أنهت أسعار النفط عام 2023 وهي تقريباً حول النطاق ذاته الذي بدأت به العام قبل الماضي حول سعر 80 دولاراً للبرميل، يزيد أو ينقص. لكن سوق النفط وإن شهدت تذبذباً في الأسعار على مدار 2023، هبطت خلاله إلى حاجز 70 دولاراً للبرميل أو ما دون واقتربت ارتفاعاً من حاجز 100 دولار للبرميل، إلا أنها كانت أقل تذبذباً من عام 2022 الذي شهد بداية الحرب في أوكرانيا وسلسلة حزم العقوبات الغربية على روسيا. ففي ذلك العام بلغ التذبذب في الأسعار ما بين 140 دولاراً للبرميل بعد أسبوع من بدء الحرب ثم انخفض بنحو النصف ليرتفع مجدداً مع فرض العقوبات النفطية صيف العام الماضي إلى 125 دولاراً للبرميل.
استمر تأثير الحرب الأوكرانية على قطاع الطاقة مع بدء تنفيذ عقوبات سقف السعر للنفط الروسي مطلع 2023، ظلت الأسعار في نطاق 80 – 85 دولاراً للبرميل. وحافظت سياسة خفض الإنتاج التي أقرها تحالف "أوبك+" بقيادة السعودية وروسيا في خريف 2022 على استقرار الأسواق مع توازن العرض والطلب وظل تذبذب الأسعار في نطاق ضيق إلى حد كبير.
اضطراب السوق
مع تبخر الآمال الكبرى بانتعاش قوي في الاقتصاد الصيني، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، عقب رفع كل قيود الإغلاق التي صاحبت وباء كورونا هبطت الأسعار إلى مستوى 70 دولاراً للبرميل. ومن بين أسباب الهبوط وقتها موجة بيع هائلة للعقود الآجلة من قبل المضاربين في أسواق النفط مع الرهان على خفض الأسعار أكثر في ظل استمرار البنوك المركزية في تشديد السياسة النقدية لمواجهة ارتفاع معدلات التضخم.
مع نهاية الربع الأول من 2023، أثارت أزمة إفلاسات البنوك الإقليمية في الولايات المتحدة مخاوف السوق مجدداً، وضغط ذلك بشدة على أسعار النفط. لكن بحلول الربع الثاني من العام كانت مخاوف انتشار عدوى انهيارات البنوك وانتقالها إلى أوروبا تراجعت، وشهدت المخزونات الأميركية خفضاً واضحاً. مما وفر دعماً للأسعار.
لكن تأثير سحب إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن كميات كبيرة من المخزون الاستراتيجي الأميركي وطرحها في السوق لخفض الأسعار ظل مؤثراً على معادلة العرض والطلب بزيادة المعروض من الخام أكثر من حاجات الاستهلاك. كذلك أسهم عدم انهيار الإنتاج والصادرات الروسية، بعدما وجدت موسكو سبلاً مختلفة للالتفاف على العقوبات، في بقاء العرض أعلى من الطلب.
في يونيو (حزيران) اتفق تحالف "أوبك+"، الذي يضم دول "أوبك" ومنتجين من خارجها وتأسس عام 2016، على سقف إنتاج مخفض لضمان توازن العرض والطلب ويتضمن خفضاً بقيمة 3.66 مليون برميل يومياً. على أن ينتهي العمل بالاتفاق مع نهاية هذا العام، وهو ما تم تمديد العمل به في الاجتماع الأخير حتى الربع الأول من العام الجديد 2024.
إضافة إلى اتفاق سقف الإنتاج، أعلن عن خفض طوعي للإنتاج من جانب أكبر الدول المنتجة في التحالف وهي السعودية بمقدار مليون برميل يومياً وأيضاً خفض طوعي أقل من جانب روسيا بمقدار 300 ألف برميل يومياً. وبذلك وصل إجمالي خفض الإنتاج من جانب تحالف "أوبك+" منذ العام الماضي 2022 إلى نحو 5.16 مليون برميل يومياً – أي ما يساوي نسبة خمسة في المئة تقريباً من الطلب العالمي على النفط.
المضاربات وتقارير وكالة الطاقة
رغم ضبط توازن السوق، فإن الأسعار ظلت تتذبذب حتى نهاية الخريف، وذلك في قدر كبير منه نتيجة المضاربات على العقود الآجلة أكثر منه بسبب الأرقام الحقيقية للعرض والطلب، فقد ظل الطلب العالمي في نطاق 102 مليون برميل يومياً مع تقديرات بزيادته أكثر من مليوني برميل يومياً، وهو ما يكفي المعروض في ظل تخفيضات "أوبك+" لتلبيته بشكل متوازن يحافظ على استقرار السوق.
ومما أسهم في اضطراب الأسواق، غير نشاط المضاربين، تقارير وتصريحات وكالة الطاقة الدولية التي انتقدتها "أوبك" واعتبرتها "حملة سياسية" أكثر منها تستند إلى واقع السوق وأرقامه الحقيقية، إذ كررت الوكالة توقعاتها بأن الطلب العالمي على النفط وصل إلى ذروته وسيأخذ في التراجع وذلك بالطبع يضغط على الأسعار نزولاً، ثم عادت الوكالة إلى إصدار التقارير واستخدام منصات التواصل للترويج بأن العالم في حاجة إلى التخلي عن النفط والغاز وتحويل الاستثمارات إلى مصادر الطاقة الجديدة في سياق جهود مكافحة التغيرات المناخية.
ترافق ذلك مع حملة من التقارير الإعلامية والتصريحات السياسية التي تستهدف شركات الطاقة الكبرى وتحديداً صناعة النفط، ذلك في وقت لم يتوقف فيه نمو الطلب على النفط، وإن بمعدلات أقل من التوقعات. لكنه بمنحى يشير إلى أن الحديث عن وصول الطلب العالمي ذروته لا يستند إلى الواقع. حتى المخاوف من تباطؤ الطلب الصيني على الطاقة أثبتت الأرقام الواقعية أنها مبالغ فيها. وفي سبتمبر (أيلول) رأى خورخيه ليون من شركة "رايستاد إنرجي" في مذكرة بحثية أن الطلب الصيني على الطاقة لن يتراجع كثيراً بل على العكس سيواصل النمو، إذ ارتفعت واردات الصين من النفط الخام في أغسطس (آب) إلى 11.5 مليون برميل يومياً، وذلك بزيادة قدرها مليونا برميل يومياً عن الشهر نفسه من العام 2022. وهو مما يجعل الصين تظل صاحبة نصيب الأسد من نمو الطلب العالمي على النفط المتوقع لهذا العام بمقدار 2.2 مليون برميل يوميا طبقاً لأرقام وكالة الطاقة الدولية نفسها.
وعلى رغم تلك الحملات، حافظ تحالف "أوبك+" على التصرف استناداً إلى الأرقام الحقيقية للعرض والطلب. وبنهاية الربع الثالث من هذا العام أشار تقرير لوكالة "بلومبيرغ" إلى ما أكده وزير الطاقة السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان أن السعودية ستتصرف بسرعة وبشكل استباقي لضمان استقرار سوق النفط، مشيراً إلى أن الأمر يعتمد على "أرقام حقيقية" في شأن العرض والطلب في السوق. وتلك إشارة واضحة إلى أن السعودية، والمنتجين عموماً، لن يتحركوا استناداً إلى مضاربات المتعاملين في السوق.
زيادة إنتاج من خارج "أوبك+"
ذلك ما حدا بتحالف "أوبك+" إلى تمديد العمل بخفض الإنتاج المتفق عليه، مع زيادة الخفض الطوعي من جانب بعض دول التحالف بنحو مليون برميل يومياً إضافية حتى نهاية مارس (آذار) العام الحالي للحفاظ على استقرار السوق. بخاصة أن عدداً من المنتجين من خارج دول التحالف، في مقدمتهم أميركا، يزيدون إنتاجهم بما يقلل من تأثير تخفيضات "أوبك+" على معادلة العرض والطلب.
في مذكرة لهم الشهر الماضي، رأى المحللون في بنك "غولدمان ساكس" الاستثماري الأميركي أن "أسعار النفط انخفضت قليلاً هذا العام (2023) على رغم أن الطلب العالمي تجاوز التوقعات المتفائلة". وأرجع المحللون ذلك إلى أن "الإمدادات من خارج دول أوبك أصبحت أكبر من التوقعات، وهو ما جعل تخفيضات أوبك غير مؤثرة في جانب العرض في السوق".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تأتي الولايات المتحدة في مقدمة المنتجين من خارج تحالف "أوبك+"، ويشكل إنتاجها النفطي نحو ثلثي نمو المعروض من خارج "أوبك". وبحسب أحدث تقديرات وكالة الطاقة الدولية يتوقع ارتفاع الإنتاج النفطي الأميركي عام 2023 بمقدار 1.4 مليون برميل يومياً، كما أن خطط شركات الطاقة الأميركية تشير إلى أن الولايات المتحدة تستهدف زيادة إنتاجها بنحو أربعة ملايين برميل يومياً في السنوات القليلة المقبلة.
