ملخص
قبل أن تقول السياسة كلمتها في سوريا وتنهي حكم البعث معلنة سقوط نظام بشار الأسد، لعب الأدب السوري الدور الأهم في الكشف عن بشاعة النظام الديكتاتوري، وخلال الـ 20 عاماً الماضية ظهرت عشرات الروايات التي عالجت مراحل مفصلية في تاريخ سوريا المعاصر، ونطقت بما هو مسكوت عنه، وقد أسهمت احتجاجات عام 2011 في ظهور أسماء جديدة وجدت اهتماماً عالمياً انعكس في حجم الترجمات والجوائز.
كثيراً ما قوبلت موجة الروايات السورية بعد 2011 بانتقادات واسعة اتهمت المؤلفين باستغلال الأحداث وتكرار ثيمة أدب السجون والاستناد إلى بلاغة المقموعين، على رغم أن بعض هؤلاء دفعوا الثمن غالياً في المنافي، وبعد أن سقط النظام يطرح السؤال نفسه: كيف يكتب السوريون عن الحدث الكبير؟ وأي مستقبل يمكن أن تبشر به الكتابة؟ وقد استطلعت "اندبندنت عربية" آراء سوريين في الداخل والخارج.
بداية تتساءل الروائية روزا ياسين حسن "هل ستكتب بعد سقوط البعث رواية آل الأسد؟ وتجيب قائلة إن كل ما سبق وكتبته من روايات له علاقة في شكل أو آخر بحكم آل الأسد، لكنني ركزت على تأثير نمط الحكم الديكتاتوري وسياساته على الأفراد والمجتمعات ووعي و لاوعي الشعوب"، وتضيف ياسين "ما يشغلني عموماً في الكتابة متعلق بحكايات البشر العاديين وتفاصيل أخرى ذات ارتباط بتجارب الأرواح وخيالاتها الجوانية، وليس ما تعيشه الشخصيات الديكتاتورية".
وتثق الروائية المقيمة في ألمانيا أن هناك من سينشغل مستقبلاً بالكتابة عن شخصية الأسد، وتوضح أن كماً كبيراً من الرواية السورية نشر خارج البلاد، ومنع كتاب وكاتبات من النشر في بلدهم وكذلك تداول كتبهم، ولا شك في أن كل هذا يمثل مادة خصبة لمستقبل الرواية السورية، مضيفة أن "الحكم الديكتاتوري ترك أثراً في شؤون الحياة كافة، وبالدرجة نفسها كانت له تأثيرات في الشكل الإبداعي للرواية السورية التي نشرت في البلاد، من حيث الترميز ومحاولة اجتراح تقنيات جديدة تقول مواربة وتلمح تلميحاً".
وفي رأيها أن المشهد الروائي السوري مفتوح على إمكانات إبداعية لا متناهية، وتؤكد أن هزة كبيرة بعد اندلاع الثورة السورية حصلت في المشهد الإبداعي، وعن الكتاب الذين بقوا في سوريا ولم يخرجوا إلى المنافي ترى روزا أن "الأمر كان بالنسبة إليهم أشد وطأة"، وعلى رغم قناعتها بأن الثورة الروائية حدثت في سوريا قبل أكثر من عقد من اندلاع الثورة الاجتماعية السياسية عام 2011، فإنها تشير إلى أن تلك الهزة التي تمثلت بالثورة ومن ثم الحرب نقلت الرواية السورية إلى مكان آخر لا يشبه مكانها قبلاً، سواء على مستوى الشكل أو المضمون بل وفرص الانتشار والقراءة بالمعنى التسويقي.
منطقة الارتباك
يشير الروائي خليل صويلح الذي ظل في دمشق إلى أن الجميع قد صار في منطقة الارتباك، ومن ثم يحتاج السوريون وقتاً لكي تصفو المياه، كما أن مساحة المستنقع أكبر من أن تحويها رواية، ويقول إن "المعضلة الآن تكمن في كيفية التخلص من اللغة المراوغة في كتابة لسان الحال ومقارعة الصفحة الفارغة بالسلاح الأبيض، من دون مجازات ترهق الجملة الأصلية المؤجلة".
ولا يرى صاحب "جنة البرابرة " أن صورة الديكتاتور تغويه، ذلك أنها صورة جوفاء لا تحمل مقومات الطاغية، وعلى الأرجح سيستكمل تشريح الكابوس ونوع الطعنات التي أصابت الجسد السوري بفعل البلاهة في المقام الأول، مضيفاً أن "ما خبرناه يؤذي جماليات النص السردي ويلوثها بحبر ركيك، وربما لو كان طاغية بالمواصفات التاريخية للطاغية، لكان سيمنح النص ثقلاً تخيلياً أعمق، لكنه طاغية مصنوع من مواد رخيصة وجنرال وهمي خطف أوسمته من الحظيرة لا من الميدان".
