في كتابه الجديد "جراح المدن، من درعة إلى شيكاغو"، الصادر حديثاً عن منشورات المتوسط، يبدو الكاتب المغربي عبدالعزيز الراشدي مفتوناً بالأمكنة. فهو يكتب عن كل مدينة أو قرية وصلت إليها قدماه. إنه ينفذ وصية القديس أوغسطين: "العالم مثل الكتاب، ومن لا يسافر يقرأ منه صفحة واحدة فقط". يريد كتاب أدب الرحلة في عالمنا المعاصر تخليد أسفارهم، وإن كانوا يجنحون في كثر من الحالات إلى أسطرة أحداث ومواقف قد تكون عادية وعابرة. فإحدى مهام الأدب هي إضفاء الطابع الفني على الوقائع. يولي الراشدي أهمية كبرى للتفاصيل التي قد لا تغري السياح والباحثين عن المعرفة الجغرافية، وينساق خلف اللحظات الإنسانية والنفسية، متعقباً الوجوه والآثار في القرى والمدن التي زارها. غير أنه يكتب بنوع من التجرد، ودون الوقوع في فخ الانبهار. فمثلما يحتفي بمدينة عملاقة مثل شيكاغو، يحتفي بمدينة سيدي إفني الصغيرة، الواقعة جنوب المغرب.
يكتب الراشدي نصوصاً تأملية يتجاور فيها السرد والشعر، لكن الرؤية التي تؤطر هذه النصوص لا تنتمي إلى الشعر، فهي ليست رؤية حالمة، إنها تتشكل من نظرة روائي، مهمته هي ترصيص المشاهد، ثم قراءتها. وهو في ذلك لا يعنى بالمعطيات التاريخية والجغرافية المرتبطة بالأمكنة التي يكتب عنها، بل ما يهمه بالأساس هو ضبط مساحات التفاعل الذي يقع بين المكان وزائره، أي تعقب أثر المكان في نفسية الكاتب. لا ينقل الراشدي لقارئه معلومات محددة، بل ينقل إليه المشاعر والتفاعلات النفسية، وما يعقبها من تأملات ومواقف وأفكار. يلخص الراشدي فلسفته في أدب الرحلة على النحو التالي: "إن المدن لا تعيننا على اكتشاف دروبها، بل أساساً على اكتشاف أنفسنا". وهو يتماهى في هذه الفكرة مع الشاعر الرومانسي الأميركي جيمس راسل لويل الذي قال "يسافر الإنسان الحكيم لكي يكتشف نفسه".
لا يحتكم صاحب "بدو على الحافة" إلى كرونولوجيا معينة أو بناء سردي جاهز، بل يكتب بحرية تتناسب مع ولعه بالمشي والتقاطه للمشاهد، وتفكيكها، ثم الخروج بعيداً منها. لذلك يعمد في الغالب من لحظاته السردية إلى سحب القارئ خارج المكان، والذهاب به إلى أمكنة وأزمنة أخرى، عبر استعادات لفصول من حياته في قرية الطفولة بالجنوب المغربي، أو عبر تقاطعات أخرى تمتد إليها الكتابة وفق نسق استطرادي يثري الحكي.
رحلة محفوفة بالكتب
يلوذ الراشدي في مختلف نصوص الكتاب بمرجعياته القرائية، بل إن هذه الذخيرة من المقروءات تصير لديه في بعض الأحيان معدات للقياس والمقارنة. ففي مطار فرانكفورت يستحضر صورة غاسلي الصحون في كتاب جورج أورويل "متشرداً في باريس ولندن"، ليسقطها بما فيها من آلية وروتين على موظفي المطار. تحضر رواية "جاز" لتوني موريسون على طول السرد في النص الأول من "جراح المدن"، كما تحضر "أيام هادئة في كليشي" لهنري ميلر، وفي نصوص أخرى تحضر روايتا ميلان كونديرا "البطء" و"النسيان"، وقصائد سركون بولص. يحضر أيضاً بول بولز وإيطالو كالفينو. وحين يتبادر إلى أذهاننا ذلك السؤال النقدي عن جدوى وجود كتب أخرى في كتاب الراشدي، يجيبنا الكاتب منذ الصفحات الأولى: "في ماذا تفيد الكتب إذا لم تخترقنا وتغيرنا؟".
في نص "رحلة إلى مملكة بوهيميا" يكشف الراشدي عن خطته في كتابة رحلاته، فهو يدون في مذكرة صغيرة مشاهداته اليومية في حينها، ليحولها لاحقاً من يوميات وامضة إلى نصوص أدبية، لكنه يعترف بأن المذكرة التي كتب فيها يومياته في براغ قد ضاعت في المطار، لكن الغريب حقاً أن النص الذي كتبه عن هذه المدينة هو الأطول في كتابه، على رغم أنه قال في بدايته: "إذا رغبت في الكتابة عن براغ، فسيكون عليَّ أن أخلق نصاً من العدم". فإذا كان الكاتب سيفقد معطيات متعلقة بالأسماء والعناوين والمعرفة الجغرافية والتاريخية، إلا أنه لن يفقد الذاكرة التي تلتقط ما سماه "لحظات الحب والخوف والرجاء واللذة القصوى"، لذلك اهتدى إلى الحل: "عليَّ الآن أن أدخل يدا بيضاء في عتمة الذاكرة، وأمررها دون نظر حتى أظفر بالصور".
