Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

من أين جاءت الموسيقى إلى لوحات الفنان النهضوي كارافاجيو؟

لوحات قليلة حول العزف والعازفين تطورت في ظل الكنيسة وجعلت له مكانة غريبة

العازف خلال رحلة مصر لكارافاجيو (غيتي)

ملخص

كارافاجيو ولد في ميلانو واسمه الأصلي ميكال آنجلو ميريزي

من ناحية مبدئية لم يعرف عن الفنان النهضوي المعروف بلقبه الشهير كارافاجيو اهتمام خاص بالموسيقى. بل حتى يمكن القول إن عدد اللوحات "الموسيقية" في نتاجه الإجمالي لا يزيد على نصف دزينة من لوحات. غير أن تلك اللوحات بدت دائماً من الحضور، بل من التعبير عن روح الفنان وذاتيته بحيث يخيّل لكثر أنه كرس كثيراً من فنه وطاقته لتحقيق تلك اللوحات. بل كثير منها ما حرّك النقاد والمؤرخين لوضع دراسات عنها أتت من العمق والكثافة إلى درجة جعلت بعض الدارسين يعتبرون كارافاجيو رسام الموسيقى الأكبر في عصر النهضة. لكن ذلك لم يكن صحيحاً، وكذلك ليس دقيقاً أن ذلك الفنان كان عازفاً ماهراً بل ملماً بشؤون الموسيقى. كل ما في الأمر أن الموسيقى وعازفيها كانوا يستهوونه كأي مستمع عادي اختار أن يعيش في حمى الليل أكثر مما في وضح النهار وفي عتمة الحانات حيث تعزف الموسيقى الدنيوية وينتشر الموسيقيون بعيداً من الكنيسة وموسيقاها. صحيح أن كارافاجيو، وبحسب دارسي سيرته كان يعزف على القيثارة وكذلك على آلة "اللوت" المقتبسة من "العود" العربي الذي وصل أوروبا عبر الأندلس مع ألحان ذلك الأندلس البديعة، غير أن عزفه لم يكن مبهراً وربما من هنا لا نجده يبدع في رسم بورتريهات ذاتية تخلده عازفاً ماهراً.

وفي المقابل نجده في نصف الدزينة من اللوحات "الموسيقية" التي خلّفها مخلياً لها مكانة أساسية في تراثه، يبدع في رسم فتيان يعزفون بوله وحماسة ولكن غالباً في أماكن ذات غرابة لافتة. ولعل أبرز لوحاته في ذلك المجال، تلك التي يصور فيها أسرة السيد المسيح وهي في طريقها للفرار إلى مصر، تصغي خلال استراحة لها إلى "ملاك يعزف كنوع من استراحة المحارب وسط هدأة الصحراء". ومن هنا جاء السؤال - اللغز: ما الذي وجه كارافاجيو نحو تلك اللوحات القليلة؟ ولعل في مقدورنا هنا أن نحرف السؤال بعض الشيء ليصبح: من الذي وجهه؟

بين المصرفي والكاردينال

فالحال أن الدراسات التاريخية الأكثر حداثة وإقناعاً تفيدنا بأن اهتمام كارافاجيو برسم لوحات موسيقية لم يكن من عندياته، بل من عنديات رجل الكنيسة الكبير الكاردينال ديل مونتي الذي كان من أول رعاة الرسام وهو بعد في مستهل شبابه وبداياته الفنية كرسام يفضل أن يرسم لوحات بعيداً من الاهتمام بالرسم الديني الذي كان سائداً. وأن يرسم في تلك اللوحات فتياناً يغلب عليهم الوهن والمرض. ولقد بلغ من اهتمام الكاردينال ذي النفوذ بذلك التوجه لدى كارافاجيو إلى درجة أنه استضافه في قصره المنيف. وهناك في ذلك القصر، عرفه إلى جاره الثري والنافذ المصرفي جوستينياني الذي كان كاتباً أيضاً ووضع، في العام 1628، أي مباشرة قبل تعرّفه على كارافاجيو، إذ بات جاره كنزيل لقصر الكاردينال، كتاباً كان معتمداً في ذلك الزمن بعنوان "خطاب حول الموسيقى"، كان على الأرجح من أوائل الكتب الموسيقية التي قرأها كارافاجيو فحرّكت اهتمامه بذلك الفن الذي وجده قريباً من عالمه التشكيلي ويستجيب لرغبات كانت دفينة لديه كما يبدو. وهنا بالتحديد يمكننا أن نعثر على الجواب الذي كثيراً ما سعى الدارسون والمؤرخون إلى العثور عليه لفهم علاقة كارافاجيو بالموسيقى، أي تحديداً لدى ذلك الثلاثي الذي تشكل من الرسام والكاردينال والمصرفي، وكان محوره تلك اللوحات الموسيقية التي لن نبالغ إن قلنا إنها اعتبرت إنتاج كارافاجيو الأساسي منذ بداية اهتمامه بالموسيقى.

