تمثل الكتابة السردية في اليمن جزءاً أساسياً من الأدب العربي الحديث، فالسرد القصصي والروائي يعكس تحولات المجتمع اليمني والتحديات الاجتماعية والفكرية التي واجهها منذ الماضي القريب، وحتى الآن. في مفتتح كتابه النقدي "الكتابة السردية في اليمن"، الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يستشهد المؤلف محمد جازم بعبارة ساراماغو، "إن لم تكتب قصتك بنفسك فلن يكتبها أحد"، كأنه بهذا الاختيار ينبه القارئ إلى الدور الجسور الذي يؤديه السرد القصصي والروائي في الكشف عن المجتمع اليمني في عديد من تحولاته الاجتماعية والفكرية، بخاصة أن الكتب التي عنيت بتقديم دراسات نقدية عن الإبداعات السردية اليمنية الحديثة، تعد قليلة إلى حد ما، لذا يأتي الكتاب ليقدم كما هو موضح على غلافه "قراءات أولية في الدلالة والمؤشرات"، مرتكزاً إلى مقالات نقدية تنتمي إلى النقد التطبيقي.
يرى الكاتب أن ثمة جيلاً جديداً من المبدعين اليمنيين أكثر قدرة على قراءة الواقع قاموا باكتشاف قارات جديدة في الإبداع، وحملوا على عاتقهم ثقل مقاومة الزمن. ويرى المؤلف أن أشكالاً بإيقاعات مختلفة، وعلى درجة عالية من الانصهار المعرفي ظهرت اليوم ومن الأسماء التي يذكرها، الروائيون: أحمد زين وعلي المقري ووجدي الأهدل وسمير عبدالفتاح وعبدالناصر مجلي وأسماء المصري وبسام شمس الدين ونادية كوكباني، وغيرهم.
استهل جازم كتابه بمدخل بعنوان "القصة... ماهيتها"، مقدماً مفهومه للقصة بأنها تحررت من ماهيتها، لتصبح "اشتهاءً للمطلق المتراوح بين الممكن واللاممكن". وتعرض لتاريخ القصة الحديثة في اليمن، متوقفاً عند أبرز المحطات التي مرت بها، وأدت إلى تطورها، مع مجموعة من المبدعات والمبدعين. وقسم المؤلف الكتاب إلى ثلاثة أقسام، تتنوع بين فن القصة والرواية والتراجم، وجاءت بعنوان "مدار السرد القصصي"، و"مدار الرواية"، و"مدار الترجمة".
يستعيد الناقد حلم الثورة في المجموعة القصصية "ريحانة" للقاص والروائي محمد عبدالولي (1939- 1973)، الذي اختار القصة والرواية وسيلة لمقاومة الظلم والاستبداد، بحيث تتحرك كلماته في الصورة العكسية للواقع، مع اهتمامه الفائق باللغة الشعرية، والتصوير الفني، والرمزية التي تتشعب في اتجاهات شتى.
تحضر فكرة الثورة أيضاً في أعمال القاص أحمد محفوظ عمر، في مقالة بعنوان "السرد والثورة"، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الثورة في قصص محفوظ متعددة، تجتاح كل ما كتبه، إلى درجة عد فيها ما كتبه لا منتمياً ولا معقولاً، "في حين أن محفوظ كان ينشد الثورة على الرتابة في مجتمعه الاستاتيكي"، فقد ثار على الاستعمار البريطاني وحكم الإمام، وعلى المجتمع وأمراضه المتغولة.
تضمن جزء "مدار القصة"، دراسة عن كاتبة واحدة فقط، بعنوان "القصة، اللوحة، الرواية" في مجموعة "حرب واحدة" لانتصار السري. وفي هذا الجزء أيضاً قراءة في مجموعة "الجسر" لزيد مطيع دماج، ودراسة للشاعرية القصصية في مجموعة "سقمة الحارات" لعبدالفتاح عبدالولي، وتحليل لفكرة الاستلاب في مجموعة "هائمة في اليمن" للقاص محمد صالح حيدر، وتقديم للرؤية السردية في مجموعة "رنين المطر"، للقاص سمير عبدالفتاح.
مدار الرواية
افتتح الناقد جزء "مدار الرواية"، بمقالة تحت عنوان "الغياب يحكي قصته مع النفق المظلم في المشهد السردي اليمني"، ثم تناول رواية "عقيلات"، للروائية نادية الكوكباني، وهي روايتها الثانية بعد "حب ليس إلا". ويرى الناقد في رواية "عقيلات" أنها رواية الصرخة والأمل، الحرية والإبداع والحنين، تقدم الواقع بلغة الحياة اليومية. فالروائية تعتمد لغة شفافة تتحدث عن البشر، وتحكي عن معاناتهم وأحزانهم. وتتحرك لغتها في مسار الكشف عما يحاول المجتمع إخفاءه والتستر عليه.
