ملخص
يتكلم حوالى 96 مليون شخص اللغة الفرنسية في القارة الأفريقية التي تُحصي نحو مليار و200 مليون نسمة، فيما تعمل باريس على تعزيز حضور هذه اللغة عبر منظمة الفرنكفونية
أزالت حكومة بوركينا فاسو المنبثقة من انقلاب عسكري، اللثام عن مقترح قانون لتعديل الدستور ينص على التخلي عن اعتماد اللغة الفرنسية لغة رسمية، في تطور يثير تساؤلات عما إذا كان ذلك يعني نهاية العصر الذهبي لهذه اللغة في الساحل الأفريقي الذي شهد موجة من الانقلابات، قوضت نفوذ باريس العسكري والدبلوماسي والاقتصادي.
وبوركينا فاسو ليست الوحيدة في الساحل الأفريقي التي بصدد مراجعة اعتمادها للفرنسية، إذ سبقتها في ذلك مالي التي ألغت بموجب دستورها الجديد الذي اعتمد في يونيو (حزيران) الماضي، إقرار الفرنسية، مما يمثل انتكاسة لهذه اللغة التي عملت فرنسا على تكريسها منذ عقود عبر منظمة الفرنكفونية.
وفي منطقة تعرف انتشار عشرات اللغات المحلية، نجحت الفرنسية في توحيد لسان سكانها مباشرة بعد الاستقلال عن فرنسا في ستينيات القرن الماضي، وهي لغة سبق أن قال عنها الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون إنها بمثابة "غنيمة حرب".
نهاية حقبة
بعد أن أنهت حضور فرنسا العسكري وقلصت وجودها الدبلوماسي، تتجه السلطات المنبثقة من انقلابات عسكرية في دول الساحل الأفريقي، إلى كتابة نهاية عصر اللغة الفرنسية الذهبي في المنطقة.
وعلى خطى الجارة مالي، نص مشروع قانون جديد في بوركينا فاسو عكفت السلطات على إعداده منذ أشهر، على إنزال اللغة الفرنسية إلى "مرتبة لغة العمل"، بحسب ما ذكرت صحيفة "لو موند".
وقال المحلل السياسي النيجري نيوسا جمراو إن "القرارات التي اتخذتها بوركينا فاسو ومالي تشكل نهاية حقبة خدمت فيها هذه اللغة فرنسا حتى تكرس نفوذها على مستعمراتها السابقة في الساحل الأفريقي".
وأوضح جمراو أن "فرنسا فرضت هذه اللغة على تلك المستعمرات، لذلك أعتقد بأن التخلي عنها هو قرار ثوري ومفيد، وهناك دول ستخطو مثل هذه الخطوات على غرار النيجر التي هي في توافق تام سياسياً ودبلوماسياً مع واغادوغو وباماكو".
وأُرغمت فرنسا على إخراج قواتها من مالي عام 2022، ثم بوركينا فاسو، وأخيراً من النيجر، كما أعلنت نهاية عملية "برخان" العسكرية التي قادتها في محاولة لتحجيم نفوذ الجماعات الإرهابية التي تشن هجمات دموية في المنطقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عمق الفجوة
والعملية أطلقت في 2013، لكنها لم تقد إلى إحراز أي تقدم في مواجهة الجماعات الإرهابية، مما دفع دول المنطقة إلى المراهنة على روسيا عبر عناصر مجموعة "فاغنر" لمواجهة تلك الجماعات.
واعتبر جمراو أن "كثيرين من المواطنين، خصوصاً المؤيدين لموجة التغيير في دول الساحل الأفريقي، يرون التخلي عن الفرنسية وكل ما تمثله باريس وأدواتها خطوة مرحباً بها، لذلك على الحكومة الفرنسية القبول بالأمر الواقع مع أن لغتها ستكون لغة ثانوية ولم يتم استبعادها بصورة نهائية".
والانتكاسات التي مُنيت بها فرنسا وأدواتها الدبلوماسية والثقافية والعسكرية لا تنحسر في الساحل فقط، إذ امتدت إلى دول مثل جنوب أفريقيا والجزائر التي تخلت هي الأخرى عن الفرنسية واستبدلتها بالإنجليزية.
وتعكس هذه التطورات عمق الفجوة بين باريس وعواصم الساحل الأفريقي على إثر الانقلابات، مما قد تكون له تداعيات اقتصادية، خصوصاً أن صادرات فرنسا بعد الاستقلال إلى مستعمراتها الأفريقية السابقة بلغت بحسب بيانات حكومية 8.7 في المئة، لكنها تراجعت خلال الأعوام الـ10 الأخيرة إلى خمسة في المئة.
لا نهاية
في المقابل، يرى مراقبون فرنسيون أن التغيرات التي تعرفها منطقة الساحل على مستوى اللغة عادية بالنظر إلى تعاظم الإنجليزية في العالم، علاوة على أن لغتهم ستبقى ثانوية في هذه الدول.
ويتكلم حوالى 96 مليون شخص اللغة الفرنسية في القارة الأفريقية التي تحصي نحو مليار و200 مليون نسمة، فيما تعمل باريس على تعزيز حضور هذه اللغة عبر منظمة الفرنكفونية التي ترى فيها أداة فاعلة لتحقيق ذلك عبر أنشطة ثقافية.
ولم تعلق السلطات الفرنسية أو منظمة الفرنكفونية على هذه الخطوات بعد، لكن رئيس المعهد الأوروبي للأمن والاستشراف إيمانويل دوبي اعتبر أن "قرار السلطات في واغادوغو لن يلغي اللغة الفرنسية التي ستبقى لغة ثانوية والتي يتم التحدث بها من قبل كثيرين في بوركينا فاسو إلى جانب حوالى 39 لغة محلية أخرى".
وتابع دوبي في تصريح إلى "اندبندنت عربية" أن "الأهم في اعتقادي هو الطريقة التي استغل بها الرئيس إبراهيم تراوري قضية الفرنسية والفرنكفونية في بلاده لمراجعة الدستور والتمهيد لاستفتاء من أجل دستور آخر لا يكون مستلهماً من فرنسا ومبادئها".
وشدد على أن "العصر الذهبي للفرنسية لم ينتهِ بعد في منطقة الساحل لأنها لا تزال معتمدة في الإدارات وغيرها، ناهيك عن أن هناك دولاً أخرى تسعى إلى تعزيز استعمالها الفرنسية على غرار غانا".
ومع التخلي عن لغتها وإنهاء الشراكات العسكرية معها ومطاردة بعثاتها الدبلوماسية، فإن تساؤلات عدة تخامر كثيرين الآن، هل ستجد فرنسا مداخل أخرى للعودة لأفريقيا التي اعتبرت لعقود "أفريقيا الفرنسية"؟ أم أن هذه القارة ستكون شاهدة على تشكل مشهد عالمي جديد متعدد الأقطاب في ظل محاولات روسيا والصين ملء الفراغ الذي يتركه انسحاب باريس؟