ملخص
جرترود شتاين كتبت سيرتها من خلال أليس ورسم بيكاسو نفسه من خلالها
طوال ما يقارب أربعة أشهر تعيش الحياة الفنية الباريسية هذه الأيام تحت ظل فنان القرن الـ20 بابلو بيكاسو، ليس بفضل معرض واحد كالعادة، بل بفضل معرضين، أحدهما يستعرض المئات من رسومه واسكتشاته دون أن يحمل جديداً، أما الثاني فجديده يبدو بالغ الأهمية لأنه يستعيد ملامح أساسية من الحياة الفنية الباريسية خلال النصف الأول من القرن الـ20، وتحديداً من خلال العلاقة التي قامت بين بيكاسو نفسه والكاتبة الأميركية جرترود شتاين التي يبدو المعرض مناسبة لإعادة اكتشافها من جديد أكثر مما يبدو مناسبة لإعادة اكتشاف بيكاسو. فلئن كان هذا الأخير بغير ما حاجة إلى أن يكتشف وبغير ما حاجة إلى مناسبة كي يطفو من جديد على سطح الحياة الفنية، فإن جرترود تبدو دائما في حاجة إلى ذلك.
وهي حاجة أطلقها على أية حال وودي آلن من جديد قبل سنوات من خلال استحضار جرترود كشخصية عابرة في فيلمه "منتصف الليل في باريس" كما تستحضرها بين الحين والآخر لوحة بيكاسو التي رسم فيها "بورتريه" لها يخيل للمتفرجين عليها دائماً أنها تمثل الرسام نفسه أكثر مما تمثل موديله! ومن هنا يبدو المعرض المعنون "اختراع اللغة" معرضاً يعيد الاعتبار إلى تلك المرأة الغريبة التي عرفت بين "أبناء الجيل الضائع" من الأميركيين الذي عاشوا في باريس خلال النصف الأول من القرن الـ20 بكونها كاتبة وشاعرة وصحافية وراعية للفنون، لكن الجمهور المثقف العريض لم يعرف ما يكفي عن حياتها إلا من خلال لوحة بيكاسو ثم خاصة من خلال كتاب سيرتها الذي عنونته "السيرة الذاتية لأليس ب. توكلاس".
ضياع في لعبة المرايا
ولنبادر هنا إلى القول إن الكتاب إنما هو سيرة جرترود شتاين نفسها ولكن من خلال لعبة مرايا ضافرت فيها بين سيرتها الخاصة وسيرة أليس التي كانت صديقته ومساعدتها وكل شيء في حياتها. والحكاية كلها تتسم على أية حال بقدر كبير من التعقيد على رغم بساطة أسلوب هذا النص الذي كتبته جرترود ونشرته في باريس، غير مهتمة بأن يضيع القارئ حقاً وسط لعبة المرايا التي شاءت إدخاله فيها. فنحن في الحقيقة أمام سيرة حياة جرترود نفسها التي يفترض أن تكون أليس كاتبتها. والأدهى من هذا أن النص كله يروى من طريق أليس التي تبدؤه بالحديث عن نفسها وطفولتها وشبابها حتى لحظة لقائها جرترود فتنضم إليها صداقة وعملاً. ومنذ تلك اللحظة يتحول النص ليصبح سيرة لهذه الأخيرة بقلم الأولى. ومن الواضح أننا هنا أمام لعبة أسلوبية طريفة شاءت الكاتبة أن تستخدمها لكتابة هذا النص الذي ستقول لاحقاً إنها إنما أنجزت صياغته "بمساعدة أليس" خلال 18 يوماً، وإنها لم تكتبه إلا لأنها كانت في حاجة إلى المال الذي كانت واثقة أن نشر النص سيوفره لها. وشتاين كانت في حاجة دائمة إلى المال كي تنفق على حياتها الفخمة في باريس وعلى أصدقائها الرسامين، إذ تشتري لوحاتهم، والكتاب، إذ تنفق عليهم ريثما يتمكنون من نشر أعمالهم. وهذا كله نجده في الكتاب الذي حقق نجاحاً كبيراً أولاً حين نشر على حلقات قبل أن ينشر في كتاب. وهو حقق النجاح على رغم إبداء عديد من أصدقاء جرترود، بمن فيهم أخوها الناقد الفني ليو، استهانتهم به. ويشكل مادة أساسية من مواد المعرض الحالي.
من يحكي حكاية من؟
تقسم الكاتبة النص إلى مجموعة من فصول يمثل كل واحد منها فصلاً من حياتها، ولكن قبل ذلك من حياة أليس ب. توكلاس التي "تحكي" لنا كيف كانت حياتها "قبل أن آتي إلى باريس"، هي التي ولدت في سان فرانسيسكو، ومن ثم تعرفت إلى جرترود خلال الحريق الذي اندلع بالمدينة في عام 1905 لتقرر بعد ذلك الانتقال معها إلى باريس. وعن وصولها إلى باريس تتحدث أليس في الفصل التالي مركزة هذه المرة على الدور الذي لعبته خادمة تدعى هيلين في حياتهما المنزلية ثم لقاءاتهما مع بيكاسو... وهنا تبدأ الحكاية انتقالها إلى شتاين نفسها وإلى علاقاتها بكبار الرسامين، ولا سيما بأعمال سيزان وماتيس التي راحت تشتريها من آمبرواز فولار. ومن هنا ننتقل في الكتاب إلى جولات قامتا بها في إسبانيا وإيطاليا قبل العودة إلى باريس، حيث كانت الخناقة الشهيرة بين جرترود وأبولينير. في اختصار يبدو النص هنا نوعاً من الوصف للحياة الفنية والاجتماعية المختلطة في العاصمة الفرنسية آنذاك.