في عالم تنويري

ولعل ما يؤكد ذلك الواقع التاريخي هو أن كارافاجيو إنما حقق لوحاته "الموسيقية" لحساب وتحت تأثير صديقيه الكاردينال المتنور من ناحية، والمصرفي المثقف من ناحية أخرى، إذ أمّن له الأول حمايته والثاني معيشته مشترياً تلك اللوحات التي غالباً ما كان موديلاتها أولئك الفتيان - "الغلمان" في حقيقة الأمر- الذين تمكّن كارافاجيو على أية حال من التعبير عن شغفه المرضي بهم معتبراً عزفهم الشغوف بالموسيقى منطلقاً لشغفه الخاص بهم، هو الذي كان غريب الأطوار ولسوف تكون غرابة أطواره سبباً لنهايته المأساوية ومشكلاته مع السلطات، ولكن يبدو لنا هنا أنه كان يتقاسم ذلك الشغف مع المصرفي والكاردينال، لكن هذا موضوع آخر ليس هو ما يهمنا هنا بالطبع. ما يهمنا هنا هو إذاً، تلك الموسيقى التي انتقلت عدواها إلى كارافاجيو انطلاقاً من رفيقي سهراته الماجنة والتي تدور على أية حال حول ذلك الإبداع المزدوج: التشكيلي والموسيقي في آن معاً، ما أنتج تلك اللوحات ولكن أنتج كذلك تلك العلاقة التي قامت بين كارافاجيو والموسيقى وجعلته يعتبر خير المعبرين في عصر النهضة عن ولع العصر بالموسيقى وأصحابها، كما يمكننا أن نتلمس في اللوحات الموزعة اليوم على عدد من المتاحف وثمة بينها لوحات يتكرر فيها الموضوع نفسه، ومن الواضح أنها، بعدما رسمت أصلاً لفينتشنزو جوستينياني، انتقلت، خلال العصور التالية، إلى ملكية المتاحف كما حال لوحة "الموسيقيين" الموجودة اليوم في نسختين متطابقتين تقريباً إحداهما معلقة في "متحف متروبوليتان للفن" في نيويورك، والثانية في مجموعة "وايلدنشتاين" وهي لوحة معروفة بعنوانها الأول "عازف اللوت" (العود)، ويبدو أن كارافاجيو رسمها للكاردينال ديل مونتي في وقت كان ينجز اللوحة الأولى لجوستينياني. ولعل هاتين اللوحتين تعتبران من الأشهر بعد لوحة "الملاك" الذي يعزف موسيقاه لأسرة السيد المسيح في صحراء سيناء كما يبدو.

أما رابع لوحات كارافاجيو "الموسيقية" من ناحية تراتبية الشهرة فهي بالتأكيد لوحة "عازف اللوت" الأخرى الموجودة في متحف "هيرميتاج" بمدينة سانت بطرسبرغ. ولعل اللافت في كل تلك اللوحات وغيرها من نتاجات كارافاجيو في مضمار اللوحات "الموسيقية" أن الفتى الذي رسمه الفنان فيها يبدو للوهلة الأولى فتاة لا فتى بسحنته ونعومته وحتى بملابسه ما جعل اللوحة تعتبر استثناء في فن كارافاجيو، غير أن السائد اليوم هو أن العازف فتى ربما يكون هو نفسه الذي يطالعنا في عدد من لوحات أخرى للفنان من دون أن تكون تلك اللوحات موسيقية، ما يفترض أن الفتى كان موديلاً دائماً وضع نفسه في تصرف الفنان وكان من ضمن رفاق سهرات هذا الأخير التي جمعته بجوستنياني وديل مونتي وظل مرافقاً له إلى درجة أن السينمائي الإنجليزي ديريك جرمان الراحل، قبل سنوات، قد نسج من حول علاقة الفنان بموديله هذا حبكة فيلم حققه عن كارافاجيو لفت الأنظار بوصفه واحداً من آخر أفلام ذلك المخرج الذي كان غريب الأطوار بدوره، والفيلم الذي ربط فيه السينمائي بين المشكلات القضائية التي ختم بها حياته التي انتهت باختفائه في ساحل منطقة أوستيا غير بعيد من روما اختفاء غريباً لا يزال يثير التساؤلات والألغاز بدوره حتى اليوم، وتنسج من حوله أساطير تليق بـ"سمعة" كارافاجيو وحياته المليئة بكل أنواع الهرطقات!

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حياة غريبة لفنان أكثر غرابة

ويبقى لنا أن نعود إلى تلك الحياة التي لا شكّ أن موضوعنا هنا قد جعلنا نقصرها على اهتمامه بموضوعة الموسيقى، وهي حياة كانت من الغرابة ما جعله يعتبر، من بين فناني النهضة الإيطالية، وليس في مجال الرسم فقط، الأكثر حداثة وهرطوقية وغرابة بحيث إنه حدث، ذات حقبة قبل سنوات قليلة من الآن، أن فنان رسوم الشوارع إرنست بينيون إرنست قد نشر في شوارع مدينة نابولي وعلى جدران عماراتها، عشرات اللوحات التي استقاها من رسوم كارافاجيو ليرمز من خلالها ومن خلال مواضيعها إلى كون الحداثة النهضوية متواصلة عبر ستة قرون وأكثر في تعبيرها، ولكن في فكرانيتها أيضاً. ونعرف على أية حال أن كارافاجيو ولد في ميلانو واسمه الأصلي ميكال آنجلو ميريزي، وهو لم يعش سوى 39 سنة كانت حافلة بالمشكلات وضروب الشغب والاعتقالات والتجديدات سواء في اللوحات الدينية الكنسية أو في اللوحات الدنيوية التي غالباً ما مثلت مشاهد اجتماعية تفوّق بها في هذا المجال تلويناً ومواضيع، على الفن الهولندي الذي كان المنافس الرئيس للفن الإيطالي ما إن خفّت حدة طغيان الكنيسة على الفن، وكان ذلك مناسباً لكارافاجيو الذي كان يلذ له أن يوزع وقته بين الهرطقة والتعبير الكنسي بحيث إن حياته نفسها تبدت دائماً كموضوع فني لا مثيل له.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة