ضجت مواقع التواصل الاجتماعي منذ أسبوع تقريباً، بخبر وفاة الشاب الأميركي جوش ويلكيرسون (27 سنة)، إثر تعرضه لسلسلة سكتات دماغية جراء داء السكري (النوع 1) الذي كان يعاني منه منذ الصغر.
ولأن هذا الشاب لم يعد بإمكانه أن يستفيد من التأمين الصحي بسبب تجاوزه سنّ الـ 26، وقدراته المادية لم تمكّنه من تحمل أعباء كلفة الدواء، استبدل مجبراً الأنسولين بنوع آخر أرخص ثمناً من دون مراجعة طبيبه، الأمر الذي أودى بحياته على الفور.
المواطنون واللجوء إلى دول الجوار
أثارت هذه الحادثة ردود فعل كبيرة في أنحاء العالم، واستغراباً من الارتفاع المخيف في أسعار الدواء، الأمر الذي دفع المرضى في الولايات المتحدة إلى الذهاب في اتجاه المكسيك أو كندا لشراء التركيبة ذاتها من الدواء ولكن بسعر أرخص. وما لبثت هذه الظاهرة أن انتشرت في السنوات الأخيرة في لبنان، بحيث بات معظم المواطنين يلجأون إلى دول الجوار (مثل تركيا ومصر وسوريا…) لشراء "الدواء بكلفة أقل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"التركيبة ذاتها"
وزير الصحة العامة اللبناني جميل جبق أوضح في حديث خاص إلى "اندبندنت عربية"، أن "التركيبة هي ذاتها ولكن هناك اختلافاً بالأنسولين، فهناك النوع الذي يبلغ سعره ثلاثة دولارات أميركية، ونجد النوع الذي يبلغ ثمنه 50 دولاراً أميركياً، ولكن ذلك يختلف بناءً على نوعية الدواء الذي يحتاجه المريض"، مشيراً إلى أن "انتشار الأنسولين الرخيص في بعض بلدان العالم يزيد نسب حالات الوفاة".
ويشرح وزير الصحة اللبناني أن "الأنسولين الأرخص هو الأنسولين غير الآمن. نحن في لبنان نعدّ من الدول "الستاندارد" إذ إن كلفة المعيشة كلها باتت مرتفعة جداً ولا تقتصر فقط على الدواء ومن غير الممكن اليوم أن يتم بيع دواء مواصفاته غير مطابقة مع صحة المواطن مع العلم أن لدينا كثيراً من الأنسولين القديم في السوق وكلفته رخيصة جداً، لكن الدواء الذي يحافظ على صحة مرضى السكري أسعاره مرتفعة جداً".
الدواء في لبنان الأغلى في المنطقة؟
وعن سبب ارتفاع أسعار الدواء في لبنان، أوضح جبق أن "المواطن اللبناني كان في البداية يعاني من الكلفة الباهظة لأسعار الدواء بسبب اعتماد معظم شركات الأدوية على الـ "براند" (أي الدواء ذات العلامة التجارية المسجلة)، إلا أنه بعد المباشرة بتصنيع الدواء المحلي "الجينيريك" (أي الذي لا يحمل علامة تجارية مسجلة عالمياً) بدأت الأسعار تنخفض".
وعلى الرغم من ذلك، إلا أن أسعار "البراند" بقيت مرتفعة جداً في لبنان. ويشرح جبق ذلك بالقول إن "السبب يعود إلى عدد السكان المحليين".
أسعار الأدوية في دول الجوار (كمصر وتركيا والأردن وسوريا) أرخص بكثير من لبنان وذلك يتعلق بارتفاع عدد السكان ودعم الدول هذه الأدوية"، لافتاً إلى أن "عدد السكان في مصر يبلغ 108 ملايين نسمة وفي تركيا يبلغ 80 مليون نسمة وفي لبنان أربعة ملايين نسمة. عندما تأتي تلك الشركات المصنعة لتبيع كميات هائلة من الدواء في السوق تقل تسعيرة الدواء والعكس صحيح في بلدنا". وعن وجود احتكار في الأسعار بحيث تتم زيادتها لتتخطى معدلها المطلوب، أكد الوزير "عمل الوزارة على وضع خطة لضبط الأسعار من خلال بيع الدواء بأسعار تتطابق تماماً مع بلد المنشأ".
معدلات الأسعار مقبولة
أمين سر نقابة صيادلة لبنان الصيدلي محمد جحجاح أوضح بدوره في حديث خاص إلى "اندبندنت عربية" أن "وزارة الصحة، المسؤولة الأولى عن أسعار الدواء من خلال لجنة يشكلها الوزير، تُعنى بأصول التسعير في لبنان. وفي اللجنة يأخذون في الاعتبار نقاطاً عدة أبرزها: سعر الدواء في بلد المنشأ، سعر الشحن، ربح الوكيل والصيدلي وصولاً إلى المواطن".