توقف صاحب "زقاق الموتى"، في مشهد عميق، عند تيمة الموت، فقد تزامنت زيارته المتحف الوطني في براغ باختيار إدارة المتحف الموت موضوعة للعرض. فوجد نفسه محاصراً بالموت مرئياً ومسموعاً، عبر أعمال مصورة تعرض لحظات احتضار حقيقية، تنقل إلى زوار المعرض حشرجات المحتضرين وكلماتهم الأخيرة، ما سيدفعه إلى الخروج من معرض الموت باتجاه شوارع الحياة.
في نصه "أيام في أنتويرب" يطرح الراشدي موضوعة طريفة ترتبط بالسفر الأدبي. ففي وقت يفضل فيه رواد إقامة الكتابة في أميركا وأوروبا الأمكنة المعزولة في الغابات والجبال، والبعيدة من ضجيج المدن، يفضل هو هذا الضجيج ويؤثره على كل عزلة. يقول عن هذا الخيار: "على خلاف معظم الكتاب لا أحب الخضرة والطبيعة والماء، ولا أكتب وسط الطبيعة إلا نادراً. أكره أن أكون وحيداً مع الأشجار والماء والبط". يعلل الكاتب هذه النزعة بنشأته في واحات الجنوب وامتلائه المسبق بطبيعتها. ويتساءل: "ماذا تفعل العين المملوءة بالخضرة بمزيد من الخضرة؟"، ثم يضيف "أكتب في الساحات العامرة والأماكن المكتظة والمقاهي والبارات، وأحس بالسعادة والاطمئنان وسط الفوضى وحديث الناس ونقاشاتهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان الكاتب المغربي الراحل محمد خير الدين لا يكتب في الغالب إلا في المقاهي والحانات غير الهادئة طبعاً. وحين سئل عن تفضيله هذه الأجواء الصاخبة، على حساب الهدوء الذي ينشده معظم الكتاب، صرح بأنه حين يشرع في الكتابة ينفصل عن المكان، وينقطع عن كل ما هو خارج الكتابة، كما لو أن الكتابة وحدها هي العزلة.
بين الجماليات والنقد
لا يخلو كتاب الراشدي من الوظيفة النقدية، وإن كان ينتقد أحياناً بعض الظواهر في بلده الأصلي أو في العالم العربي، فإن ذلك يأتي امتداداً لحبه للمكان، ورغبته في أن يحظى بالعناية التي تتوافق مع رؤيته الجمالية، لذلك تحضر، في عز الشاعرية التي يكتب بها الراشدي، بعض أشكال الترافع الاجتماعي والسياسي المباشر. في نص "رفقة بيكاسو في شيكاغو" تحضر هذه الوظيفة النقدية بصورة صريحة: "إن القانون مفيد ويمنح الأمان، وهو الضروري والمطلوب في بلداننا الضيقة التي تنهشها الفوضى والأزبال والتطرف والخداع".
يعقد الراشدي مقارنات على مستوى أسلوب العيش، في مواضيع عديدة ومتشعبة، كالحريات الخاصة والأمان والمشي بدل استعمال السيارة، ونظرة الناس إلى راكب الدراجة الهوائية، وتأخرات القطارات عن مواعيدها في البلدان العربية، والطاقات السلبية المحيطة بالناس، وتدلل الكتاب العرب في المهرجانات وانفصالهم عن الواقع، وتقوقع المهاجرين، والرغبة في نقل أسلوب عيشهم حرفياً إلى بلدان المهجر، وانشغالات الشباب في الضفتين.
يعتني صاحب "مطبخ الحب" باللغة، ويميل إلى البلاغات الخفيفة التي لا تروم استعراض المهارات، بقدر ما تسعى إلى إيصال الفكرة وفق أوعية جمالية تدعم عملية التأثير. ويبدو الكاتب مولعاً بالتشبيهات، ومستمتعاً بابتكارها. نقرأ مثلاً: "قلب طفولتي يتحرك مثل ماء البرك التي تملأ الدنيا كلما هطل المطر"، أو "قلب الأمازيغي في هذه الصحراء مفتوح مثل جرح أو خيمة". وعن اللغة الأمازيغية يكتب: "في سوس لغة ملمومة مثل مغارة في جبل أو مثل شريط موسيقي يعود إلى بدايته كل مقطع".
يكتب الراشدي عن شيكاغو وبراغ وأنتويرب والقاهرة والرباط وتافيلالت، وغيرها، بلغة تسبكها الموسيقى، ويسندها التأمل، ويؤطرها الوصف على نحو يشد المتلقي ويجذبه إلى عوالم الكتاب، العوالم الواقعية التي يحس القارئ بأن أسلوب الكتابة جعلها تنتمي إلى الخيال.