات، جلود، تشققات أوجاع. ربما تختصر هده الكلمات صيرورتها. سحب الشيء بالقوة من مكانه ووضعه في لوحة. الجروح والتقرحات في لوحاتها منها، ما هو جديد وطري، ومنها ما هو قديم امتد وتعشق. الأخضر حاضرٌ أيضاً وينبض بالحياة وذو خلفية داكنة. الألوان التي تسيلُ تجعلنا نعتقد أننا أمام تسلسل زمني أو حدث صادم في المنتصف وتتدرج حوله بقية الأشياء. لوحات تصور شيئاً كان موجوداً، أشبه بفصول الانتصار على المعاناة.
اللوحة في عزلتها
في سلسلة بعنوان "وجوه وألوان" تبدو الوجوه من ألوانها متدرجة وتراقب تطور الأشياء من خلال رحلة الألوان. الفنانة ربما في لحظات التجلي تلعب على الحدث وتسيطر عليه لكن بعيداً من الوعي، مقتربة من التجربة التي تغلف الأعمال بكليتها. هنا شغلٌ على الحدث، تحضيرٌ للحدث، ولكن من دون معرفة أو ضبط لما سنحصل عليه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الشكل المقدم والصورة يبرزان قبل المعنى، المعنى يحتاج إلى وقت للتفكير به أو الوصول إليه. نرى ذلك من تجاور البقع والحفر وتساقط الزيوت على حواف اللوحة. الداخل لا يُرى إلا انطلاقاً من المساحات الهندسية التي تبدو للوهلة الأولى غير مفهومة، لكنّ رؤيتها لمرة ثانية تجعل الأعمال مألوفة للعين.
في معرضها الفردي الثاني تدعونا هالا مزنّر إلى الخروج من بوتقة الأعمال الأولى، إلى سلسلة أعمال مؤلفة من أمكنة الطبيعة. الطبيعة وتفاعلاتها. أن نترافقَ لنرى كما ترى هي الأشياء من فوق. كل ما تراه، تجده في الطبيعة. نحن أمام تجربة مجروحة. الكواكب، الخلايا والشجرة. تجربة تذهب بها بعيداً وتحتاج إلى الوقت كي تتقشّف وتختمر.كأنها تبني شيئاً على شيء. التحشيد اللوني والمواد التي تتضارب وتجتمع بعضاً فوق بعض. اللوحة هنا ذات مهمة، بعيداً من كل التأويلات التي قد تلحق بها. المهمة المنسوبة إليها تجعلها تلتقي مع الشعر في إشكالياتها وأسئلتها، وكأنّ اللوحة تطلع هكذا من عزلتها، إلى فضاء من التواصل اللامحدود.