ملخص
علينا أن نرفع وننمي ذكاءنا الطبيعي لنصنع أمننا الغذائي أولاً قبل أن نثرثر حول الذكاء الاصطناعي
يحدث هذا في بلداننا، بين نخبنا، وحتى بين العامة أحياناً كثيرة، ولأن الخطاب مختلط عندنا، إذاً فالجميع يتحدث في كل شي وعن كل شيء، يناقش في كل أمر، من سعر البطاطس مروراً بتحكيم كرة القدم، وتزوير الانتخابات، وصولاً إلى حركة الروبوت على سطح المريخ، تسمع أحاديث ومناقشات حادة وغاضبة ومتفقهة في الذكاء الاصطناعي لا تنتهي، ندوات ومحاضرات عن قرب وعن بعد، على التلفزيون وفي الإذاعات، في الجامعات وفي "مراكز البحوث"، بلغات الفرنجة وبلسان العرب المبين، فتتساءل: كيف لنخب بلدان لا تنتج العدس والفول والقمح لسد حاجتها المعيشية ولها من الأراضي الزراعية ما يكفي لذلك وأكثر، يشغلها أمر "الذكاء الاصطناعي" إلى هذه الدرجة؟
هل الغباء الاصطناعي قادر أن يناقش الذكاء الاصطناعي؟
علينا أن نرفع وننمي ذكائنا الطبيعي لنصنع أمننا الغذائي أولاً قبل أن نثرثر حول الذكاء الاصطناعي.
إن الغباء لم يعد حالاً طبيعية، لقد أصبح ظاهرة اصطناعية شأنه شأن الذكاء الاصطناعي.
نخب البلدان المتقدمة تعيش سعادة الذكاء الاصطناعي كحال طبيعية لمجهوداتها الفكرية المتوازية والمتماهية مع مجتمعاتها، ونخبنا تعيش ذلك كحال استهلاكية أو كحال استلاب من خلال الهواتف "الذكية" التي تتجسس على تفاصيل حياتنا اليومية، وفي أجهزة المطابخ والغسيل التي تطبخ لنا وتغسل أوساخنا إلى حين.
ناقشت نخبنا الذكاء الاصطناعي حتى مصمصت عظامه ولا تزال.
تناقش نخبنا الذكاء الاصطناعي في باب الطب فتبدع، تقف بالتفصيل عند ما أنتج في هذا الباب من اكتشافات خطرة تتصل بالذكاء الاصطناعي، وبمجرد أن يخرج الواحد من جلسة النقاش الحامية الوطيس لا يتردد في الذهاب عند الراقي يطلب دواء له أو لزوجته أو لطفله، وهذا الدواء ليس سوى عبارة عن قنينة ماء يبصق عليه كي يمنحه بركة العلاج العجيبة.
هو الذكاء الاصطناعي في ضيافة الغباء الاصطناعي.
يتناقش فلكيّونا أسرار الأجرام السماوية بجد وحزم وعزم وما أحدثه الذكاء الاصطناعي في باب رفع جزء كبير من ستار الحيرة عن هذا الكون اللامتناهي الذي نعيش فيه، وكيف أن الذكاء الاصطناعي يعد بكسور الثانية أوقات طلوع الشمس وغروبها، ومواعيد دوران الأجرام ورحلاتها اللامتناهية في ابتعادها واقترابها من الأرض كوكبنا الجميل، والثقب الأسود، وبرودة الشمس، وانكماش الأرض، ولكن هذا المناقش في معجزات الذكاء الاصطناعي ينتظر رؤية الهلال بالعين المجردة كي يصوم أو يفطر وكأن الدين الإسلامي يمنعه من استعمال مكتشفات الذكاء الصناعي في تحديد المواعيد الدينية.
تقام ندوات عن المعركة الحاسمة للذكاء الاصطناعي ضد أمراض السرطان من خلال ما توصل إليه من تحليلات دقيقة وجديدة توشك أن تهزم السرطانات جميعها، بعد أن تم القضاء على كثير من الأصناف، وتتحدث نخبنا وتناقش ذلك بكثير من الحماس المنقطع النظير. وحين يغادر الواحد مدرج الندوة لا يتردد في الذهاب لزيارة المهرج الطبيب ليمنحه قنينة بول البعير لمداواة سرطان أحد الأقارب.
