ملخص
بعض جمهور مارك روتكو أحب أعماله بعد أن حظي بسمعة فنان يشتغل على مفهوم الفراغ.
كان آخر وأكبر معرض فردي لأعمال الفنان الأميركي مارك روتكو أقيم عام 1999 في متحف الفن الحديث بمدينة باريس فاكتشفه جمهور الفن الباريسي حينها للمرة الأولى من خلال عدد لا بأس به من لوحاته، وعلى أية حال بدا اكتشافاً صادماً بالنسبة إلى كثر من الزائرين.
ظل الزائرون يعرفون بعض أعمال روتكو (1903 – 1970) المعروضة فقط عبر منسوخاتها أو ما هو متداول في الصحافة عنها، ويعرفون بعض سيرته من خلال مكانته المعترف بها غالباً في الحياة الفنية الأميركية المعاصرة، ولكن حينها ومن خلال ذلك المعرض الذي أتى يومها بعد عقدين ونصف عقد تقريباً من رحيله، بدت له صورة أخرى قسمت الجمهور إلى حدود التطرف.
وترسخت سمعة الفنان الأميركي الراحل منذ ذلك الحين بين جمهور أحب أعماله مستسيغاً أبعادها الفكرية، ولكن بخاصة أبعادها التلوينية، وجمهور آخر لم يحب تلك الأعمال جاعلاً لـ"روتكو" سمعة فنان يشتغل على مفهوم الفراغ ويحاول أن يطوع اللغة التشكيلية الشكلية لخدمة ما راح البعض يصفه بالخواء الفكري في حده الأكثر تطرفاً.
هذه العودة
اليوم ها هو روتكو يعود إلى الساحة الفنية الفرنسية من جديد، ولكن بعد أن هدأت السجالات من حوله وحول فنه بعض الشيء. ولئن كانت العودة قد وصلت الآن إلى منتصف الطريق – بالنظر إلى أن المعرض الجديد الذي تقيمه مؤسسة لوي فيتون وسط صخب إعلامي احتفالي كبير، فإن جمهور اليوم يبدو بالتأكيد، أكثر تقبل وأقل سجالية بالنسبة إلى فن كان دائماً وسيبقى بالتأكيد وعلى أية حال، موضوعا للسجال.
ومن هنا يمكن القول إن المعرض الباريسي الجديد الذي انطلق قبل بضعة أسابيع وسيتواصل حتى فبراير (شباط) المقبل، يشكل الحدث الفني المحوري في باريس اليوم. وهو يشكله ليس فقط لما يثيره من سجال، بل أكثر من ذلك، لما يتسم به من إحاطة بالعدد الأكبر من اللوحات المتوافرة لهذا الفنان.
ولعل هذا ما يجعل روتكو بالتأكيد واحداً من أضخم المعارض الاستعادية لأي فنان من فناني النصف الثاني من القرن العشرين، بمعروضاته التي يصل عددها الإجمالي إلى نحو 200 لوحة – وغيرها من أعمال – نادراً ما اجتمعت في مكان واحد.
وهذا الأمر الذي يجعل العودة إلى روتكو وفنه واحداً من الأحداث الفنية الأكثر إثارة، بخاصة أن له هذه المرة مناسبة محددة تتعلق بمرور 120 عاماً على ولادة الفنان.
صعوبة تقليد فنان
قد يكون من الصعب على المتفرج العادي أن يفهم، بشكل واضح، ما يقال عادة من أن الفن التشكيلي الذي مارسه الفنان الأميركي مارك روتكو، يعبر حقاً عن التراجيديا التي يعيشها الكائن البشري في القرن العشرين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والحال هنا أن ما يشاهده هذا المتفرج في لوحات روتكو، التي تعرض حالياً وربما من دون انقطاع خلال العقود الأخيرة من السنين، في غير مكان في العالم ويتدافع الكثيرون من الهواة لمشاهدتها، ليس أكثر من مستطيلات ومتوازيات لونية، بني على أسود، أو قرميدي على أزرق.
وفي لوحة من اللوحات قد يشده المتفرج، من غير الضالعين، إذ لا يرى أمامه سوى مسطح أزرق اللون ومن دون فروق ومن دون تضاريس، ومن دون علامات. وهذه اللوحة كان روتكو قد أوصل فيها الاستفزاز إلى أعلى مراحله. والطريف أنه قال، حين طرحت عليه تساؤلات في شأنها، "أنا واثق من أن تقليدها أصعب من تقليد لوحة الموناليزا".
بين الخواء والاستفزاز
لوحات روتكو، إذاً، هي الأكثر استفزازاً و"خواء" من بين لوحات الفنانين التجريديين الأميركيين كافة، إذ أمام أعمال دي كونينغ أو جاكسون بولوك (والاثنان معاصران لروتكو وينتميان مثله إلى المدرسة التجريدية التعبيرية نفسها) قد يقنع المرء نفسه بأن بإمكانه أن يطالع معاني ما، أو أحاسيس معينة، بين الخطوط المتشابكة، أو المساحات اللونية المتداخلة.
