تبشر اللجان القانونية في البرلمان الجزائري بغرفتيه بإجراءات رفع الحصانة عن عدد من النواب، مع افتتاح الدورة البرلمانية العادية الثلاثاء 3 سبتمبر (أيلول)، وطغت أخبار النواب المتورطين في ملفات فساد على أخبار السلطة التشريعية في علاقتها بالسلطة القضائية التي تتولى إرسال إفادات ببدء رفع الحصانة التي تحول دون متابعة كثيرين.
بأثر رجعي تقوم العدالة الجزائرية بمراسلة مكتبي البرلمان (المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة) تباعاً في شأن ملفات تخص نوابا أثيرت أسماؤهم في تحقيقات قضائية جارية، وانتخب نواب الولاية الحالية في 2017 على أن تمتد خمس سنوات كاملة، ووصفت تلك الانتخابات بـ"سيطرة المال الفاسد على السياسة"، إذ يتشكل المجلس بغرفتيه من ثلاثين في المئة من رجال أعمال.
وزراء يجرون نواباً
يقول مطلعون على مجريات التحقيقات في القطب القضائي المتخصص في محاربة الفساد (محكمة سيدي أمحمد في العاصمة)، إن معظم الذين استدعوا إلى التحقيق "لا يبدون أي تحفظ في ذكر أسماء سياسيين ورجال أعمال". والحال نفسه يخص وزراء سابقين ومحافظي ولايات تعمدوا كشف حقائق تحت شعار "فلنغرق جميعا"، ما نبه القضاء إلى أسماء كثيرة تتخفى وراء الحصانة البرلمانية.
ورفع البرلمان في الدورة السابقة مطلع يوليو (تموز) الحصانة عن كل من الوزراء السابقين عمار غول وجمال ولد عباس والسعيد بركات وبوجمعة طلعي (الوحيد الذي لم يسجن بعد).
ووجهت وزارة العدل مراسلات جديدة إلى البرلمان، لنزع الحصانة عن نائبين في مجلس الأمة، هما شايد محمود المعين ضمن الثلث الرئاسي (محافظة وهران)، وعلي طالبي، الذي ينتمي إلى التجمع الوطني الديمقراطي (محافظة الشلف). وقد ورد اسمهما في قضية الوزيرين السابقين عبد الغني زعلان ومحمد الغازي، عندما كان كل منهما والياً على محافظتي وهران والشلف على التوالي، حيث بيّنت التحريات الأولية مع مسؤولين في الدولة، تورطهما في قضايا فساد، لا سيما في قضايا الحصول على مزايا وعقارات عبر مختلف الولايات، فضلاً عن مزايا تتعلق بنشاطهما الاقتصادي على مستوى ولايتهما تحصّلا عليها بطرق غير شرعية.
السلطة القضائية تراقب المشرعين
على الرغم من إقرار الدستور الجزائري فصلاً واضحاً بين السلطات الثلاث، فإن السلطة التشريعية ظلت في "ذيل" الحكومة والقضاء، كان ذلك نتيجة مباشرة لرغبة النظام السياسي القائم في التفرد بالقرار على مستوى رئاسة الجمهورية، ما يفسر "سكوت" الجميع إزاء هويات النواب الذين تمكنوا من احتلال مقاعد في أهم سلطة منتخبة في البلاد.
ومن نتائج غياب التوازن بين السلطات الثلاث، فإن وزارة العدل هي التي تتصدر المسؤولية في كثير من الملفات المرتبطة بـ"تجاوزات النواب"، كونها التي تتلقى نتائج تحقيقات أجهزة الأمن، تمهيداً لتحويلها إلى البرلمان للفصل فيها والتقرير بإحالتها على التصويت برفع الحصانة أو عدمها.
ويحصي قانونيون "ثغرات" في الآليات القانونية لرفع الحصانة، في ما يتعلق بالطلبات المنبثقة عن طلب المعني نفسه. ويعفى المجلس من اللجوء إلى الآليات القانونية في حالة طلب رفعها من جانب وزير العدل حافظ الأختام، والمقترنة عادة برفض المعني الأمر، على الرغم من أن الدستور والنظام الداخلي لا يشيران إلى أي استثناء يحول دون المرور عبر موافقة مكتب المجلس وتزكية النواب له في جلسة علنية يتم تسييرها وفق إجراءات محددة بدقة.
ويقول محامون إن تصريح وزير العدل بخصوص مراجعة قانون الإجراءات الجزائية قد يكون على صلة بهذه القضايا، حيث تعتبر بعض مواد القانون بمثابة عراقيل.
"الشكارة"
تصف الصحف الجزائرية البرلمان الحالي بـ"برلمان الشكارة"، وهو مصطلح يبرز خلال الحديث عن الأموال غير المراقبة التي يتم تداولها في حقائب بلاستيكية في المعاملات المشبوهة، وتسبب النظام الانتخابي في وصول عشرات رجال الأعمال إلى البرلمان بمنطق "الشكارة" على مستوى الأحزاب للحصول على المرتبة الأولى في قوائم الترشيحات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويروي الوزير السابق للسياحة، محمد الصغير قارة، لـ"إندبندت عربية"، كيف نفذ رجال المال إلى حزبه، جبهة التحرير الوطني "بدأت هذه الظاهرة خلال فترة الأمين العام السابق عبد العزيز بلخادم، وتكرست في فترة عمار سعداني، أي في السنوات العشر الماضية فقط، هؤلاء تحكموا في مفاصل الحزب ووصلوا بفضله إلى البرلمان والحكومة".
ويعتمد النظام الانتخابي على النسبية وليس الاسمية، بمعنى احتواء القائمة على عشرات الأسماء، لكن أي تصويت سيصبّ في مصلحة متصدر القائمة ثم من يليه وهكذا. لذلك باتت الأحزاب السياسية "مرتعاً للفساد" المؤدي إلى البرلمان، ويمكن ملاحظة قوائم التشريعيات سنة 2017، حيث تصدرها في الغالب رجال أعمال وأصحاب نفوذ ومشبوهون وحتى مسبوقون قضائياً.
ورفضت الحكومة تعديل هذه الآلية سنة 2011 حينما راجعت القانون العضوي للانتخابات، على حساب القائمة الاسمية التي تسمح للناخب باختيار من يشاء من بين عشرات المرشحين مهما كان ترتيبه في القائمة، ما سمح لزعماء الأحزاب بالتحول إلى مركز صناعة شخصيات السياسة، كل هذا يفسر علاقة رجال أعمال بأحزاب سياسية.
وكشفت التحقيقات القضائية مع أفراد عائلة كونيناف مثلا، عن مسؤولية الأخيرة عن تحديد قرابة نصف أعضاء المكتب السياسي لجبهة التحرير الوطني في السنوات الماضية، ما أهل كثيراً منهم لتولي حقائب وزارية، ومن ثمة الاستفادة من خدماتهم أثناء توقيع عقود استثمارية كبرى من باب "ردّ الجميل".