ملخص
بايدن الذي أكد حل الدولتين رفض دعوات بعض قيادات حزبه الديمقراطي إلى وقف دائم لإطلاق النار
للمرة الأولى من نوعها أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أنه يدرس فرض عقوبات فردية على المستوطنين الإسرائيليين المتورطين في هجمات ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، بينما يسعى إلى تخفيف ضغوط بعض أعضاء حزبه الديمقراطي الذين يطالبون بفرض شروط على المساعدات العسكرية لإسرائيل، فهل ينفذ بايدن تهديده في محاولة لضبط التوازنات السياسية داخل إدارته؟ أم أنه لا يستطيع أن يفعلها بعد دعمه اللا محدود إسرائيل وتعاظم ضغوط اللوبي الإسرائيلي؟
لمحة تغير
في مقال افتتاحي نشرته صحيفة "واشنطن بوست"، السبت الماضي، كتب الرئيس بايدن أنه ناقش مع قادة إسرائيل ضرورة توقف العنف المتطرف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، ومحاسبة مرتكبي العنف، مؤكداً أن الولايات المتحدة مستعدة لاتخاذ خطوات خاصة، بما في ذلك إصدار حظر على تأشيرات الدخول ضد المتطرفين الذين يهاجمون المدنيين في الضفة الغربية، وهي المرة الأولى التي يكشف فيها بايدن عن هذا الإجراء، مما يشير إلى أن البيت الأبيض يشعر بالقلق من أن الحكومة الإسرائيلية قد لا تحاول جدياً وقف عنف المستوطنين الذين قتلوا ثمانية فلسطينيين في الأقل، من بينهم طفل، وأصابوا أكثر من 70 آخرين في الضفة الغربية منذ هجوم "حماس" على بلدات غلاف غزة في إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وفقاً للأمم المتحدة.
ويبدو أن قلق الإدارة الأميركية نبع من احتمالات انفجار الوضع في الضفة الغربية المحتلة، بحسب مسؤولين أميركيين، بينما تواصل إسرائيل حملتها العسكرية في غزة، بخاصة في ظل الأرقام المزعجة الصادرة عن مكتب الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة الذي سجل أكثر من 251 هجمة للمستوطنين، بما في ذلك 30 حادثة أسفرت عن مقتل فلسطينيين، و185 حادثة أخرى ألحقت أضراراً بممتلكات الفلسطينيين، وأنه في نصف جميع الحوادث، كانت القوات الإسرائيلية إما ترافق المهاجمين أو تدعمهم بشكل فعال.
وعلاوة على ذلك، تثير تقارير أخرى حقائق مزعجة للإدارة الأميركية، وأفادت منظمة "يش دين"، وهي منظمة حقوقية إسرائيلية، بأن 197 فلسطينياً في الضفة الغربية قتلوا على يد المستوطنين أو القوات الإسرائيلية منذ السابع من أكتوبر، كما تم تهجير 11 مجتمعاً فلسطينياً بالكامل، عام 2023 وحده، وفقاً لاتحاد حماية الضفة الغربية، ستة منها منذ هجوم "حماس" بسبب عنف المستوطنين والقيود الأخرى.
طبيعة العقوبات
ليس من المؤكد حتى الآن ما إذا كان الرئيس بايدن سينفذ تهديده، لكن موقع "بوليتيكو" اطلع على وثيقة داخلية أرسلت إلى كبار مساعدي الرئيس مثل وزير الخارجية أنتوني بلينكن ووزيرة الخزانة جانيت يلين، تطالبهما بتطوير خيارات سياسية لاتخاذ إجراءات سريعة ضد المسؤولين عن العنف في الضفة الغربية، وأن الرئيس وجه كبار المسؤولين بإعداد حظر التأشيرات على المستوطنين الإسرائيليين المتطرفين الذين يهاجمون الفلسطينيين ويشردونهم في الضفة الغربية.
وإذا كانت المذكرة تشير إلى أن بايدن يرى أن قضية عنف المستوطنين تشكل تهديداً خطراً للسلام الذي تسعى إليه بين الإسرائيليين والفلسطينيين وزعزعة الاستقرار في جميع أنحاء الشرق الأوسط، فإن هذا التوجيه يهدف في العلن إلى إظهار أن إدارة بايدن تدعم المدنيين الفلسطينيين المحتاجين، حتى عندما تدافع بقوة عن انتقام إسرائيل ضد "حماس"، وفي الوقت نفسه موازنة موقف البيت الأبيض مع ضغوط عدد من أعضاء حزب الرئيس الساعية إلى فرض شروط على المساعدات العسكرية المستقبلية لإسرائيل مثل وقف إسرائيل لعنف المستوطنين وإنهاء القصف العشوائي وإدخال مزيد من المساعدات والوقود لقطاع غزة ووقف موقت لإطلاق النار بما يسمح بالإفراج عن الرهائن.