رغم أن التعافي في الاقتصاد الصيني في 2023 لم يكن قوياً كما هو متوقع، فإن ذلك لم يضر كثيراً بنمو الطلب العالمي. وهذا ما جعل أحدث تقرير شهري لـ"أوبك" منتصف شهر نوفمبر (تشرين الثاني) يرفع تقديرات نمو الطلب العالمي قليلاً، بخاصة مع مؤشرات خفض معدلات التضخم في الولايات المتحدة وأوروبا. وتوقع تقرير "أوبك" أن يصل نمو الطلب العالمي على النفط في 2023 في المتوسط إلى 2.46 مليون برميل يومياً، بزيادة 20 ألف برميل يومياً عن التوقعات السابقة. وأن يكون نمو الطلب العالمي في عام 2024 بمقدار 2.25 مليون برميل يومياً.
توقعات العام المقبل
مع تفادي الاقتصاد العالمي الركود هذا العام، كما كان يخشى سابقاً، يتوقع أن تواصل أسواق الطاقة وضع التوازن الحالي مع الاستقرار النسبي ما لم تحدث أي مفاجآت طارئة تؤثر في جانب العرض أو الطلب. وتبقي التقديرات بالنسبة إلى الأسعار في ما بين النطاق الحالي واحتمالات الارتفاع فوق حاجز 100 دولار للبرميل أو الهبوط نحو حاجز 70 دولاراً للبرميل.
وفي تحليل لمجلة "الإيكونوميست" في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي استعرض آراء المتفائلين والمتشائمين في شأن أسعار النفط خلصت إلى أن الأرقام الواقعية للإنتاج والاستهلاك لا تحمل مفاجآت قوية.
استند المتفائلون إلى أن المخاوف من تردي الاقتصاد الصيني انتهت تقريباً، رغم استمرار مشكلات ثاني أكبر اقتصاد في العالم. وأشار هؤلاء إلى الزيادة في أعداد السائحين ورجال الأعمال الصينيين الذين يقبلون على السفر في اضطراد ما زاد الطلب على وقود الطائرات من ثم على النفط الخام ومشتقاته، كما أن موسم السفر الأميركي السنوي الذي يصل قيمته في عيد العمال مطلع سبتمبر كان قوياً. وهذا ما دفع بعض المحللين إلى توقع استمرار الطلب القوي على النفط وأنه لن يأخذ في التراجع إلا بعد وصول الأسعار إلى نطاق 110 – 115 دولاراً للبرميل.
وتوقعت شركة الاستشارات في مجال الطاقة "إنرجي أسبكتس" أن تخفيضات الإنتاج الحالية من قبل تحالف "أوبك+" لن تنال منها زيادة إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة كما حدث قبل نحو عقد من الزمن. فعلى رغم أن شركات النفط الصخري في أميركا الشمالية مستفيدة من ارتفاع الأسعار، وتزيد إنتاجها قليلاً حالياً بالفعل، إن زيادة كلفة الإنتاج جعلت تلك الشركات توقف بعض الآبار وتراجع عدد منصات الإنتاج بنسبة 20 في المئة عما كان عليه في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2022. حتى زيادة الإنتاج من الدول خارج "أوبك"، مثل البرازيل وغويانا وغيرها، لن تكون كافية لتعويض خفض الإنتاج في ظل نمو الطلب على النفط بالمعدل المتوقع.
أما المتشائمون الذي يتوقعون هبوط الأسعار فيستندون في تقديراتهم إلى أن تعافي الطلب الصيني على النفط وصل إلى ذروته بالفعل. وقدر بنك "جيه بي مورغان تشيس" الاستثماري الأميركي أن الطلب الصيني على النفط سيظل كما هو حالياً، ولن يشهد تغيراً كبيراً، كما أن الصين استوردت كميات كبيرة من النفط في الثامنة أشهر الأولى من هذا العام ذهب معظمها للتخزين لتكريره في ما بعد. وتشير التجربة تاريخياً إلى أن الصين تتوقف عن الشراء عند ارتفاع الأسعار العالمية بقوة.