أما الروائي أحمد زين، فيعد من أبرز الكتاب اليمنيين الذين حظيت أعمالهم باهتمامات نقدية، بسبب اعتناء صاحبها بوجود مضمون جمالي يترك أثراً جلياً، سواء في اللغة أو اختيار الموضوعات، أو استخدام الضمائر، بالتوازي مع البحث عن الهوية الإنسانية الراسخة والمتشظية، ضمن تشعبات المكان والزمان. ومن ضمن أعماله الروائية "قهوة أميركية"، التي تعد الأكثر حضوراً في المشهد الروائي اليمني والعربي، ثم "حرب تحت الجلد"، و"ستيمر بوينت" التي طرحت أسئلة الكولونيالية وما بعدها، ونجد فيها تبئيراً عميقاً حول الشخصية اليمنية بماضيها وحاضرها. وتميزت كتابة زين بوجود خصوصية في اللغة التي تتسم بغموض فني.
ويتوقف عند اسم علي المقري أيضاً في السرد اليمني المعاصر، وتناوله عالم المهمشين المسكوت عنهم في اليمن، الذين يعاملون في مجتمعاتهم بدونية شديدة. يقوم المقري بانتزاعهم من بؤسهم الحياتي، ووضعهم في عمل روائي مبتكر، وتركهم يعيشون بحرية. لقد استطاع نقل واقعهم المغلق بـ"التابو"، بحرفية فنية وزخم كاشف، مستنداً إلى التخييل الروائي، والاستعانة في رواياته بقصص الحب المرفوضة، بين شاب من الطبقة العليا وفتاة مهمشة، أو شاب يهودي وفتاة مسلمة، كما في روايته "اليهودي الحالي".
تطور فني
يرى جازم أن رواية "مصحف أحمر" لمحمد الغربي عمران، قد حملت تطوراً فنياً كبيراً للرواية اليمنية، فقد تداخلت عوالمها بين الواقعية والرمزية والسوريالية، ولعب المكان فيها بدلالاته دوراً مهماً، فـ"الرواية تتكثف في بؤر زمنية مغلقة ومحصورة، في زمن التشطير الذي كان يقسم اليمن إلى شمال وجنوب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
توقف الناقد أيضاً أمام التقنيات السردية في رواية "صنعاء مدينة مفتوحة" للكاتب محمد عبدالوالي، ثم تناول عملاً روائياً بعنوان "الرهينة" لزيد مطيع دماج، الذي سبق وتناول إبداعاته القصصية في الجزء الأول. وتحضر كتابة المرأة أيضاً مع الروائية بشرى المقطري في روايتها "خلف الشمس"، يقول "من خلال مطالعتي لرواية بشرى المقطري، رأيت أن الهدف الرئيس من الرواية هو البحث عن الحرية، والعمل على انتزاعها من الأمكنة المظلمة، والأكثر خطراً، ثم الذهاب بها إلى عالم النور، أو المكان الأكثر ضوءاً".
من المقالات التي احتواها الكتاب أيضاً: تماهي الأضداد في رواية "ظلمة يائيل" للروائي محمد الغربي عمران، و"مشاهد طويلة من الحكاية" للروائي يحيى علي الإرياني، و"أشباح التاريخ بين تقنيتي المتن الروائي وهامشه، في رواية "جوهرة التعكر" للروائي همدان دماج.
وأورد الناقد ملاحظة شديدة الأهمية في شأن خفوت الصوت النسوي في الكتابة الروائية، ورأى أنه في المقابل، يمكن رصد تفوق الكاتبات في الإصدارات القصصية، بحيث تزين المشهد السردي بعديد من المجموعات القصصية، التي تميزت بحضور قوي للصوت الأنثوي داخل القصص.
أما الجزء الأخير "مدار الترجمة"، فقد تضمن مقالة عن الخيال في رواية "صيد السلمون في اليمن"، للكاتب البريطاني بول توردي، وقام بترجمتها الشاعر عبدالوهاب المقالح،. ويذكر المؤلف أن هذه الرواية تعد من الروايات الخيالية بامتياز، لأن المؤلف قبل كتابته عن اليمن، لم يزر هذا البلد أبداً، وعلى رغم ذلك تأتي كتابته عنه في غاية الدقة، وهذا ما يشي به السرد. أما المقال الثاني فهو عن رواية "رجل عدن"، وهي رواية إسبانية عن اليمن.