ليس من عادة إيران التخلي عن المبالغة في الخطاب، وإن كانت تمارس "الواقعية السياسية" عند اللزوم، فهي ادعت غير مرة أنها تحكم أربع عواصم عربية، وأوحت أن ما سمي "الربيع العربي" هو "ابن الثورة الإسلامية" في إيران.
المرشد الأعلى علي خامنئي قال إن "اليد العليا في المنطقة للجمهورية الإسلامية ونحن نقود العالم في مواجهة أميركا، وهذا فجر قنبلة أكبر بمئات المرات من قنبلة هيروشيما"، وآية الله أحمد علم الهدى ممثل خامنئي ووالد زوجة الرئيس إبراهيم رئيسي أعلن أن "العالم الذي استعبدته الحداثة ينهار، وعالم ما بعد الحداثة يلوح في الأفق، وهو عالم لا يمكن أن تقوده إلا إيران الإسلامية".
وهذا بالطبع عالم معاكس لمرحلة "ما بعد الحداثة" في أوروبا، لكن اللافت بعد عملية "طوفان الأقصى" أن طهران نأت بنفسها عن العملية وقالت إنها فوجئت بها هي و"حزب الله" في لبنان، وأميركا عملت على تأكيد هذا الكلام لأسباب لها علاقة بسياستها في الشرق الأوسط. وإذا صح أن توقيت العملية فاجأ طهران، فإنها صاحبة دور في التسليح والتدريب والتخطيط.
والواضح أنها تعمل كل ما يمكن لـ"توظيف" العملية في خدمة مشروعها الإقليمي الاستراتيجي. كيف؟ ليس بالدخول المباشر في حرب غزة وتوسيعها لتصبح حرباً شاملة، بل بالدخول المحدود غير المباشر من خلال الميليشيات المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني في اليمن والعراق وسوريا ولبنان.
والسبب غير المعلن لهذا التواضع هو تجنب الصدام المباشر مع أميركا التي كشرت عن أنيابها وأرسلت إلى المنطقة حاملتي الطائرات "جيرالد فورد" و"أيزنهاور" مع مدمرات نووية تحت عنوان "الردع" لخصوم إسرائيل.
فجمهورية الملالي فعلت ما لم تفعله في المنطقة أية قوة إقليمية أو دولية، من تأسيس ميليشيات أيديولوجية دينية مسلحة في لبنان والعراق وسوريا ورعاية الحوثيين في اليمن إلى "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في غزة، وتقديم الدعم بالمال والسلاح والخبرة.
لم يكتم القول قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري الجنرال إسماعيل قاآني الذي خلف الجنرال قاسم سليماني بعد اغتياله في بغداد على يد أميركا إن "محور المقاومة بقيادة إيران سيستمر بالعمل في لبنان وسوريا والعراق واليمن وفلسطين حتى ظهور الإمام الغائب وتشكيل حكومته"، أي أبعد بكثير حتى من تحرير القدس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والمعنى البسيط لذلك أن مهمة "محور المقاومة" هي تشكيل خطوط دفاع عن النظام الإيراني والعمل للمشروع الإقليمي الذي تبذل طهران كل الجهود من أجله، وهو أيضاً أن الإمساك بالورقة الفلسطينية جزء من خدمة المشروع الإقليمي، لذا فإن عمليات "المقاومة الإسلامية" ضد أميركا وإسرائيل هي على الطريق إلى المشروع.
ومن هنا قول خامنئي إن "محاولات القضاء على النظام هي بسبب الدور الإقليمي للجمهورية الإسلامية التي أخرجت المنطقة المهمة والمملوءة بالفوائد من قبضة الغرب"، ومن هنا أيضاً قول قائد الحرس الثوري الجنرال حسين سلامي إن "الرحلات المتكررة للمسؤولين الأميركيين والأوروبيين إلى تل أبيب هي تنفس اصطناعي لتأخير الموت النهائي للكيان الصهيوني المحتضر".
وإذا كان "العداء لأميركا وإسرائيل من أسس الثورة" كمبدأ وضعه الإمام الخميني من البداية، فإن ممارسة الواقعية السياسية قادت إلى عقد اتفاقات مع "الشيطان الأكبر" والحصول على أسلحة من "الشيطان الأصغر" خلال الحرب مع العراق.
لكن سياسة "الضغط الأقصى" التي مارستها إدارة الرئيس دونالد ترمب وسياسة "الاسترضاء" التي مارستها إدارة الرئيس جو بايدن فشلتا في التأثير في الدور الإقليمي لإيران، كما في التوقف عن دعم الميليشيات المرتبطة بالحرس الثوري، فما تفعله الميليشيات اليوم لمساندة "حماس" في حرب غزة عبر "مشاغلة" إسرائيل ضمن "وحدة الساحات في محور المقاومة" بقيادة طهران يأتي في إطار الأولويات الإيرانية التي أهمها الحفاظ على النظام ونجاح المشروع الإقليمي.
أما في الداخل الإيراني، وعلى رغم القمع الشديد، فإن سياسيين وناشطين أصدروا بياناً جاء فيه أنه "لا يحق لخامنئي أن يتجاهل إرادة غالبية الشعب الإيراني وأن يعطي الأولوية لأوهامه حول المنطقة".
وأما خامنئي، فإنه يردد قصيدة قال فيها الشاعر الراحل محمد تقي بهار، "صمود المسمار وثباته يجعلانه عبرة للبشر. كلما حاولوا تحطيم رأسه بقي في مكانه واستقر".