أما أمام القسم الأعظم من لوحات روتكو فليس ثمة سـوى بالتحديد - ما كان يقصد إليه مارك روتكو - الفراغ. وهذا الفراغ البصري هو ما يدفع المؤرخين اليوم إلى الحديث عن علاقة فن مارك روتكو بـ"الفاجعة".
طبعاً لا نتوقف في هذه العجالة عند تحليلات مؤيدة لفن روتكو أو معادية له، لكننا نتوقف عند حياة الفنان نفسه، بخاصة أن المناسبة كما أشرنا في مفتتح هذا الكلام تتعلق باستعادة له ولأعماله تصل ذروتها في معرض باريسي كبير.
وروتكو هو، مثل كبار الفنانين التشكيليين في القرن العشرين، ولد في غير المكان الذي عاش فيه وعرف فيه مجده الكبير، فهو، الذي يعتبر واحداً من أساطير فن التجريد الأميركي في القرن العشرين، ولد عام 1903 في مدينة دفينسك الروسية.
كان الفنان الراحل في العاشرة من عمره حين هاجر مع أهله إلى الولايات المتحدة، ففي روسيا كان اسمه ماركوس روتكوفيتش، أما في بلاد العم سام فإنه ما إن شب عن الطوق وصار فناناً، حتى اختصر اسمه إلى مارك روتكو، وهو الاسم الذي عرف به، وكان في غاية التألق حين رحل صاحبه عن عالمنا يوم 25 فبراير 1970.
على رغم ولادته الروسية، عرف روتكو كيف يكون ويظل إلى النهاية أميركياً، على عكس مواطنه مارك شاغال الذي ظل روسياً وريفياً روسياً يهودياً حتى النخاع وحتى آخر أيامه.
وفي الولايات المتحدة مارس الطفل ماركوس مهناً عدة وتابع دروساً في فن التمثيل، حين بلغ العشرين من عمره فاستبدت به، فجأة، رغبة في أن يصبح رساماً باعتبار الرسم "شقيقاً للشعر الذي أولع به لكنه لم يفلح فيه".
وعند نهاية سنوات الثلاثين كان صاحبنا قد أضحى رساماً حقيقياً يرسم مشاهد من حياة الشوارع ومن اختناق الناس وسط اكتظاظ المترو بهم، في مشاهد توحي بالوحشة والعزلة في مجتمع اليوم. وخلال الحرب العالمية الثانية أخذ السورياليون الفرنسيون وغير الفرنسيين يتدفقون على الولايات المتحدة وراح روتكو يختلط بهم، في الوقت الذي أولع فيه بالأساطير الإغريقية وراح يستلهم منها لوحات تسبر الوعي الباطني لكنها لم تنل أي حظ من النجاح أو القبول.
وقاده هذا الفشل إلى تحويل الوجوه والأشكال إلى مجرد مسطحات لونية مشعة اعتباراً من عام 1946 وحتى عام 1949، وصارت عبارة عن مسطحين يتلاقيان بشكل هلامي، ملونين بألوان دافئة تبدو كل منها وهو يكاد يثب على الآخر.
والطريف أن روتكو كان يصر دائماً على أن تعرض لوحاته بشكل يعرضها لأعلى درجات الضوء وأن تعلق قريبة جداً من أرض المعرض بحيث يشعر المتفرج عليها أنها تحيط به من كل جانب.
شهرة عالمية مدهشة
أمضى روتكو العقدين الأخيرين من حياته وهو يرسم ذلك النوع من اللوحات، ما أسبغ عليه شهرة عالمية صنعت من إعجاب كثيرين به، ومن شعور الآخرين بأن فنه يستفزهم. أما هو فإنه في أواخر أيامه أخذ يشعر بأن نجاحه يزعجه بخاصة أن كثراً راحوا يخلطون بين فنه وبين شتى أنواع الفنون التزيينية ولا سيما إبان فورة اقتناء الشركات الكبرى في أميركا وغيرها للوحات الفن الحديث.
وهكذا وجدناه، وقد راح يغمق من ألوانه، بحيث صارت لوحات أعوامه الأخيرة مؤلفة من ألوان تتراوح بين الأسود والرمادي، وبعد ذلك كان لا بد للموت أن يجيئه فجأة ذات صباح مشرق بشكل استثنائي كما يقول كاتبو سيرته وكانوا كثراً على أية حال وها هي كتبهم العديدة تعود اليوم لمناسبة المعرض الباريسي الجديد لتقدم سيرة حياة فنان كان من النادر من غير تلك السيرة وتحديداً أيضاً من غير المعرضين الباريسيين، القديم والجديد، التي مكنت من وضع فنه في أطر ذاتية إلى هذا الحد.