ويؤكد صويلح أن السوريين على الأرجح سينهمكون طويلاً بتنظيف الحقل من الأعشاب الضارة، فالميراث الكابوسي يكفي لولائم جماعية، سواء لجهة إزالة الضمادات عن موقع الألم أو لجهة الدمار الروحي، ومحاولة توطين معجم بلاغي مفتوح على الجهات الأربع بعد أن شطب الخوف معظم مفردات المعجم التخيلي.
ويقول إن "رواية الغد تحتاج إلى تمارين شاقة متفلتة من المحظورات، شرط ألا تتكئ على فضائح الانتهاك وحدها في إنشاء عمارة روائية، وإنما في فحص حجم ما كان يمور في الداخل من هزائم وخوف وريبة وفقدان".
ضد التخطيط
ويلفت الروائي خليل النعيمي الذي استقر منذ أعوام طويلة في باريس إلى أن الرواية ليست ملعقة حساء يمكننا أن نستعملها عندما نريد، ولا هي جرس إنذار معلق في ذيل الظروف العابرة التي تمر علينا، "نحن لا نكتب ما نريد، ولا عندما نريد، وإنما عندما تمتلئ نفوسنا بالأحداث، وتستقلبها بطريقة فنية شديدة التعقيد والغموض"، مضيفاً "تحتاج الرواية إذاً مثلها مثل أي إبداع آخر إلى زمن وصدفة، زمن طويل وصدفة مبدعة كي تكتب، وبناء عليه لا يمكن التخطيط لما نكتبه روائياً إلا إذا أردنا أن نسود الصفحات البيض بتفاهة أدبية لا جدوى منها".
ويرى النعيمي أن رواية ما بعد "سقوط الأسد في مزبلة التاريخ" لن تكتب في الأقل خلال الوقت الراهن، مؤكداً أن مستقبل الرواية السورية غني تماماً، لأنه مرتبط بمستقبل الشعب السوري الذي أسقط أعتى دكتاتورية معاصرة في العالم.
أما الروائية عبير أسبر التي استقرت في كندا منذ عام 2013 فهي لا تعلم إن كانت ستكتب رواية عما جرى في ظل البعث أم لا، وتقول إن "ما أعرفه بيقين تام هو أن الأدب، كما أراه وأعتنقه، منتج معقد التركيب ومكوناته غير نهائية ولا محسومة، لكن بعد ممارسة هذه اللعبة، أي الكتابة، لأكثر من 20 عاماً أستطيع بقليل من اليقين أن أقول إن المكون الأكثر أهمية وضرورة لإنتاج أدب لا يسقط بالتقادم، هو التأمل".
وهكذا تنحاز أسبر إلى ما تسميه "المراقبة بعين باردة"، وتفضل أن تغوص في التجارب وترمي الذات بلا حصانة ولا تحفظات في قلب الحاضر، ليس لنقله بآنيته، فهذا ما تجيده الصحافة، على حد قولها، بل لإشباع الحواس وتغذية شراهتها، ولتشرّب التجارب والحكايات في الحاضر والماضي معاً وإحالتهما بكليتهما إلى التصنيف والأرشفة، للغربلة وتنقيتهما من وحول التعصب والكراهية والغضب، والأهم الإحباط.
وتتابع "يأتي بعد ذلك دور جمع كل تلك العناصر وتخزينها في جارور الزمن وتركها لتتعتق في حضن خبرات سابقة وخبرات مضافة مرة بعد مرة، مما يمنح الأدب ألقه والحكاية بهاءها، وهو إضافة طبقات إلى جسد الحكاية لحمايتها من العري المفاجئ عند انزياح الآني، مهما بدا هذا الآني جذاباً ومغرياً ومحرضاً على الرواية وملائماً لفعل القص".
وترى صاحبة "سقوط حر" أن بهاء أو ألق الشفرة السحرية لعبارة "كان يا ما كان" لا أعتقد أنه ممكن إلا في حضن الزمن بعد اختمار السنين".
وتضيف، "ستبقى سوريا في حالها، بكليتها وإرثها الذي لم يكن يوماً طارئاً على الحكاية الإنسانية في مجملها، كما ستبقى المخيلة بنبضها والأحلام بجدتها وابتكارها، وستبقى الحكايات".