تناقش نخبنا بحماسة برمجيات الذكاء الاصطناعي مبدية إعجابها بما يقوم به العقل البشري للعلماء نساء ورجالاً في الغرب وفي الصين من أجل تطوير أوسع لفتوحات هذا الذكاء، وحين يخرج الواحد من هذه النخب إلى الشارع ويجلس في مقهى مع الأصدقاء يقر بأن المرأة "ناقصة عقل"، وقبل قليل كان يناقش برمجيات معقدة من إبداع ذكاء المرأة.
الغباء الاصطناعي لا يناقش ولا يتصالح مع الذكاء الاصطناعي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أتساءل كما تتساءلون: كيف يمكن لمجتمع أن يمنح مصيره التاريخي العلمي والاجتماعي والسياسي لنخب تعيش هذه الشيزوفرانيا الغريبة؟ في الوقت الذي يجب أن تكون فيه النخب هي حاملة راية التنوير والوعي، تبدو في ممارساتها غريبة بل تحاول إرضاء الغوغاء أولاً وأخيراً.
أمام ما يحدث من ممارسات نخبنا فإننا نقول لا يمكن تطوير مجتمع بتطويع الذكاء الاصطناعي بالغباء الاصطناعي.
الذكاء الاصطناعي لا ينام في سرير الغباء الاصطناعي.
الغباء الاصطناعي كالذكاء الاصطناعي تدفع أموال طائلة لتمكينه من المجتمع. هناك أطراف كثيرة تعمل وتتعاون لتمكين الغباء الاصطناعي في مجتمعاتنا، منها السياسية والتعليمية والدينية، فالسياسي يخاف من نهضة الوعي الحاد الاجتماعي والسياسي الذي يقدمه الذكاء الاصطناعي، والذي بانتشار خيراته يصبح التحكم في "الرعية" كقطيع صعباً. وسياسة التربية والتعليم وخططها، واقع كارثي وشعبوي لا ينتج سوى مستهلكي خيرات الذكاء الاصطناعي كما تُستهلك الكوكا كولا وأنواع الشوكولاتة والألبسة ذات العلامات العابرة للقارات. أجيال مدارسنا لم تتعامل مع كنوز الذكاء الاصطناعي كمبدعين فيه، ومن يتمكن من النجاة من هذه المدرسة يغادر إلى بلدان يحترم فيها العلم وتوضع لأجله أموال كثيرة فتكتشف عبقرياتهم بمجرد أن يلتحقوا بعالم مخابر البحوث في الغرب، وهناك أمثلة كثيرة. ويمارس العامل الديني الذي هو في غالب الأحيان بوق السلطان، هذا أو ذاك، عملية غسيل المخ حتى أضحى المجتمع بدون مخ، فنسمع كثيراً من الدعاة ينكرون حتى كروية الأرض فما بلك باكتشافات دقيقة يضعها الذكاء الاصطناعي بين يدي البشرية يوماً بعد يوم.
حين يقوم السياسي بدوره في ميدانه ولا يتعدى على ميادين أخرى، ويلعب المعلم دوره ولا يتجرأ على حقول أخرى ويقوم رجل الدين بمهمته دون التدخل في أمور هي أبعد من اختصاصه وأعقد من معارفه، حين يتحقق هذا كله في بلداننا سيدخل العلم الصحيح والتعليم المتين والدين الصادق وسيجد الذكاء الاصطناعي أصحابه من بين أبناء البلد وسينسحب المهرجون واللاعبون في الماء العكر.
إن الجسور مقطوعة بين الذكاء الاصطناعي والغباء الاصطناعي إلا في حياة نخبنا.
النخب الحقيقية الصادقة كالأنبياء، القابضة على الحقيقة دون مساومة، إذا لم ترجمها العامة الغوغاء، إذا لم تعارضها العامة، إذا لم تحاربها العامة، إذا لم تتهمها العامة بشتى التهم، فهي نخب فاشلة ومزيفة، تداهن هذه العامة الغوغاء على حساب سلطة العقل والعلم، والتاريخ يعلمنا دروساً كثيرة ويعطينا أمثلة جلية في هذا المجال.