ملخص
لعبة "الحمائم والصقور" الإيرانية تربك احتمالات التصعيد الأميركي في العراق
لا يزال الاضطراب يحيط بالأجواء العراقية مع استمرار الجماعات المسلحة الموالية لإيران بشنّ هجمات ضد المواقع العسكرية الأميركية في البلاد، الأمر الذي غيّر بشكل لافت من قواعد الاشتباك بين الطرفين خلال الأشهر القليلة الماضية.
وشهدت قواعد الاشتباك التي كانت محصورة بهجمات طفيفة على المصالح الأميركية وردود واشنطن عليها بسيناريو الرد على منفذي الهجمات، تغيراً ملحوظاً خلال ديسمبر (كانون الأول) الجاري، خصوصاً بعد أن أسفرت الضربات الأخيرة التي شنتها جماعة تطلق على نفسها حركة "المقاومة الإسلامية في العراق" عن جرح ثلاثة جنود أميركيين أحدهم بحال خطرة.
وتأتي احتمالات التصعيد مع الضغوط التي يمارسها "البنتاغون" على البيت الأبيض للقيام برد حازم على ما يجري، وهو ما حصل فعلاً حين قررت واشنطن قصف مقار عدة تابعة لميليشيات "كتائب حزب الله" الجناح المسلح الأبرز الموالي لإيران في العراق.
تصعيد مستمر
وكانت حركة "المقاومة الإسلامية في العراق"، أعلنت في 27 ديسمبر، قصفها مجدداً قاعدة "حرير" قرب مطار أربيل للمرة الثانية خلال أقل من يومين، في حين أشارت إلى أن الهجوم يأتي رداً على "مجازر الكيان الصهيوني بحق أهلنا في غزة".
ولعل ما أشعل الأجواء مجدداً استهداف القاعدة ذاتها في 25 ديسمبر الجاري بطائرة مسيرة، أسفرت عن إصابة ثلاثة جنود أميركيين، الأمر الذي دفع وزارة الدفاع الأميركية إلى الرد بقصف ثلاثة مواقع تابعة لميليشيات "كتائب حزب الله" في محافظة بابل، مخلفة قتيلاً واحداً ونحو 18 جريحاً، بحسب الحكومة العراقية.
ودفع التصعيد الأخير المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي الأميركي أدريان واتسون إلى القول إن الولايات المتحدة "ستتصرف في الوقت والطريقة التي تختارها إذا استمرت هذه الهجمات".
وكان وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن أعلن، في 26 ديسمبر، قصف ثلاثة مواقع قال إن ميليشيات "كتائب حزب الله" وجماعات تابعة لها تقوم باستخدامها، مشيراً إلى أن تلك الضربات تأتي رداً على "سلسلة هجمات ضد طواقم أميركية في العراق".
وفي أول رد فعل رسمي، دانت الحكومة العراقية الهجمات الأميركية مبينة أن هذه الخطوة "تسيء إلى العلاقات الثنائية بين البلدين وتعقّد سبل التوصل إلى تفاهمات عبر الحوار المشترك لإنهاء وجود التحالف الدولي"، وفيما أكدت تعاملها بـ "حزم" مع العناصر التي تشنّ هجمات على البعثات الديبلوماسية وأماكن وجود المستشارين العسكريين، وصفت هذه الهجمات بأنها "أعمال عدائية تمسّ بسيادة الدولة العراقية".
إعلان حرب على الوجود الأميركي
وتشير التطورات المتسارعة إلى احتمال تصاعد حدة التوتر في البلاد، في وقت تبدو حكومة محمد شياع السوداني في حرج أمام التزاماتها إزاء واشنطن.
ورأى رئيس مركز التفكير السياسي إحسان الشمري أن "عوامل كسر الاستقرار في حكومة الإطار التنسيقي تحققت منذ أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، عندما قررت الفصائل المسلحة الانخراط في ما يجري في غزة"، مبيناً أن عودة استهداف المصالح الأميركية في البلاد مثّلت "إعلاناً ببدء كسر الاستقرار النسبي الذي تشهده الحكومة العراقية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولعل ما دفع إلى اتخاذ خيار كهذا بالنسبة للقوى الموالية لإيران والتي تسيطر على الحكومة العراقية، بحسب الشمري، "العوامل الخارجية" التي تطمح إلى "استغلال الجغرافيا العراقية في المعركة كجزء رئيس من أوراق الضغط على واشنطن".
وأضاف الشمري أن قرار الميليشيات بالتصعيد في هذا التوقيت يحمل "مخاطرة كبيرة" واصفاً ما يجري على الساحة العراقية في الفترة الأخيرة بمثابة "إعلان حرب صريحة من قبل الميليشيات ضد القوات الأميركية". ولفت إلى أن هذا الأمر "يضعف بشكل مباشر أدوات التفاوض لحكومة السوداني والتي باتت تبدو عاجزة عن إقناع الفصائل المسلحة بالعدول عن مواقفها".