وتوضح أن سوريا ليست حكاية دكتاتور غادر مهما بدا متوحشاً وكلي الحضور أو خالداً وأبدياً، فـ 60 عاماً في تاريخ بلد عمره آلاف السنين لن تكون سوى حازوقة، على حد قولها، لكن أسوأ ما فيها أنها كانت أعمار الناس لكن سوريا ستبقى، متوقعة أن السوريين سيكتبون عن الحياة، فهي النص المفتوح على الاحتمالات.
نضج المفاهيم
ويؤكد الروائي راهيم حساوي المقيم في ألمانيا أن هناك من سيكتب سرديته من بعد سقوط البعث والنظام، وليس بالضرورة أن يكون عملاً روائياً، فكثيرة هي مجالات التعبير عن ذلك، ولكن لا أعتقد أن هذا سيحدث في الزمن القريب، ويقول إن "المسألة تحتاج إلى وقت حتى تنضج المفاهيم وتنضج الحال الابداعية، أما في الوقت الحاضر فالسرد اليومي هو ما يتصدر المشهد التعبيري كحال جماهيرية تستهلكها منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الأعلام".
ويشير حساوي إلى أن الرواية السورية لم تبدأ رحلتها التي تستحقها حتى نقول ما الذي بقي لها، فالرواية السورية بحسب رأيه "كانت ممنهجة ومقيدة في ظل النظام البائد، وهذا ليس بتأثير وجود السلطة وإنما بسبب انتشار ثقافة محددة ومكررة، فمن النادر أن نجد ثقافة منفتحة وثورية ومتمردة على المستوى الفكري وليس السياسي، فالفكر أيضاً أصابه العطب".
ويدعو كتّاب الرواية السورية إلى العودة للوراء ليغطوا العجز السابق ويرصدوا كل ما فاتهم، كما لو أنهم يسددون ديون الزمن المترتبة عليهم إلى أن تصل الرواية بنا إلى هذه المرحلة، وتنطلق من جديد استكمالاً لما قامت برصده، متابعاً أن "ثمة حلقات مفقودة صار بالإمكان العثور عليها وترجمتها إلى أدب عبر مختلف المجالات".
رهاب الأسئلة
ويؤكد الكاتب تمام هنيدي المقيم في تركيا "أن سقوط النظام كان مفاجئاً ووجد السوريون أنفسهم على حين غرة أمام أسئلة صعبة ومباغتة، لا تتعلق بوطنهم وحسب، بل بأسئلة شائكة قد تمتد إلى سؤال الهوية نفسه"، ويقول "لطالما شعرت برهاب التساؤل عن تلك اللحظات التي سوف تلي أعوام المقتلة الرهيبة، وعن الكتابة حينذاك، بل عن الأحلام أيضاً"، مضيفاً "فرضت الأعوام السابقة منذ انطلاقة الثورة نفسها على الكتابة السورية، بل إن بعضنا نحن السوريون اعتاشت كتابته على تلك المفردات، هذا صحيح، وصحيح أيضاً باعتقادي أننا أمام تساؤل كبير إزاء ذلك، فلقد صرنا في مواجهة الاستحقاق، استحقاق إمكان العودة للأماكن والناس الذين غذوا كتابتنا طوال 13 عاماً ماضياً، فهل سنعود؟"
ويرى هنيدي أن الكتابة السورية أمام اختبار حقيقي، شأنها شأن الشخصية السورية ذاتها، اختبار يرتبط بالقدرة على التعايش مع البداية مجدداً بعد أن استحالت حلماً يصعب تحقيقه، واختبار القدرة على أخذ خطوة إلى الأمام، موضحاً أن "احتفالاتنا ستنتهي قريباً وسنستيقظ على ركام بلاد قد لا تشبه البلاد التي عرفناها، فماذا سنكتب إذاك؟ علينا الانتظار قليلاً ربما لنقرأ نتاج المخاض وصدمة نهايته، إذا انتهت فعلاً ".
ولا يفكر الروائي سومر شحادة بالكتابة عن آل الأسد لأن ما كان يشغله في الرواية سيبقى يشغله، وهو حياة البشر في المكان وعلاقاتهم في ما بينهم، لكنه يقول "ربما سقوط هذه العائلة دفعني إلى التفكير مجدداً بإمكان التغيير، أقصد بإمكان حدوث التغيير بالمبدأ، أما إلى أين سيفضي هذا التغيير فهو موضوع آخر، لكن ما يشغلني الآن هو سقوط الأبد، وكأنما نعيش في لحظات تلت الأبد، وهذه ليست استعارة".
