ملخص
بكت خراب نابلس على سرير المرض وفي مثواها تذرف دموع الاطفال
تحل هذا العام وهذا الشهر تحديداً، الذكرى العشرون لرحيل الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، لكن حرب الإبادة الشرسة التي تخوضها إسرائيل ضد غزة وفلسطين، تضفي على هذه الذكرى طابعاً مأسوياً، يماثل المأساة الفلسطينية الطويلة المتواصلة منذ عام 1947، وتصبغها بالدم القاني الذي ما برح يسيل منذ المجازر الأولى التي ارتكبتها إسرائيل وترتكبها اليوم بلا رادع، أمام عيون العالم. في ذكرى الرحيل العشرين هذه، نتذكر كيف أن الشاعرة، قبيل اشتداد مرضها في عام 2003 والذي أدى إلى رحيلها عن 85، في 12 ديسمبر (كانون الأول) كانت تذرف، كما قال أصدقاؤها، دموع الأسى على مدينة نابلس القديمة، عندما شاهدت الجيش الإسرائيلي يمعن فيها هدماً وجرفاً. بكت فدوى على سرير المرض، لأنها لم تكن قادرة على أن تكتب عن مدينتها ومدينة أخيها إبراهيم، الشاعر النهضوي، ومدينة الطفولة والذكريات، وقد شاهدت أحياءها تنهار تحت الجرافات الإسرائيلية. ولعلها اليوم تبكي في مثواها النابلسي، وتذرف سيلاً من الدمع، حزناً وأسى على مأساة الشعب الفلسطيني، التي تصل ذروة جديدة من القتل والتدمير والتهجير، تتخطى المآسي السابقة.
لكن صورة نابلس وصور فلسطين لا تزال محفوظة في قصائد فدوى طوقان، كما في قصائد أخيها إبراهيم طوقان وسائر الشعراء الأوائل الكثيرة الذين دأبوا على كتابتها منذ ما قبل نكبة 1948. استطاعت فدوى أن تحفظ صورة، بهية وحزينة، جميلة وأسيانة، في قصائدها ونصوصها النثرية وخصوصاً في سيرتها الذاتية البديعة "رحلة صعبة رحلة جبلية".
بين النكبة والهزيمة
اللافت في تجربة فدوى طوقان التي كانت في الحادية والثلاثين عندما حلت النكبة، أنها تجربة مخضرمة، في كل ما تحمل هذه الصفة من معان وأبعاد.فهي بدأت شاعرة كلاسيكية ذات نزعة رومانطيقية متأثرة بقصائد أخيها إبراهيم طوقان (1905-1941) الذي كان يكبرها بأثنتي عشرة سنة، وقد خصته بكتاب عنوانه "أخي إبراهيم"، وكان باكورة أعمالها، وصدر في 1946.غير أنها ما لبثت أن التحقت بركب شعراء التفعيلة الذين تمردوا على النظام العروضي القديم لتكتب الكثير من القصائد التفعيلية الحديثة. ولكن يصعب حصر تجربة فدوى طوقان المخضرمة في ميدان الشكل الشعري فحسب، فهي التي بدأت كلاسيكية مضموناً وأسلوباً، سرعان ما انفتحت على الرومانطيقية واستسلمت لجوها الشفيف ونزعتها الوجدانية ونبرتها الشعرية الهامسة. وكانت فدوى خارجة لتوها من مأساة النكبة التي انعكست على شعرها ووسمته بالأسى والألم. وتمثلت هذه المرحلة الرومانطيقية والوجدانية في دواوينها الأولى: "وحدي مع الأيام" (1952)، و "وجدتها" (1958)، و"أعطنا حباً" (1960). ولكن ما إن حلت هزيمة 1967 حتى طرأ تحول واضح على شعر فدوى. فمنذ ذلك التاريخ، التحقت الشاعرة بحركة الشعر المقاوم متخلية قليلاً عن الجو الرومانطيقي، وملتزمة قضيتها وقضايا الشعب الفلسطيني، سواء في الداخل المحتل أم في المنفى الخارجي. وعلى رغم ارتفاع نبرة المقاومة في شعرها، وصعود الموقف الوطني الملتزم مشوباً بالغضب والحماسة، ظلت قصائدها تحافظ على لغتها الهادئة والصافية، وعلى الغنائية التي لم تتخل عنها حتى آخر قصيدة كتبتها.
غير أن منفاها الداخلي في فلسطين المحتلة، جعلها تبتعد عن معترك الحداثة الشعرية وعن ساحة السجال الذي قام بين الشعراء المحافظين والشعراء المحدثين. ولعل هذا الابتعاد القسري جعلها تمكث في الظل وليس في الصدارة، على خلاف الشاعرة العراقية نازك الملائكة التي سطع نجمها في الستينيات واقترن اسمها بثورة الشعر الحديث. وقد يكون طغيان القضية الفلسطينية على شعر فدوى، ولا سيما في دواوين المرحلة الثانية من مسارها، قد أسهم بدوره في حصرها ضمن شعر المقاومة الذي كان له فضاؤه الخاص ضمن أجواء الشعر العربي الحديث. ومن دواوينها في هذه المرحلة: "الليل والفرسان" (1969)، "على قمة الدنيا وحيداً" (1973).
