ملخص
ثمة أزمة تدفئة بدأت تتكرر فصولها مع كل شتاء ومنذ اندلاع الحرب، وتفاقمت أكثر مع خروج مناطق شمال شرقي سوريا الغنية بالآبار النفطية عن سيطرة النظام
عبثاً يسعى الطفل الصغير أسامة ابن الثمانية أعوام إلى العثور عن أي قطعة خشبية أو أقمشة بالية أو قطعة بلاستيكية تالفة في الشوارع والأماكن العامة أو على أطراف مكبات القمامة، تسد رمق مدفأة بيته المتعطشة لنار توقد في جوفها الحديدي.
ويقطن أسامة في حي شعبي جل سكانه من الطبقة الفقيرة أو المتوسطة وما دون، وتعول معظم عائلاته على حصة واحدة أو اثنتين من مادة مازوت المخصصة من قبل الحكومة السورية للتدفئة المنزلية، وتعادل الحصة الواحدة 50 ليتراً، "وهذا بالكاد يكفي لإشعال المدفأة"، بحسب الطفل الصغير الذي يرتدي ملابس رثة لا تقي جسمه لسعات البرد القارس.
البرد يجمد الدماء
وثمة أزمة تدفئة بدأت تتكرر فصولها مع كل شتاء ومنذ اندلاع الحرب، وتفاقمت أكثر مع خروج مناطق شمال شرقي سوريا الغنية بالآبار النفطية عن سيطرة النظام، وبات الاعتماد على توريدات الناقلات النفطية من إيران أو روسيا بالوقود والمازوت بصورة أساس، لا سيما وأن الآبار النفطية وحقول الغاز المتواضعة في البادية وسط البلاد قد دمرت مرات عدة أثناء الاستحواذ عليها من قبل تنظيم "داعش" قبل سقوطه، وبحاجة ماسة إلى إصلاح وتأهيل لمعاودة الإنتاج.
وفي غضون ذلك استنزف الناس في هذا الشتاء كل الوسائل المتاحة لديهم وباتوا يعتمدون على بدائل مع فقدانهم مستلزمات ووسائل التدفئة، وتقطعت بهم السبل للحصول على ليترات قليلة من المازوت، ولهذا الغرض عمدوا إلى إحراق الأقمشة العتيقة والورق المقوى وقطع الخشب وأكياس النايلون، ضاربين بتأثيرات هذه المواد على البيئة وصحة الإنسان عرض الحائط في مقابل توفير الدفء لأجساد الأطفال الصغار وكبار السن.
"أي شيء يصلح للحرق نرميه في المدافئ"... هكذا تروي أم أمجد، وهي ربة منزل وزوجة لموظف متقاعد، بكثير من الحسرة والغصة وتقول، "منذ 10 أيام ومدفأتي لم تعمل لعدم توافر المازوت، وأستخدم أحياناً المدفأة الكهربائية لكن لا يتم تزويدنا بالكهرباء سوى ساعتين في اليوم، وزوجي متوفى وراتبه التقاعدي لا يكفي ثمن ليترات قليلة، أما الحصة المخصصة للمازوت المنزلي فلم أتسلمها بعد على رغم دخول الشتاء".
وفي المقابل لا تزال الحكومة تحافظ على دعم مادة المازوت المنزلي على رغم تخفيف وتقنين الدعم لعدد من المواد، في حين لا طاقة للمواطنين من أصحاب الدخل المحدود على تكبده سعر المازوت غير المدعوم، وحتى ميسوري الحال يشعرون بتفاقم كلف المعيشة مع ازدياد حجم التضخم الحاصل.
ويقول أحد التجار إن "الأسعار في سوريا باتت بالدولار ورواتب وأجور الموظفين بالليرة"، ويساوي الدولار الواحد 1400 ليرة بينما متوسط أجور الموظفين يتراوح بين 200 و250 ألفاً، أي أقل من 20 دولاراً شهرياً.