كاتبة أم غير كاتبة؟
مهما يكن إذا كانت جرترود شتاين لا تزال تذكر حتى يومنا هذا في الكتب التي تؤرخ للحياة الأدبية في فرنسا أو في الولايات المتحدة خلال النصف الأول من القرن الـ20، فإنها تذكر كحالة خاصة وكصاحبة صالون أدبي، وكواحدة من ذلك الجيل من الأميركيين والأميركيات الذين آثروا، أن يعيشوا الحياة الأوروبية بين الحربين، بدلاً من الحياة الأميركية، بمعنى أن جرترود شتاين الأكثر أهمية، أي الكاتبة ذات الأساليب المتنوعة تكاد تكون منسية. على أن جرترود شتاين نفسها لم تسهم كثيراً في إضفاء طابع شديد الشرعية على كونها كاتبة، على رغم وفرة ما كانت تكتبه، مفضلة أن تكون جزءاً من الحياة الثقافية، ونوعاً من العنصر الذي يجمع الأدباء والفنانين ويقدم لهم إطاراً يعملون ضمنه ويتحركون. من هنا كان بيتها الباريسي يعد على الدوام بيتاً لكل من لديه موهبة كتابية أو فنية. باختصار، كان لدى جرترود شتاين من الحيوية والدفق مما جعلها تعيش حياة كثيفة تتناقض مع الحياة التأملية المنعزلة التي كان يمكن لأديبة منصرفة كلياً لكتاباتها وحياتها أن تعيشها. ومن اللافت أن المعرض المقام حالياً في متحف قصر اللوكسمبورغ وسط العاصمة الفرنسية يقدم لزائريه وربما للمرة الأولى منذ زمن طويل صورة عن تلك المثقفة النشطة تتناقض إلى حد كبير مع الصورة المعهودة عنها كمجرد هاوية فن ثرية أميركية ارتضت بأن تعيش في ظل... بيكاسو.
سيرة أميركية
ومن المعروف أن جرترود شتاين ولدت عام 1874 في ولاية بنسلفانيا الأميركية، لأسرة مثقفة وتقدمية ذات أصول ألمانية، ودرست علم النفس باكراً في كلية ردكليف، حيث درست على الفيلسوف الكبير ويليام جيمس، شقيق هنري جيمس الروائي الذي سيختار مثلها العيش لفترة طويلة من حياته في باريس. إلى باريس توجهت جرترود شتاين في 1902، بعد أن درست، إضافة إلى علم النفس، تشريح الدماغ في جامعة جونز هوبكنز، وهي ستظل متخذة من العاصمة الفرنسية مكان إقامة لها حتى رحيلها عن هذا العالم في عام 1946، حيث، كما أشرنا، صارت شقتها الفسيحة والأنيقة في شارع فلوريس، منطلقاً لحركة طليعية لافتة في الفن والأدب، وكان من رواد الشقة الدائمين، الرسامون بيكاسو وبراك وماتيس وخوان غري، والكتاب إرنست همنغواي وفورد مادوكس فورد وشيروود أندرسون. وهي كانت تعقد اللقاءات في شقتها ليس فقط بين هؤلاء، ولكن كذلك بين الأدباء والفنانين الجدد ومن تتوخى، هي، أن بإمكانه أن ينشر أعمالهم ويروج لها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حروب عاشتها
أثناء ذلك، كانت جرترود شتاين تجد ما يكفيها من الوقت لكي تكتب، وهي كانت تكتب باستمرار ومن دون هوادة. ولعل أفضل صورة تقدمها لنا ككاتبة هي تلك التي تركها إدموند ويلسون في فصل شهير من فصول كتابه "قلعة اكسل" (ترجمه إلى العربية جبرا إبراهيم جبرا). ولعل أشهر وأفضل كتاب وضعته جرترود شتاين كان "السيرة الذاتية لأليس ب. توكلاس". وعلى رغم أن هذا الكتاب وكتاب "ثلاث حيوات" كانا كتابي جرترود الأكثر شهرة، فإن عملها الأساس والذي عملت عليه طويلاً، من دون أن يكون له حظ كبير من النجاح كان كتاب "هكذا صنع الأميركيون"، وهو كتاب تؤرخ فيه للولايات المتحدة من خلال حكاية أسرتها. وفي مجال الكتابة الشعرية، أصدرت جرترود، بخاصة، كتاب "براعم حنونة" (1914)، ولكن يبدو واضحاً أنها لم تكن تقبض نفسها بصورة جدية كشاعرة، لذلك سرعان ما تخلت عن كتابة الوجدانيات لتضع كتباً ودراسات متنوعة وموضوعية مثل كتابها عن "التاريخ الجغرافي للولايات المتحدة"، وفيه عرض متميز للعلاقة بين الطبيعة البشرية والعقل البشري، وأصدرت كتاباً عن ماتيس اعتبر مرجعاً عن ذلك الرسام الشهير لفترة طويلة من الزمن، كما وضعت كتاباً أخيراً عنوانه "حروب عشتها" وصفت فيه حياة باريس تحت الاحتلال الألماني.