وعن أسعار الدواء في لبنان، اعتبر جحجاح أنها "لا تزال تعد ضمن المعدلات المقبولة بالنسبة إلى حجم السوق الاقتصادي ومقارنةً بدول الجوار"، شارحاً أن "تدني كلفة الإنتاج في دول مثل الهند (مليار وثلاثمئة مليون نسمة) ومصر (108ملايين نسمة) وتركيا (80 مليون نسمة) عائد إلى دعم هذه الدول مواد الإنتاج والتصنيع والمواد الأولية الخام"، معتبراً أنه "إذا توافرت هذه المواد الأساسية بكلفة مقبولة وكل العوامل مهيئة كالأراضي والكهرباء واليد عاملة الرخيصة، تتدنى كلفة الدواء".
وأشار إلى أن "الأسعار في لبنان ترتفع ليس بسبب تصنيع الدواء فحسب بل أيضاً بسبب اليد العاملة والكهرباء... حتى التصنيع ليس مدعوماً من الدولة فمعظمه مبني على اقتصادات حرة بحيث يحتاج إلى دعم من الدولة".
إمكان استيراد الدواء من الخارج
وعما إذا كان هناك إمكان في استيراد الدواء من البلدان المجاورة، قال جبق: "هذه البلدان غير مهيئة لتصدير الدواء لأنها تعمل وفق رخصة، وتمنع اتفاقيات دولية تصديرها إلى بلدان أخرى"، مشيراً إلى "وجود مصادر أوروبية لبيع الدواء مثلما تباع في أوروبا بأسعار منخفضة". ويوضح جحجاح أن "تركيا تأخذ حقها حصرياً من الشركة الأم لتصنيع الدواء "الجينيريك" الذي تعدّ كلفته أرخص ولكن التركيبة ذاتها، ولكنها لا يحق لها تصدير الدواء إلى الخارج بل الاكتفاء بتصنيعه وبيعه عندها".
وبناءً على ذلك، فكل الآمال معلّقة اليوم على عمل الوزارة بشأن هذا الملف لضبط عملية الأسعار وتخفيضها، ويكشف جبق عن "انعقاد مؤتمر صحافي خلال الأسابيع المقبلة، يعلن فيه عن خطة الوزارة خفض أسعار الأدوية لتصل نسبتها إلى 30 في المئة، وسنعمل على تشجيع صناعة دواء "الجينيريك" في لبنان". كما أعلن عن "توقيع اتفاقيات مع كل شركات الأدوية (المستوردون والمصنعون) للعمل على آلية للتسعير تحفظ حق اللبناني ليتمكن من شراء الدواء ضمن إمكاناته التي تتوافق مع دخله الخاص"، مؤكداً حرصه على "حصول كل مواطن على استشفاء خاص يحفظ له كرامته من دون تردد وحقه بالحصول على دواء آمن وفعال".
تداعيات سلبية على الصيدلاني جراء خفض سعر الدواء
خلال السنة الماضية، أصدر وزير الصحة السابق غسان حاصباني قراراً بشأن خفض تسعيرة 3340 صنفاً من الدواء، ووصلت النسبة إلى 70 في المئة من أصل 5000 دواء يجري تداولها في لبنان، وعلى الرغم من أن هذه الخطة المتبعة استفاد منها المواطن بشكل مباشر إلا أنها أثرت سلباً في الصيدلاني إذ تدنت نسبة أرباحه.
وعند سؤالنا للوزير جبق عن مدى تخوفه على وضع الصيدلاني في لبنان وخصوصاً بعدما تدنت نسبة الأرباح لتصل إلى 50 في المئة جراء شراء المواطنين حاجاتهم من الدواء من الخارج، يؤكد أن "حق الصيدلاني محفوظ في القانون من خلال تخصيص جعالة شهرية (أي نسبة من الربح) بغض النظر عن سعر الدواء".
ويرى جحجاح أن "تحسين الجعالة يكون عبر زيادة نسبة الأرباح على الأدوية "الجينيريك" أكثر من "البراند" أي أن تصل نسبة الربح إلى 30 في المئة (من الدواء "الجينيريك") لإيفائه حقه من هذه الخدمة"، لافتاً إلى أن "مسؤولية الصيدلاني لا تقتصر فقط على الترويج للدواء بل أيضاً تقديم المشورة المناسبة وحماية صحة المريض واقتراح دواء أقل تكلفة يناسب المرضى الفقراء والأمس حاجة".
لسنّ قوانين جديدة
ويطالب جحجاح بـ "سنّ قوانين جديدة تعطي الصيدلاني صلاحيات بتبديل الدواء "البراند" ذي التكلفة الباهظة بالـ "جينيريك"، موضحاً أنه "ليس هدفنا الربح إنما في بعض الحالات تكون هناك وصفة معينة من الطبيب كتب عليها "ممنوع التبديل" لذا يضطر الصيدلاني إلى أن يستبدل الدواء خصوصاً إذا كان المريض غير قادر على تسديد المبلغ بأكمله، وبالتالي إزالة الملاحقة القانونية عنه لأنه يسهم بشكل أو آخر في إعطاء المشورة كطبيب وهناك حالات معينة تدفعه للقيام بذلك وعلى المعنيين أن يأخذوها في الاعتبار".