الذات الفلسطينية
كتبت فدوى طوقان الكثير من الشعر، كتبت قصائد عاطفية ولكن خالية من الانثيال الأنثوي والبوح والترسل. فشعرها العاطفي سعى إلى اكتشاف الذات الداخلية، وإلى تحقيق هذه الذات بعيداً من أي مبالغة في الأحاسيس والمشاعر. وكتبت فدوى طوقان قصائد سياسية ذات نزعة التزامية، وطابع سردي وشكل درامي، لكنها لم تقع في أسر السياسي والواقعي، ولا في المباشرة والمنبرية اللتين وسمتا الكثير من الشعر الفلسطيني وخصوصاً في مراحل النضال العسكري. وقد يكون ميلها الشديد إلى الموقف الوجداني المشبع بالأسى الوجودي واللوعة الإنسانية، جعلها تحافظ على شعريتها الصافية وشفافيتها، وعلى الطابع الغنائي الذي ميز معظم قصائدها.
يمثل شعر فدوى طوقان تجربة طويلة واكبت مختلف الاتجاهات والمراحل الفنية في حياة القصيدة العربية منذ الثلاثينيات حتى اليوم، مع انفتاح دائم على حركة التجديد في الشعر العربي، وانفتاح قصيدتها على المزيد من التطوير والتجريب، والمزج بين الوجدان الذاتي وقضايا الوطن، وهذا واضح تمام الوضوح في مجموعتين من شعرها "الليل والفرسان" و"على قمة الدنيا وحيداً"، إذ يجد الدارس لهذين الديوانين موقفاً من الحياة، هو مزيج من الامتثال والثورة، ومن الافتتان والتوجس، مع إيمان بالإنسان، وبقدرته على مواجهة مصيره، وحتمية انتصاره في النهاية.
ظلت فدوى مدى نصف قرن تكشف عن جوانب الجمال في اللغة العربية، وعن قدرتها على رسم أدق المشاعر والخلجات النفسية، والأماني القومية. واستمرت خلال ذلك كله تتغنى بالمحبة والأخوة والصداقة والوطن، معتصمة بشجاعتها وكبريائها الإنسانية، مؤمنة بقدرة الشعر على بث التفاؤل وروح الثبات والصمود.وفي سيرتها الموجزة أنها ولدت في مدينة نابلس، وفيها تلقت تعليمها حتى المرحلة الابتدائية، وإذ كانت عائلتها المحافظة ترى أن مشاركة المرأة في الحياة العامة أمر غير مقبول، اضطرت إلى ترك مقاعد الدراسة، لكنها استمرت في تثقيف نفسها بنفسها، ثم درست على أخيها شاعر فلسطين، إبراهيم طوقان، فنمّى مواهبها ووجهها نحو كتابة الشعر، وشجعها على نشرالقصائد في العديد من الصحف العربية، وأسماها "أم تمّام". ولاحقاً أسماها محمود درويش لاحقاً "أم الشعر الفلسطيني".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كتبت فدوى طوقان سيرتها الذاتية في كتاب سمته "رحلة صعبة رحلة جبلية" وصدر في الثمانينيات، وبدت كأنها تنافس في نثرها، ما كتبت من شعر، وقد اعتمدت سرداً يجمع بين بساطة الأسلوب ومتانة اللغة والنفس الشعري، لتروي مراحل من مسارها الحياتي والشعري، المكاني والزمني، الخاص والعام. وكتب الناقد المصري رجاء النقاش عن هذه السيرة مشبها إياها بسيرة طه حسين "الأيام" وسيرة توفيق الحكيم "زهرة العمر". وقال: "مزيج رائع من وقائع التاريخ ونوازع الروح، مسبوكة برشاقة وشفافية وبوح أليف". أما الشاعر سميح القاسم فكتب في تقديمه الكتاب: "رحلة فدوى طوقان الجبلية، رحلتها الصعبة حقاً لم تكن مجرد حياة أخرى؛ إنها نقيض العادي وهي شاهد ثقة على الانشطار الهائل بين الحلم الجامح من جهة، والواقع المعقد من جهة أخرى". ويضيف: "نستطيع أن نبصر في سيرة طوقان ذات المرأة الفلسطينية المبدعة، الطموحة، القوية، الواثقة، المرأة الفلسطينية التي تستطيع أن تطوع كل الصعوبات لتجعلها مكمن قوة وطاقة لها، فلطالما كان الاحتلال سبباً يجعل المرأة تنافح وبقوة عن نفسها وبيتها وعائلتها".
وفي عام 1993 أصدرت فدوى طوقان صيغة أخرى من سيرتها هذه بعنوان "الرحلة الأصعب" وفيها واصلت سرد مرحلة العام 1967، معبرة عن الأثر الأليم الذي تركته الهزيمة، في روحها وروح الشعب الفلسطيني. هذان الكتابان يستحقان قراءة منفردة، ففيهما تكمن سيرة مزدوجة، سيرة الشاعرة وسيرة فلسطين، ويشكلان مرجعاً مهماً وحقيقياً لمقاربة تاريخ فلسطين الأخرى، بعين شاعرة.