ملخص
أجبرت الحرب الإسرائيلية سكان غزة على البحث عن وسائل بدائية استغنى عنها الناس في أواخر عقود القرن الماضي وجعلت بابور الكاز يحل ضيفاً على عائلات غزة في عصر التكنولوجيا.
وسط أكوام الأثاث القديم، جلست فاطمة تبحث عن كنز ثمين، وبعد نحو ساعة من التفتيش عثرت على بابور الكاز، وبفرح أخذت تنفض عنه الغبار الذي تراكم عليه بعد أعوام على هجره، ثم ضمته إلى صدرها.
لا تصدق فاطمة أن الحرب الإسرائيلية القاسية أجبرتها على البحث عن وسائل بدائية استغنى عنها الناس في أواخر عقود القرن الماضي، وجعلت بابور الكاز يحل ضيفاً على عائلات غزة في عصر التكنولوجيا.
الوسائل البدائية
في الواقع أدى وقف إسرائيل توريد غاز الطهي وجميع أنواع المحروقات عن غزة، منذ بدء الحرب في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى تردي طبيعة الحياة التي يعيشها سكان القطاع، ودفعتهم الظروف القاسية إلى اللجوء لوسائل بدائية.
وبصوت حزين تقول فاطمة "جربت كل الوسائل البدائية خلال الشهرين الماضيين، أوقدت النار في الحطب، وكذلك أشعلت فرن الطينة، واليوم أعود للقرن الماضي، وها أنا أجهز موقد الكيروسين، انقلبت حياتي رأساً على عقب بسبب الحرب بعدما كنت أعيش معززة مكرمة مع موقدي الذي يعمل على غاز الطهي".
وتضيف "لم أتصور للحظة أن نفقد كل شيء مرة واحدة، فالكهرباء غابت والغاز اختفى وحتى الحطب الذي كنا نراه أيضاً أصبح شحيحاً"، مشيرة إلى أنها استخدمت الأخشاب اليابسة لأيام عدة لإشعال النار وانتهت الكمية التي جلبتها.
حرق الحطب مرهق
وبحسب فاطمة فإن إشعال النيران كلفها كثير، إذ مرض أبناؤها من الدخان الناتج من حرق الحطب، واضطرت إلى نقل اثنين منهم إلى المستشفى، لذلك لجأت إلى بابور الكاز.
والبابور هو موقد مصنوع من النحاس، ويعمل على وقود الكيروسين الذي يعرف محلياً باسم الكاز الأبيض، وانتشر في بدايات ومنتصف القرن الماضي في مصر وبلاد الشام وفلسطين، وكان يستعمل لتسخين الماء والتدفئة، وطهي الطعام وخبز الخبز.
لفاطمة خمسة أطفال، أكبرهم كان يصرخ يريد كوباً من الحليب الساخن، والثاني يطلب ماء ليستحم، فيما البقية ينتظرون بشغف إعداد مائدة الإفطار، وفي ظل هذه الأجواء وجدت الأم في بابور الكاز نجدة لها لتجنب إشعال الحطب.
توضح فاطمة أنها كانت تقوم بجميع هذه المهمات على نار الحطب الذي يحتاج إلى جهد كبير وتقضي ساعات طويلة لإتمام ذلك، مشيرة إلى أنها ستستخدم البابور لأغراض الطهي.
عودة جماعية للبابور
عن طريق الصدفة، عثرت فاطمة على عبوة من وقود الكيروسين أو "الكاز" في بيتها، وتلقائياً فضلت استخدام البابور بدلاً من الحطب، كانت نعتقد أنه بمجرد نفاد هذا النوع من المحروقات ستضطر إلى العودة للحطب، لكن أحد أولادها أكد لها قائلاً "في محطة تعبئة الوقود سنجد كازاً أبيض"، قال الصغير، لكنها تعي أن أية كميات من الكيروسين مهما كانت كبيرة ستنفذ بسرعة إذا استمرت الحرب لأسابيع مقبلة.
رحلة بحث فاطمة عن البابور، لجأ إليها معظم الأهالي في قطاع غزة للتغلب على مشكلة نفاد المحروقات، ووجدوا في الأدوات القديمة حلاً موقتاً لمعاناتهم اليومية.
يقول الحاج فرج إن البابور المنسي منذ سنوات عاد للحياة، وأخذ يحركه بيديه ويفحصه إذا كان شغالاً أو أنه يحتاج إلى صيانة.
يضيف فرج "ما من حل أمام أهالي غزة سوى اللجوء إلى أبسط الوسائل لتسيير أمورهم، منذ سنين تركنا استخدام البابور لكن عدنا إليه هذه الأيام فللضرورة أحكام"، ويقول بحسرة "الحياة تسير نحو مزيد من التقدم، ونحن نرجع للوراء عقوداً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إحياء مهنة اندثرت
بعد فحص البابور تبين لحمدي أنه لا يعمل ويحتاج إلى التصليح، فحمله ومشى به في الشوارع المزدحمة، وشق طريقه نحو أبواب المحال الصغيرة التي تعمل على تصليح بوابير الكاز.
أمام باب محل العم حاتم الذي يعمل في صيانة بوابير الكاز، اصطف عشرات المواطنين، وكان صاحب المحل يتصبب عرقاً ووجهه متشح بالسواد، وهو يدعو زبائنه إلى الابتعاد قليلاً عن مدخل المحل الذي غص بالناس.
يقول العم حاتم "عديد من أصحاب هذه الحرفة القديمة عادوا لممارستها هذه الأيام بعد أن تركوها لاستغناء الناس عن بابور الكاز، أنا ما زلت أمارس مهنتي ولم أنقطع عنها فكرت كثيراً في تركها لكن لم أجد بديلاً".
تدفق محدود للوقود
ويوضح العم حاتم أن البوابير جزء أصيل من التراث الفلسطيني، ولا يوجد بيت يستغني عن بابور الكاز، خصوصاً مع استفحال أزمة انقطاع الغاز، مؤكداً أن العمل في هذه المهنة متعب ومرهق جداً.
بحسب العم حاتم، فإن غزة اضطرت للعودة لعصر البوابير، والنساء والرجال الذين قدموا لإعادة إصلاح المواقد، بات أملهم الوحيد في الحصول على طعام مطبوخ أو خبز للأطفال.
بعد ضغط أميركي على إسرائيل، وافقت الأخيرة على دخول كميات محدودة من الوقود، لكن مدير عمليات "أونروا" في غزة توماس وايت يقول "خفضت إسرائيل كميات الوقود التي تدخل للقطاع للنصف، وهذا أمر سيئ ويكلف مزيداً من الأرواح".
ويضيف وايت "أزمة غاز الطهي ما زالت مستمرة ومعاناة العائلات أمام هذا الانقطاع تكبر وتتسع، يحتاج سكان غزة إلى 300 طن من غاز الطهي يومياً لتلبية حاجات المواطنين".