Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الموت يحرم جان فيلار من إعادة المسرح الفرعوني إلى الحياة

كتابه عن فن الإخراج كان من أوائل الكتب الفرنسية المترجمة بالمشرق العربي

المسرحي الفرنسي الكبير جان فيلار (غيتي)

ملخص

وافق فيلار على مشروع مصري لإعادة إحياء المسرح الفرعوني لكن موته حال دون استكماله.

قبل سنوات قليلة من الآن، كان يبدو وكأن المسرحي الفرنسي الكبير جان فيلار، بات منسياً تماماً أو منسياً تقريباً، إذ لا يذكر إلا لمناسبة انعقاد دورة سنوية جديدة من مهرجان آفينيون المسرحي الفرنسي الذي كان هو مؤسسه وظل يواكبه بالرعاية الرسمية وغير الرسمية حتى أيامه الأخيرة.

ولكن في دورة قريبة إلينا من مهرجان كان السينمائي، عرض فيلم فرنسي جديد تناول فصلاً من حياة السينمائي جان لوك غودار بعنوان "الرهيب" ويتحدث بخاصة عن أحداث عصفت بمهرجان كان نفسه لمناسبة ثورة الشبيبة عام 1968 والتي أدت حينها إلى توقف دورة ذلك العام.

وكان أطرف ما في الفيلم بالنسبة إلى ما يعنينا هنا، ذلك المشهد الذي صور فيه مخرج "الرهيب" لقاء جرى بين فيلار وغودار الذي كان لتوه قد أنجز فيلمه "الثوري" المعنون "الصينية" ويتطلع كما يبدو إلى عرضه في آفينيون.

حكاية أغنية

في ذلك الحين كان غودار في قمة شبابه وتمرده، وكان فيلار في شيخوخته ومهابته الكبرى، فكان من الطبيعي ألا يجري اللقاء على ما يرام، ولكن من موقع لم يكن في الحسبان كما يخبرنا الفيلم.

ففي ذلك الحين كان قد ظهر مغن شاب هو هرفيه فيلار، وكان متداولاً أن جان فيلار يكره ذلك الشاب لمجرد أنه وبالصدفة يحمل اسم عائلته نفسها وأن شهرته لدى الشبيبة قد طغت تماماً على شهرة جان فيلار الذي بات جزءاً من الماضي.

وحينها، لأن استقبال جان فيلار لغودار لم يكن ينم عن أي ترحيب، فما إن انتهى اللقاء بصورة سلبية حتى التفت غودار بلؤمه المعهود إلى المسرحي الكبير قائلاً له ببساطة "على فكرة يا مسيو فيلار. لقد أعجبتني أسطوانتك الأخيرة كثيراً!" وكان بالطبع يتحدث عن أغنية "كابري انتهت" للمغني الشاب فيلار. ولنا أن نتصور هنا كم أن تلك العبارة أثارت جنون جان فيلار وحنقه!

كتاب مبكر إلى العربية

مهما يكن من أمر نعود هنا إلى جان فيلار نفسه لنذكر أنه قبل ذلك الفيلم، بل قبل آفينيون ربما كان تقني المسرح الذي يعرفه الهواة العرب أكثر من أي تقني مسرحي غربي آخر، وذلك لسبب في منتهى البساطة، وهو أن كتاباً وضعه عن فنه المسرحي وعن فن الإخراج المسرحي عموماً كان من أوائل الكتب الفرنسية المسرحية التي ترجمت في المشرق العربي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن هنا كان هذا الكتاب المرجع الوحيد المتوافر للقارئ العربي، إلى جانب كلاسيكيات ستانسلافسكي عن فن الممثل، ولكن في الوقت الذي كان فيه جمهور الهواة العرب قد بدأ يتعرف إلى فيلار من خلال كتابه، كانت فرنسا بدأت تعتبره كلاسيكياً، بل متحفياً وسط تطور لديناميكية المسرح تجاوز فيلار وأسلوبه منذ بداية سنوات الستين في الأقل.

مسرح فرعوني

غير أن هذا التجاوز وتلك المتحفية لم يمنعا فيلار من أن يبدأ في أواخر أشهر حياته التحضير لمشروع مصري يرتبط بتقديم نصوص مسرحية مصرية فرعونية، داهمه الموت وهو في سبيله لإعدادها، وكان ذلك يوم 28 مايو (أيار) 1971، كما تخبرنا عالمة المصريات الفرنسية المعروفة كريستيان ديروش نوبلكور في كتابها "النوبياد الكبرى" الذي تروي في معظم صفحاته مذكرات الحياة التي قضت معظمها في مصر.

تحدثنا العالمة عن كيف أن وزير الثقافة المصري حينها وكان معروفاً بانفتاحه وثقافته الاستثنائية، ثروت عكاشة، كان حدثها خلال إحدى زياراته إلى باريس عن اكتشافات تتعلق بوجود نصوص مسرحية فرعونية، معرباً عن أمله لو كان في الإمكان تقديمها في عروض مسرحية، وشاركه في الإعراب عن ذلك الأمل نفسه بطرس بطرس غالي ومجدي وهبة.

في البداية لم تأخذ العالمة الفرنسية الأمر مأخذ الجدية، لكنها في النهاية، وأمام إصرار ثروت عكاشة اقتنعت بالمشروع واتصلت بجان فيلار، الذي كان اختيار ثروت عكاشة وقع عليه.