لكن بايدن الذي أكد في مقاله على حل الدولتين مع سيطرة السلطة الفلسطينية على كل من غزة والضفة الغربية في ظل هيكل حكم واحد، رفض دعوات بعض قيادات حزبه الديمقراطي لوقف دائم لإطلاق النار، قائلاً إنه ما دامت "حماس" متمسكة بأيديولوجية تدمير إسرائيل، فإن وقف إطلاق النار ليس سلاماً، وهذا يشير إلى أن أية عقوبات يدرسها بايدن لن تتجاوز حظر التأشيرات على عدد محدود من المستوطنين الإسرائيليين إذا قرر في النهاية تنفيذ ذلك.
هل يفعلها؟
وفي وقت فرضت فيه إدارة بايدن جولة ثالثة من العقوبات على مجموعة من مسؤولي "حماس" الذين يعملون في تحويل الأموال من إيران إلى غزة، ومنع الوصول إلى الممتلكات والحسابات المصرفية الأميركية ومنع الأشخاص والشركات المستهدفة من التعامل مع الأميركيين، فإن غالبية المراقبين يتوقعون أن يمتنع الرئيس الأميركي مثل أسلافه عن توقيع أي نوع من العقوبات على الإسرائيليين، ويشيرون إلى أن بايدن وصف نفسه في خطاب ألقاه عام 2011 أمام جمهور مدرسة "يشيفا بيث يهودا" في مدينة ديترويت بأنه "صهيوني ملتزم"، وشدد على التزامه تجاه إسرائيل، وتفاخر بأنه جمع أموالاً أكثر مما جمعه الآخرون من لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية "أيباك" التي تعد أقوى جماعات اللوبي الإسرائيلي.
وعلى سبيل المثال، يصف بيتر بينارت في مقالته المنشورة في مجلة "تيارات يهودية" عدد 27 يناير (كانون الثاني) 2020 تحت عنوان "سجل جو بايدن المثير للقلق في شأن إسرائيل"، كيف ساعد بايدن عندما كان نائباً للرئيس الأسبق باراك أوباما آنذاك، في حماية نظام بنيامين نتنياهو من الضغوط والعواقب بسبب سياسة الاستيطان، أكثر من أي مسؤول آخر في الإدارة الأميركية، ويوثق بينارت كيف تناقض بايدن في الفترة 2009-2010 مع محاولات أوباما لإقناع نتنياهو بتجميد التوسع الاستيطاني وإبقاء احتمال قيام دولة فلسطينية حياً، مما يثير شكوكاً واسعة في صدق نيات بايدن في معاقبة المستوطنين.
وعلى رغم أن نيكولاس كريستوف كتب مقالاً في صحيفة "نيويورك تايمز" يوم 22 يوليو (تموز) 2023، تحت عنوان "حان الوقت لبدء مناقشة ما لا يمكن ذكره مع إسرائيل"، وتحدث فيه عن أن عديداً من المسؤولين الأميركيين السابقين رفيعي المستوى اقترحوا أن تقطع واشنطن المساعدات العسكرية لإسرائيل، والتي تصل إلى 3.8 مليار دولار سنوياً ليس بسبب معاملتها للفلسطينيين، ولكن على اعتبار أنها لم تعد في حاجة إلى هذه الأموال ولديها تقريباً نوع الاكتفاء الذاتي عسكرياً واقتصادياً العسكري والاقتصادي لإسرائيل، إلا أن هذا الجدل انتهى بسرعة وتجاهلته إدارة بايدن تماماً.
الاستيطان والعقوبات
وما يزيد من صعوبة اتخاذ بايدن خطوة متقدمة على صعيد فرض عقوبات ولو شكلية على المستوطنين، أن المناخ العام في مجلسي الشيوخ والنواب وغالبية الولايات الأميركية يعارض فكرة معاقبة المستوطنات الإسرائيلية والمستوطنين، ووفقاً لمنظمة "هيومن رايتس ووتش"، فإن 27 من الولايات الأميركية الـ50 أقرت قوانين تكافح مقاطعة المنتجات التي تنتجها المستوطنات الإسرائيلية، وتعاقب الشركات التي ترفض التعامل مع منتجات المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية في الضفة الغربية أو الشركات التي ترفض القيام بأعمال تجارية في المستوطنات الإسرائيلية، ويعيش في هذه الولايات أكثر من 250 مليون أميركي، أي نحو 78 في المئة من سكان الولايات المتحدة.
ولا يقتصر الأمر على الولايات، بل امتد إلى الكونغرس الأميركي، حيث أقر مجلس الشيوخ في يناير 2019 مشروع قانون يؤيد تشريعات الولايات المناهضة لمقاطعة المستوطنات، وفي شهر مارس (آذار) من العام نفسه، قدم المشرعون قرارات في كل من مجلسي الشيوخ والنواب لإدانة مقاطعة إسرائيل، لكن أياً من هذه المبادرات لم يصبح قانوناً أميركياً بعد بسبب مخالفة الاستيطان للقانون الدولي.
صعوبة معاقبة إسرائيل
وعلى رغم ندرة الخلافات التي تنشب بين الرؤساء الأميركيين والقادة الإسرائيليين، فإنها قليلاً ما تخرج إلى العلن، ناهيك بصعوبة تصاعد الخلاف إلى الدرجة التي تصل إلى توقيع عقوبات على إسرائيل.