ويتابع "في الحقيقة كانت حياتنا مغلقة وكأن النظام وضع السوريين جميعاً في سجن تحت الأرض، وهذا أمر يدفعني إلى تذكر بطل فيلم أمير كوستوريتسا 'تحت الأرض' فعندما خرج بعد احتجاز لأعوام طويلة طلب من سائق عابر أن يأخذه إلى يوغسلافيا، ليخبره السائق أن يوغسلافيا بلده لم تعد موجودة، وأظن أن السؤال يفضي إلى المعنى ذاته، لكن في الحقيقة أن نظام الديكتاتور الأب وصغيره هو ما لم يعد موجوداً أما سوريا فموجودة، ويبقى للرواية السورية الكثير كي تقوله عن هذا البلد الذي شهد أحد أعتى الأنظمة الشمولية على مر التاريخ".
ويضيف "ربما لحظة التغيير، حتى لو لم يكن معروفاً إلى أين ستقودنا، تفتح آفاقاً للشخصيات الشكسبيرية التي كنت أكتبها، أقصد الشخصيات التي كانت دائماً محكومة بالموت في لحظة مسرحية منتزعة من الحياة الواقعية"، ولذلك يفكر شحادة بالكتابة عن الحب العادي الذي بالإمكان أن ينمو في سياق الحرية، لكنه ليس متأكداً إن كان سينجح أم لا، إلا أن هذا ما يؤمله.
ويرى أن الرواية السورية أمام اختبارات جديدة، فالجميع يريد للجميع أن يشبهه، وبالتالي لا يمكن للرواية أن تنمو في جو مضطرب يميل إلى الإقصاء والتشابه، مضيفاً أن "الديكتاتور سقط ويجب أن نصدق هذا ونتعلم الاختلاف".
كابوس روائي
ويأمل الروائي يعرب العيسى من داخل دمشق في أن ينسى السوريون عائلة الأسد بأسرع وقت ممكن، لأن ما يحتاجه المستقبل لا يترك لهم ترف إنفاق دقيقة واحدة في النظر إلى الماضي، ومن وجهة نظر أدبية فلا يصلح آل الأسد موضوعاً لرواية جيدة، بحسب تعبيره، لكنهم يصلحون ربما لفصل كابوسي في رواية أو فصل كوميدي في رواية أخرى، أما الرواية الحقيقية فتحتاج إلى طاغية حقيقي مثل ستالين أو موسوليني وهتلر، أما آل الأسد ففيهم من الخفة والميوعة ما يعفيهم من مصير الذهاب إلى رواية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويؤكد العيسى أن السوريين بحاجة اليوم إلى التنقيب داخل نفوسهم للبحث عن جذور الخوف ونزعه، ثم وضعه على طاولة الأدب وتشريحه، ومطلوب منهم البحث عن الكراهية والتخلص منها بالكتابة عنها.
وينوه الروائي فادي عزام المقيم في الدوحة بأن الرواية السورية كانت متقدمة بهزيمة "البعث"، ويضرب مثلاً برواية "القوقعة" لمصطفى خليفة، مؤكداً أن كل روايات السجن السوري خرجت منها.
ولا يعتقد عزام أن آل الأسد يمثلون مصدر إغراء لأي روائي، فقد جرى إسقاطهم نهائياً من الوجدان الجمعي، فبينما مزقت صورهم وأسقطت تماثيلهم فقد ثبتت مكانها صورة الهاربين بملابسهم الداخلية، وباعتقادي هم ثيمة روائية تصلح للسخرية.
ويوضح عزام أن الرواية السورية تلوثت بـ "الدكتاتورية فتسمم الفن الروائي الصافي، وأن الرواية النهائية ستكون 'متحف العبث'، وفيها دلالات على ثقل دم الطاغية، وأيضاً استرداد الزمن الروائي من تحنيط الأبد"، مشيراً إلى أن الرواية ستؤدي عملها بأخذ حصتها في إعادة كتابة التاريخ، وسيكون هناك كمّ كبير من الأعمال وهذا جيد، وجزء أساس من التطهير والحوار الذاتي والعام.
ويتوقع فادي عزام أن سيكون هناك كثير من الأعمال عن ليلة سقوط الطاغية، وبالتالي ستكون هناك كتابات كثيرة حتى يصل السوريون إلى الوعي بقيمة الحرية، لكن الصعوبة في تقديره تكمن في أن الجميع بات يعرف أن الثورة السورية ضد بشار الأسد و"البعث" انتهت، ولكن المعركة ضد التركة الثقيلة التي تركها الطاغية في البلد قد بدأت، ومن ثم فإن مهمة الكتابة الروائية العالية هي التوجه إلى جوهر الإنسان.