وبالفعل وافق فيلار على المشروع وبدأ في قراءة النصوص الفرعونية، وتوقف طويلاً عند الجانب الأسطوري والرعوي منها وعند مشاهد الأعياد الفلاحية والكرنفالات والكفاح ضد قوى الشر، وتعبيرات الأمل والانتظار وانتصار الإله وعودة السعادة... إلخ. وكاد المشروع يسير على خير ما يرام لولا أن جان فيلار مات في تلك الآونة بالذات، إضافة إلى انسحاب ثروت عكاشة نفسه من وزارة الثقافة في مصر بعد رحيل الرئيس جمال عبدالناصر.

حياة مكرسة للمسرح

ترى كيف كان يمكن للمشروع الفرعوني أن يتجسد على يد جان فيلار وأضحى عجوزاً وبعض ذكرى؟ ليس بإمكان أحد أن يجيب عن هذا السؤال، لكن ما يمكن قوله هنا إن جان فيلار الذي رحل عن عالمنا ربيع 1971 في مدينة سيت مسقط رأسه في الجنوب الفرنسي، كان كرس كل سنوات حياته لفن المسرح فبرع فيه وجدد، وعرف على الدوام بكونه مكتشف أشكال ومكتشف مواهب كذلك، إذ له يرجع، بخاصة، الفضل في تقديم فنان التمثيل الكبير جيرار فيليب، كما أنه هو الذي اكتشف موهبة موريس جار الموسيقية قبل أن ينال هذا الأخير شهرته العالمية عبر الموسيقى التي وضعها لأفلام مثل "لورانس العرب" و"دكتور جيفاغو" و"جسر نهر كواي".

ولد فيلار في 1912 وانخرط في العمل المسرحي منذ صباه بعد أن انكب زمناً على قراءة كل ما كان يقع تحت يديه من نصوص مسرحية كلاسيكية أو حديثة، ثم عمل كمساعد مخرج وممثل، قبل أن يكوّن في 1943 فرقته الخاصة التي أطلق عليها اسم "فرقة السبعة"، وهو من طريق تلك الفرقة بدأ يجدد في فن الإخراج عبر أكثر من أربعين مسرحية واستعراضاً أخرجها طوال حياته، منها 12 استعراضاً كان هو أول من نقلها إلى الخشبة.

عرف فيلار عبر إنجازاته كيف يوازن بين المسرح المثقف الخلاق وبين متطلبات الجمهور العريض، ومن هنا أتى مسرحه على الدوام معتدلاً وسطاً بين الإبداع الخالص والفن الشعبي العريق.

 

 

وقاده هذا إلى تأسيس مهرجان آفينيون الذي يعتبر منذ 1947 أهم مناسبة مسرحية في فرنسا وربما في العالم أيضاً، كما أن فيلار من خلال تسلمه بين 1951 و1963 إدارة المسرح الوطني الشعبي عرف كيف يخلق جمهوراً حقيقياً للمسرح، إذ يتابع الأعمال ويتحمس لها ويناقشها.

ومن هنا ما يقال دائماً في فرنسا، من أنه كان أول فرنسي عرف كيف يجابه نجاح فن السينما بفرض النجاح فرضاً على المسرح. ولم يكن مغالياً الناقد جان غوتييه حين كتب يوم رحل فيلار، في مقال نشرته صحيفة "الفيغارو"، "من دون جان فيلار، نعرف جيداً أنه لم يكن سيقدر لألوف وألوف المتفرجين غير المهيئين للسر المقدس، أن يعجبوا بمسرحية (شايو)، ولا أن يحبوا (هنري الرابع)، ولا (مقتلة في الكاتدرائية) ولا (هذا المجنون بلاتونوف) ولا (أوبو) ولا (لورانزاشيو)".

وهذه كلها، كما هو معروف، تنتمي إلى المسرح الصعب والعسير على إدراك الناس العاديين، لكن إخراج فيلار لها، عرف كيف يبسط معانيها ويجعلها من متناول الناس. وفي هذا تكمن أهمية هذا الفنان الذي كان المسرح بالنسبة إليه خبز حياته اليومية، وعرف كيف ينقل العدوى إلى الآخرين.

حكايات مخترعة

وبقي أن نعود هنا إلى ذلك اللقاء الذي يرويه فيلم "الرهيب" لنذكر أن غودار الذي كان حين "جرى اللقاء كما هو مفترض في حكاية الفيلم" عندما شاهد الفيلم وسئل عما إذا كان صحيحاً ما يقوله الفيلم عن اللقاء ابتسم ودمدم كعادته أن اللقاء الذي ترويه زوجته في ذلك الحين آن فيزامسكي في كتاب عن حياتها معه جرى بالفعل "لكني لم أكن من قلة التهذيب بحيث أوجه تلك الإهانة الرخيصة لأستاذ كبير كنت كما كل أبناء جيلي أحترمه واعتبره الفنان الذي علمنا كيف نتعامل مع فن المسرح".

بالتالي أنكر غودار أن يكون اللقاء جرى على ذلك النحو ليقول أخيراً إنه ربما يكون هو نفسه قد اخترع الحكاية ليسلي بها فاتنته في ذلك الحين، "لقد كنت معتاداً على اختراع مثل تلك الحكايات كي أضحكها".

المزيد من ثقافة