منعطف في استراتيجيات واشنطن
وتمثل تداعيات الأشهر القليلة الماضية "منعطفاً في استراتيجيات البيت الأبيض إزاء الجماعات المسلحة الموالية لإيران"، وتابع الشمري أن "صانعي القرار في واشنطن بدأوا، بشكل فعلي، اتخاذ استراتيجية الضربات الاستباقية من خلال عمليات عنيفة ضد مقرات القيادة ومخازن الأسلحة ومصانع الطائرات المسيرة والصواريخ لتلك الفصائل"، مضيفاً أن "فقدان الحكومة السيطرة على الفصائل وعدم القدرة على إقناع الأميركيين سيحوّل البلاد إلى أرض اشتباك مفتوحة". وتابع أن ما يجري الآن على الساحة العراقية "ستكون له تداعيات كبيرة سياسية واقتصادية وأمنية"، لافتاً إلى أن واشنطن قد تضطر إلى "اتخاذ استراتيجية ردع أكبر فضلاً عن سلسلة قرارات سياسية لتقويض عمل الميليشيات إذا ما استمر عجز الحكومة عن إيقاف الهجمات".
من جهته، قال أستاذ العلوم السياسية هيثم الهيتي إن الحديث عن "صراعات بينية بين الميليشيات الولائية "لا يمكن أن يحدث" خصوصاً مع وجود "ضابط إيراني أعلى قادر على السيطرة على الخلافات الداخلية بين هذه القوى". وأضاف أن ما يدفع طهران إلى توجيه الميليشيات الموالية لها لقصف المصالح الأميركية في العراق "محاولتها الظهور بمظهر المسيطر على كل مساحات النفوذ التابعة لها من بغداد إلى دمشق وبيروت وصنعاء". ولفت الهيتي إلى أن طهران قد تجازف بـ "دفع الجميع لتوجيه حراكه ضدّ واشنطن لكسر أي احتمال تصعيد داخلي".
لعبة الحمائم والصقور
ويأتي مسار التصعيد بالتوازي مع إشكالات واسعة تعيشها الميليشيات المسلحة الموالية لإيران في العراق، وبرزت خلافات واسعة بين الأطراف المسلحة المشتركة في الحكومة مع تلك التي لا تحظى بتمثيل كبير فيها.
ولعل ما أشعل الخلافات داخل أروقة الميليشيات الولائية هو البيانات التي أصدرتها كتائب "حزب الله"، الشهر الماضي، وأشارت فيها إلى أسماء صريحة للميليشيات التي تقوم باستهداف المصالح الأميركية مستثنية ميليشيات "عصائب أهل الحق" ما أشعل خلافاً واسعاً بين الطرفين.
وتشير سلسلة الإشكالات بين زعماء الفصائل إلى احتمال تصاعد الإشكالات إلى ما هو أوسع من ذلك، مع عدم قدرة حكومة محمد شياع السوداني على السيطرة على تلك الخلافات، إلا أن مراقبين يعتقدون أن ما يجري يمثل "لعبة مزدوجة" تقوم بها طهران للحد من التصعيد الأميركي في العراق.
وتواجه حكومة السوداني ضغوطاً قاسية، فإلى الأزمات الاقتصادية، يأتي التصعيد الأخير للميليشيات ليفتح الباب أمام سيناريوهات عدة قد تتخذها واشنطن إزاء العراق ضمن محاولات ردع الميليشيات.
وأشار رئيس منطقة الشرق الأوسط في مؤسسة "غالوب" الدولية منقذ داغر إلى أن ما يجري على الساحة العراقية يمثّل "استنساخاً للعبة الحمائم والصقور التي لطالما استخدمتها طهران في التعامل مع المجتمع الدولي"، مستبعداً حصول "إشكالات داخلية واسعة بين أطراف حلفاء إيران في العراق". وأضاف أن حدود التصعيد في العراق "ستبقى في إطار يمكن السيطرة عليه"، مبيناً أن "ثمة سقفاً محدداً ترسمه طهران لتلك الجماعات في إطار هجماتها على المصالح الأميركية ولا يمكن تجاوزه".
ضرب التفاهم الأميركي - الإيراني
ويمثل استمرار استهداف القواعد الأميركية في العراق حرجاً كبيراً لحكومة السوداني التي تعهدت بالحد من تلك الهجمات، في حين يرى مراقبون أن ما يجري يمثّل ضربة صريحة للتفاهم الإيراني - الأميركي الذي أوصل "الإطار التنسيقي للقوى الشيعية" الحليف الأبرز لإيران إلى السلطة في العراق في أكتوبر 2022.
في السياق، رأى الباحث في الشأن السياسي مصطفى ناصر أن ما يجري على الساحة العراقية يمثّل "تقاسماً للأدوار بين الكتل السياسية المقربة من إيران والفصائل المسلحة التي تدعمها"، مبيناً أن هذه الاستراتيجية يمكنها "خلق نفوذ أكبر لإيران في العراق والحد من نفوذ واشنطن"، وأضاف أن استراتيجية إيران التي تستخدم "السياسة والسلاح في آن واحد في العراق" تمثّل "إرباكاً كبيراً لواشنطن"، خصوصاً مع "تنصل الأطراف السياسية من مسؤولية الهجمات، إلا أنها لا تتحرك لردعها، في حين تدين أي هجوم أميركي عليها". وختم أن واشنطن تحاول "دفع طهران للالتزام بقواعد اللعبة في المنطقة، إلا أن هذا الأمر لا يبدو ممكناً، مع إحكام إيران سيطرتها على البلاد".