عودة "البابور"
ومع بداية كل الشتاء ينشغل أرباب العائلات بتركيب "الصوبيا" (المدفأة)، لكنهم يصطدمون بالتقنين ولذا يحاولون توفير بعض الليترات للظفر بها في أكثر أوقات الشتاء برودة، والتي يسميها السوريون بـ "المربعانية" نسبة للأيام الـ 40 الأكثر برودة.
واكتفت البيوت التي كانت لديها أربع أو خمس مدافئ بواحدة فقط بعد نضوب وشح المواد المشغلة، وهنا يتذكر معلم إصلاح (البابور) أبو محمد أيام الوفرة والخير حين كان كل منزل يحظى ببرميل أو اثنين من المازوت، وفي كل غرفة مدفأة خاصة تعمل من دون توقف طوال الشتاء، "ولم نكن نشعر بقساوة الشتاء، رحم الله ذاك الزمن الجميل".
ويقول معلم الإصلاح في سوق النحاسين إن "البابور يعمل على مادة الكاز وهو متوافر إلى حد ما لكن لا ينصح به للتدفئة، غير أن المواطنين ومع انخفاض المواد الأساس يستعينون به للطبخ أو التدفئة الفردية لسهولة نقله وحمله باليد".
كذلك تباع في الأسواق مدافئ تعمل بالكحول الطبي أو ما يسمى "سبيرتو"، وقد نالت إقبالاً على رغم الأخطار التي تصاحب اشتعال الكحول.
الحطب أصابه الغضب
ولعل حال الخشب والحطب ليس أفضل من المازوت، فقد حلّق ثمنه مع دخول فصل الشتاء، ويتراوح الطن الواحد بحسب جودته من 4 إلى 5 ملايين ليرة، أي ما يعادل 400 دولار أميركي، ويتفاوت في حال كان الحطب جافاً أو بحسب نوعه، بينما تفضل الغالبية خشب الزيتون والجوز، وهو الأكثر انتشاراً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي مقابل ذلك أخذ النجارون ينفضون الغبار عن أخشاب عتيقة أو أثاث منزلي غير قابل للإصلاح، فيقطعونه عبر آلاتهم الخاصة بالنجارة ويضعونه في أكياس كبيرة ويبيعونه للناس مع تناقص وسائل التدفئة، سواء المازوت المنزلي أو الحطب الذي يؤمّنه عمال ومجموعات بدأت فؤوسهم ومناشيرهم الحديدية تلتهم الغطاء النباتي بصورة جائرة.
ومع كل هذا النقص انتشرت في المدن وبالذات داخل الأرياف مدافئ حديثة الصنع تعمل عبر النفايات وخلاصة ثمار الأشجار والقشور، ومنها فاكهة المشمش والفستق الحلبي، ويشرح رضا عبدالغني، وهو أحد صنّاع وبائعي المدافئ في مدينة حماة، أن الفكرة انتشرت في المدينة ولاقت ترحيباً واستحساناً لدى معظم الناس، وبدأت تلقى إقبالاً في باقي المدن والمحافظات السورية.
ولفت عبدالغني إلى أن هذه المدافئ الحديثة تعمل بصورة جيدة وغاية في التوفير، فضلاً عن كونها صديقة للبيئة، مضيفاً "يحاول الناس شراء تلك المدفأة لكنها مرتفعة الثمن وتصل إلى 2.5 مليون ليرة (200 دولار أميركي)، وتعمل على أنواع القشور اليابسة كافة مثل المشمش والفستق الحلبي وغيرها".
والأمر ذاته بالنسبة إلى تحويل حبات الزيتون بعد إتمام عصره وتحويل ما بقي منه إلى قطع مستديرة الشكل تشبه قطع الحطب الصغيرة وتخصص للمدافئ، وهذا ما تعتمد عليه العائلات التي تقطن الأرياف ومرتفعات الجبال لتوفر هذه المادة بصورة أكثر، علاوة على اعتماد النازحين في الخيم، ولا سيما في الشمال الغربي، عليها نظراً إلى تضاؤل دعم المنظمات الإنسانية والإغاثية.