كما يشدد على "أن تكون عملية خفض الأسعار عملية مدروسة ولرفع عدد سنوات إعادة التسعير من ثلاث إلى خمس سنوات وعدم المساس بالأدوية الصغيرة"، معتبراً أن الصيدلاني "له دور كبير في الحفاظ على المجتمع وعند تمكينه اقتصادياً سيغدو مرتاحاً في عمله وبالتالي نضمن بذلك أن أداءه سينعكس إيجاباً على المرضى".
دور التكنولوجيا الحديثة في التخفيف من التكلفة الصحية
من ناحية أخرى، تلعب التكنولوجيا دوراً مهماً وبارزاً في المواضيع المتعلقة بالصحة والإسهام في استخدام الدواء بطريقة ذكية وفعّالة وبالتالي تخفيف التكلفة على المريض، ومثلاً على ذلك، هناك تطبيق ذكي لمرضى السّكري يدعى "سبايك" أسّسه الشاب اللبناني زياد علامة والذي أحب من خلاله أن يواجه مشكلته الصحية مع السّكري (نوع 1) بطريقة حديثة ومفيدة وبالتالي تحويل معاناته الشخصية إلى تحدّ يحفزه على الاعتناء بنفسه أكثر في الصعد كافة.
ويشرح علامة "نهدف إلى التخفيف من تداعيات المرض في حياته اليومية من خلال تذكير المرضى بمواعيد الدواء وتزويدهم بإرشادات غذائية لكي يتمكنوا من الاستفادة من الأنسولين بطريقة فعالة عبر تخزين بيانات المريض عند كل وجبة وتشجيعهم على الحفاظ على المستوى المطلوب من أجل رفع مستوى إنتاجيتهم ونشاطهم".
ويؤكد "أهمية أن نعي الارتباط الوثيق بين الأنسولين وكمية الطعام"، قائلاً "للأسف، في مجتمعنا ليست هناك توعية جدّية حول ذلك، لذا جاء هذا التطبيق لتزويد المرضى بالنصائح الغذائية اللازمة للتخفيف من ارتفاع نسبة الإنسولين وبالتالي تكلفة استهلاك هذا الدواء في الشهر".
شركات التأمين سبب في ارتفاع تكلفة الدواء؟
من الأسباب الرئيسة التي تسهم في ارتفاع تكلفة الدواء هي "شركات التأمين" بحسب علامة، مشيراً إلى أنه "لا توجد تغطية على الشخص المصاب بالسكري لأنه يعدّ عبئاً وخصوصاً أن الشركة تتخوف من المضاعفات الناتجة من صحّته مقارنة بالأمراض الأخرى". أما اليوم، فقد توصلت الولايات المتحدة الأميركية إلى إقرار قانون يمنع التّفرقة بين المرضى في شركات التأمين بغض النظر عن حالاتهم، أما في لبنان، فلا تزال هذه الشركات تستثني معظمهم على الرغم من علمها أن بعضهم لا يستفيد من الضمان الاجتماعي.
ويشير علامة إلى أنه "بصدد العمل على وضع خريطة طريق لمساعدة المرضى لتسجيلهم في شركات التأمين عبر تزويد الأخيرة ببيانات السكري كدليل على التزام المريض بالدواء والعناية الذاتية لتحفيزها على تقديم خدماتها اللازمة"، ويقول "نحن لسنا الدواء بل الوسيلة التي ستساعد المريض لأن يعتني بنفسه جيداً للحد من التكاليف الإجمالية".
وتمنى "تفعيل التواصل مع وزارة الصحة لتسليط الضوء على مرضى السكري الأمس حاجة للدواء وخصوصاً أن هناك زهاء 1000 مريض لا تعلم الوزارة بحالاتهم الصعبة ولا يستطيعون شراء الدواء، وبالتالي نساعد الوزارة لدراسة حالاتهم تسهيلاً لها في اتخاذ الإجراءات المناسبة"، آملاً في "إيلاء الاهتمام أكثر بالتكنولوجيا الحديثة في حل المشاكل الصحية".
ماذا لو قمنا بذلك؟
في الفترة الأخيرة، وخلال مناقشة الحكومة اللبنانية موازنة العام 2019، حُكي عن زيادة الضرائب على الدخان والكحول وغيرهما، إلا أننا لم نشهد أي تغيّر في الأسعار، وفي حين تزداد كلفة الضرائب على الأدوية المستوردة، على المعنيين إيجاد حلول بديلة من خلال زيادة الضرائب على الكماليات والأشياء المستهلكة المضرّة بصحّة الإنسان.
وعلى الدولة اتخاذ الإجراءات السريعة التي تحمي المواطن وتعطيه فرصة للعيش بكرامة أسوة بغيره من دون استثناء. فماذا لو قمنا بذلك وأعطينا هذا المواطن فرصة للعيش من خلال خفض سعر الدواء؟