ملخص
ريما بالي وخلود شرف تسردان قصص لاجئين ومنفيين لم ينجوا من براثن الحرب
تتوالى في الآونة الأخيرة روايات عربية عن الهجرة والمنفى والتشرذم البشري. فبعد أن كان اللجوء ومآسيه ومآسي فقدان الوطن تظهر أكثر ما تظهر في الرواية الفلسطينية والأدب الفلسطيني، انتقلت هذه الثيمة إلى الأدب اللبناني والأدب العراقي والأدب السوري والأدب الليبي والأدب اليمني وغيرها من الآداب العربية، نظراً إلى الظروف السياسية القاهرة المحيطة بنا والعنف والوحشية التي تعرفها مجتمعاتنا العربية اليوم. وعلى ما في موضوعة الهجرة واللجوء والشتات من حزن وضياع وشعور بالخسارة، تتمكن الروايات المنتمية إلى هذا الحقل، من التميز بما فيها من إبداع وتقنيات روائية محدثة ومميزة.
وفي هذا السياق تطالعنا اليوم روايتان لكاتبتين سوريتين تتطرقان إلى مسألة الهجرة والمنفى والهرب من الوطن كل على طريقتها. فبينما تهرب بطلة خلود شرف في رواية "يوميات لا شأن لي بها" (دار الساقي، 2023) إلى الهلوسات والغرائبية والمتخيل، تتوجه بطلة ريما بالي في رواية "ناي في التخت الغربي" (شركة المطبوعات، 2023) إلى قصة حب وجاسوسية وغموض؛ ليبقى الهرب والفقد والتشتت هي الموضوعات المحورية ومصدر الوجع الذي لا مفر منه مهما تغيرت القصص والظروف والوجوه.
التشتت وليس الحرب
يلاحظ قارئ هاتين الروايتين أثر الحروب والانفجارات والوحشية، يلاحظ آثار الوجع والقهر والانهزام على الناس وعلى دواخلهم وعلى مشاعرهم. فتتغير معالم الهوية وتتبدل الذكريات وتختلف ردود الفعل وتتحول عملية الفقد إلى ديناميكية لا يمكن أن يوقفها شيء. تكتب خلود شرف في "يوميات لا شأن لي بها": "من الصعب الإجابة، على سبيل المثل، عن كيف حالي أو من أنا،" (ص15)؛ "في كل مرحلة مررتُ بها تركتُ جزءاً مني لأكتسب جزءاً آخر، وفي النهاية بدأت أشعر بالتلاشي." (ص37).
يظهر في هاتين الروايتين خوف من جنون العالم ووحشيته وقسوته وعنصريته والعنف الموجود فيه. تظهر رغبة البطلتين بالهرب، إنما بينما تهرب بطلة خلود شرف إلى بئر هلوسات وهذيانات بسبب الانهيار العصبي الذي يصيبها، تهرب ناي بطلة ريما بالي إلى أحضان رجل تُلبسه زي الأب والحبيب والمنقذ والوطن. فهل تنجو إحدى البطلتين؟ هل تنتصران على العنف بالهرب إلى اللاوعي أو بالهرب إلى الحب؟ وهل من منقذ؟
تبدو ثيمة الهجرة والهرب من الوطن الغارق في مستنقعات العنف والقتل والوحشية، الثيمة المشتركة بين العملين، فتكتب خلود شرف على لسان بطلتها العالقة في دوامة انهيار عصبي حاد يوقعها في غيبوبة: "ميتة أخرى وأرض أخرى ولغة أخرى وجمال وحياة أخرى وصراع ما بين الجمال والحب والخوف والقبح والكره والأنا." (ص92) ؛"استيقظت في بيت لم أكن أعرفه، لكني بعد لحظات أدركتُ أنه بيتي الجديد، فلكثرة ما بدلتُ بيوتاً ضعتُ." (ص121).
ومن الجدير ذكره أن هاتين الروايتين لا تعالجان الحرب بحد ذاتها ولا تتطرقان إلى المعارك ولا إلى الأطراف ولا إلى الأحداث، بل ترافقان أبطالهما وهم يهربون من أرض الوطن في محاولة منهم لإعادة بناء أنفسهم، فناي بطلة ريما بالي تهرب إلى بروكسل مع زوجها وتهرب في بروكسيل من زوجها لينتهي بها المطاف بمحاولة الهرب من نفسها هي الأخرى بهلوسة يكتشفها القارئ في الصفحات الأخيرة. وطارق وهو شخصية من شخصيات رواية ريما بالي "ناي في التخت الغربي" تقول عنه الكاتبة: "لا يتذكر طارق متى بدأ يشعر بالغربة، لكن ما يذكره جيداً، أنه لم يشعر بالانتماء ولا في أي يوم من أيام حياته." (ص113). كذلك يلاحظ القارئ الوقوع في الهلوسات الروائية في رواية خلود شرف، فالراوية تنتقل من موضوعة إلى أخرى ومن ذكرى إلى أخرى ومن حادثة إلى أخرى بهذيانية واضحة وقلة ترابط سردية مقصودة فتكتب على لسان بطلتها: "لم أستطع أن أحمل كل هذا الوجع في قلبي" (ص14)؛ "ففي حال انتشال جثتي من الماء سيجدون أني لستُ مجرد جثة، بل أنا شعب تائه لوطن تائه ووطن ليس بعد". (ص38). فتتجلى هاتان الروايتان كروايتي هجرة وغربة ووحدة وانكسار وعدم انتماء. فنحن هنا لسنا بصدد روايات حرب أو روايات نزاع داخل الوطن، بل نحن إزاء روايات الوجع والانهزام والعنصرية التي تحصل بعد الهرب من الوطن.