ومن بين أبرز المواجهات المريرة تلك التي دارت بين الرئيس باراك أوباما ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في شأن الاتفاق النووي الإيراني، في عام 2015، والتي بدت في نظر كثيرين وكأنها صدام غير مسبوق بين البيت الأبيض وتل أبيب، وانتهت بامتناع الولايات المتحدة عن استخدام حق النقض "الفيتو" في خطوة نادرة كانت تستهدف معاقبة حكومة نتنياهو على تحديه المستمر بتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية.
تحدي بوش الأب
ومع ذلك، كانت المواجهة السياسية الأكثر سطوعاً في خريف عام 1991 عندما أعطى الرئيس الأميركي الراحل جورج بوش الأب الموافقة على ضمانات قروض بقيمة 10 مليارات دولار لمساعدة إسرائيل على التعامل مع موجة الهجرة من الاتحاد السوفياتي السابق، وطالب بعد ذلك إسرائيل بتجميد البناء الاستيطاني قبل الموافقة على الطلب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان من شأن المواجهة الغاضبة التي استمرت أشهراً عدة، أن تؤثر في المسار السياسي لكل من بوش ورئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إسحاق شامير، كما أنه غير بشكل دائم ديناميات العلاقة الثلاثية بين الولايات المتحدة وإسرائيل وجماعات المصالح الأميركية المؤيدة لإسرائيل، نظراً إلى أنها كانت المرة الأولى التي يجرؤ فيها رئيس أميركي على ربط المساعدات العسكرية أو الاقتصادية لإسرائيل بالحد من بناء المستوطنات في الضفة الغربية أو غزة أو مرتفعات الجولان، بل إنه تحدى ليس فقط جهود الكونغرس للمضي قدماً في تشريع الضمانات، بل أيضاً مستويات المساعدات العامة لإسرائيل.
وقد أصيب اللوبي المؤيد لإسرائيل بالصدمة إزاء إصرار إدارة بوش على تأجيل نظر الكونغرس في هذه الضمانات التي صيغت بعناية مع الحكومة الإسرائيلية، وقال بوش للصحافيين إن تأجيل تقديم الضمانات يشكل أهمية بالغة لصالح السلام، لأن عرضه على الكونغرس من شأنه أن يثير مناقشة مثيرة للجدل يخشى أن تتعارض مع قدرة إدارته على جلب الأطراف إلى طاولة السلام، لكن قدرة بوش الأب على تحدي إسرائيل جاءت في لحظة تاريخية نادرة، فقد كان بوش مزهواً بالانتصار في أعقاب النجاح الأميركي في حرب الخليج الأولى، وسعى إلى استخدام رأسماله السياسي المفاجئ في العالم العربي وفي داخل الولايات المتحدة بشعبية تاريخية وصلت إلى 92 في المئة لتنظيم مؤتمر مدريد في خريف عام 1991، وهو الحدث الذي جمع للمرة الأولى إسرائيل للتفاوض بصورة مباشرة وعلنية مع الفلسطينيين والدول العربية المجاورة.
هل دفع بوش الثمن؟
اعتبر بوش الأب أن جهود الضغط التي تبذلها لجنة الشؤون العامة الإسرائيلية "أيباك" ضده في الكونغرس على أنها محاولة لمنع الرئيس من اتخاذ خطوات حيوية لأمن البلاد، مما يعني ضمناً أن مطالبة الحكومة الإسرائيلية و"أيباك" بضمانات تبلغ 10 مليارات دولار، يتصرفان بشكل جاحد ويتدخلان في ديناميات السلطة في الحكومة الأميركية، وفي قدرة الرئيس على اتخاذ القرارات عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية.
وعلى رغم انتصار بوش واضطرار شامير إلى الحد من الاستيطان وتراجع "أيباك" عن مطلبها بتمرير ضمانات القروض عبر الكونغرس، والذي كان بمثابة نقطة تحول في تاريخ علاقة اللوبي مع كل من البيت الأبيض وإسرائيل، فإن بوش دفع على ما يبدو ثمن هذا التحدي النادر وخرج من البيت الأبيض بعد دورة رئاسية واحدة بعد خسارته الانتخابات الرئاسية في نوفمبر (تشرين الثاني) 1992 بسبب علاقته المتضررة مع "أيباك" واليهود الأميركيين الذين فضلوا منافسه بيل كلينتون بدرجة أكبر من تأييدهم المعتاد للمرشحين الديمقراطيين، إذ صوت 11 فقط من اليهود الأميركيين لصالح بوش.
مقارنة ممكنة
وإذا كان بوش الأب قد دفع ثمن فرض نوع من العقاب والضغوط على حكومة إسرائيل، فلا شك أن الرئيس بايدن الذي دعم تل أبيب بشكل غير مسبوق، سيأخذ في اعتباره أخطار تحدي "أيباك" وجماعات المصالح المؤيدة لإسرائيل، بخاصة أن شعبيته الآن سجلت أقل مستوى لها، وأية مغامرة غير محسوبة العواقب قد تنهي مستقبله السياسي حتى ولو كانت العقوبات ضد المستوطنين الإسرائيليين رمزية أو صورية.