موضوعة واحدة وأسلوبان مختلفان
على ما من تشابه موضوعاتي بين رواية "يوميات لا شأن لي بها" ورواية "ناي في التخت الغربي"، تظهر الفوارق الشاسعة على صعيد الأسلوب الذي تختار كل من الكاتبتين أن تعتمده. ففي رواية خلود شرف "يوميات لا شأن لي بها" تختار الكاتبة أن تركز سردها على بطلتها الواقعة في غيبوبتها وهذيانها وهلوساتها. تقوم الرواية على حالة عودة إلى الوراء وهلوسة ووصف أكثر مما تقوم على سرد متسلسل، فالأحداث لا تدور على أرض الواقع بل في ذهن البطلة الراوية بضمير المتكلم "أنا". تعيد الراوية النظر في حياتها في نظرة نثرية فلسفية تأملية آتية من غياهب الغيبوبة واللاوعي. فنجد شخصية فتاة صغيرة تروح وتجيء وشخصية أم هي الأخرى تظهر وتغيب، ونجد شرذمات أفكار ومشاهد من دون تسلسل خطي أفقي متماسك. وهو أمر متعمد طبعاً. وكأن الهرب من العنف لا يكون إلا بالهذيان واللجوء إلى اللاوعي والهلوسة والهروب من الواقع. يلاحظ القارئ أن المكان والزمان مغيبان عن الفضاء الروائي بتفاصيلهما في هذه الرواية ليكونا إطاراً عاماً فقط، وهو أمر طبيعي نظراً لأن الرواية لا تحترم التقنيات السردية البحتة.
أما ريما بالي في روايتها "ناي في التخت الغربي" التي تحمل اسم بطلتها ناي أو ناديا نجار فهي رواية من نوع آخر تماماً، ففي هذه الرواية أزمنة وأمكنة واضحة والفصول تتأرجح بينها، فيقع القارئ على: حلب 2021 – لاس بالماس 2017 – بروكسل 2015 – بروكسل 2016 – حلب 2017 – لاس بالماس 2017 – بروكسل 2014 - انفجار 22 مارس (آذار) 2016 بروكسل، إلخ. كما يقع على فن الترسل عبر وجود فصول مخصصة بأكملها لرسائل تصل الباحثة والصحافية سيسيل جارة البطلة في بروكسل. وتبدو هذه الرواية عكس الرواية الأولى من حيث أنها تتطرق إلى قصص لاجئين متنوعين وخلفيات تاريخية متنوعة. ويتنبه القارئ إلى أن الكاتبة تضع بخفة وحنكة هدفها السردي من هذا العمل على لسان شخصية سيسيل عندما تقول: "سأرصد التقاطع في المآسي البشرية على اختلاف الأزمنة والأعراق" (ص34). وهذا تماماً ما تفعله الكاتبة، فهي ترصد الهجرات البشرية الكثيرة من خلال قصص متنوعة متأرجحة في الأزمنة والقرون ليبقى الحب والهرب هما القاسم المشترك بين القصص كلها، لكن المشكلة تكمن في أن الحب يُنسي الألم لكنه يخلق ألماً جديداً خاصاً به وهو ما يكتشفه أبطال ريما بالي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى عكس رواية "يوميات لا شان لي بها" التي تركز على ذات واحدة منفصلة عن الواقع، تظهر رواية "ناي في التخت الغربي" رواية واعية لعمق مأساة المهاجرين ونظرة المجتمع الذي يستقبلهم إليهم والذي سيعتبرهم دوماً خطراً يهدده. سيظل اللاجئون متهمين بالعنف والإرهاب وسيبقون موضع شك في المجتمع الذي يستقبلهم، على اختلاف المهاجر ووطنه وظروفه وعرقه ودينه ولونه، فتقول الراوية: "أشعر بالغربة، كلنا متهمون، بل مدانون ومراقبون." (ص167). تفضح هذه الرواية قسوة قلة ثقة الغرب باللاجئين وهي قلة ثقة مبررة ربما لكنها مبالغ فيها. تتطرق هذه الرواية عبر قصصها المتشابكة إلى الأحكام المسبقة والعنصرية التي يتعرض لها كل إنسان خرج من وطنه إلى وطن آخر غريب عنه، على رغم أن هذه العنصرية غير مبررة وغير ضرورية لكون كل إنسان "يحمل البشرية جمعاء تحت جلده".
يبدو من خلال الإصدارات الروائية الأكثر حداثة أننا صرنا في زمن روايات الشتات والهجرة والشرذمة العربية وفقدان الانتماء والهوية والرؤيا. وهي موجة روائية تسيطر على المشهد الأدبي العربي بمختلف جنسيات كتابه، فمشاعر الفقد والخسارة والتيه والضياع والهرب واللجوء والانهزام والخوف مشتركة وقوية ويبدو ألا مفر منها. سير اللاجئين وقصصهم كثيرة اليوم في الأدب العربي وستظهر جلية أكثر بعد لتمنح الرواية العربية دوراً جديداً وبعداً جديداً يمكن أن نسميه على غرار ريما بالي التي تستعمل بطلتها ناي التي تعمل في مكتبة لتمنح الكتب دوراً "دونكيشوتياً" (ص11). وكأن الرواية والكتب ستكون السلاح الوحيد لمحاربة الوجع والقهر والظلم الذي يتعرض له الإنسان العربي اللاجئ. إنما ماذا لو لم تكن الرواية كافية؟ هل يقف اللاجئ وحيداً مهزوماً كبطلة خلود شرف التي تختار أن تنهي روايتها بجملة مفتاح: "حدث ذلك عندما طرقتُ الباب ولم يفتح لي أحد." (ص159). هل يُفتح الباب للاجئ العربي؟