Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ليونارد بيرنشتاين على حقيقته في فيلم يظهر موهبته المذهلة

مع عرض شريط "مايسترو" المتقن من بطولة برادلي كوبر على "نتفليكس" نغوص في الحياة العاطفية المتناقضة والمليئة بالإثارة لتلك الأيقونة الثقافية

ليونارد برنشتاين يعتبر أحد أكثر الملحنين وقائدي الأوركسترا موهبة في القرن الـ20 (غيتي)

ملخص

قدم فيلم مايسترو حياة الموسيقار وقائد الأوركسترا الشهير ليونارد برنشتاين الذي عرف بقيادته المتألقة للفرق الموسيقية وتأليفه المسرحية الغنائية قصة الحي الغربي الشهيرة. وأدى دوره برادلي كوبر

صحيح أن النجم الأميركي برادلي كوبر أول ممثل يجسد دور [المايسترو والمؤلف الموسيقي وعازف البيانو] ليونارد بيرنشتاين المهيب على الشاشة، ثمة أيضاً من يدعي بأحقيته في هذا اللقب. تقريباً.

في عام 1990، أدى كارل ديفيس، المؤلف الموسيقي لمقطوعات كثيرة، بدءاً بموسيقى ملحمة شبكة تلفزيون "آي تي في" مسلسل "ذا ورلد آت وور "The World at War  (العالم في حالة حرب)، وموسيقى المسلسل المحبوب على "بي بي سي" "برايد آند بريجيديس" Pride and Prejudice (فخر وتحامل)، أدى دور المايسترو أو قائد الفرقة الموسيقية خلال جلسة تصوير في الاستوديو مخصصة لتسجيل ألبوم متنوع تشارك فيه أوركسترا كاملة ونجمتا الأوبرا لوسيا بوب وريناتا فون تراب. بوب وتراب كانتا، بالطبع، الثنائي الكوميدي [داون] فرينش و[جنيفير] سوندرز. كان اسكتش أغنية الغلاف الممتعة "لا بد من أني محظوظة جداً" يسخر من الفيلم الوثائقي الشهير لكريستوفر سوان حول كواليس تسجيل النسخة الأوبرالية من المسرحية الموسيقية "ويست سايد ستوري" West Side Story (قصة الحي الغربي) في سبتمبر (أيلول) 1984، وهو مشروع شغوف ابتكره وأداره ملحنه ليونارد بيرنشتاين.

لم يكن ديفيس يؤدي دور الرجل [المايسترو بيرنشتاين] فعلياً، ولكن حقيقة أنه بعد مرور 33 عاماً، ما زال لتلك المحاكاة الساخرة وقعها الكبير للغاية، تعطس شهادة على قوة المادة الأساس التي تستند إليها، وكذلك نفوذ برنشتاين في هذه الصناعة. في الحقيقة، اختياره مغنيتي أوبرا غير مناسبتين لتسجيل تحفة مسرحية موسيقية ينظر إليه الآن إلى حد كبير على أنه خيار خاطئ، ولكن في ذلك الوقت، كان برنشتاين البالغ من العمر 66 سنة نجماً كبيراً إلى حد أن شركة التسجيلات الشهيرة "دويتشه غراموفون" انضمت إليه. وفي هذه العملية، حقق الطرفان مبيعات ملحمية. بعد مرور عقود من جلسة التسجيل تلك (التي عادت إلى العرض الآن على خدمة "بي بي سي آي بلاير" BBC iPlayer)، يظل "ويست سايد ستوري" العمل الأكثر شهرة للملحن، ويرجع الفضل في جزء منه إلى نسخة الفيلم بتوقيع ستيفن سبيلبرغ. وعلى رغم أن الأخيرة التي تبلغ كلفتها 100 مليون دولار تباهت بالملذات بما في ذلك سيناريو لتوني كوشنر (الشهير بتأليفه "إنجيلز إن أميركا" Angels in America "ملائكة في أميركا") وصنعت من أريانا ديبوز نجمة في تجسيد شخصية أنيتا النارية، بيد أنها أثارت ضجة إعلامية أكثر مما حققت إيرادات في شباك التذاكر، ما يتناقض بشكل حاد مع النسخة السينمائية المحبوبة الأصلية عام 1961 [احتلت طوال سنوات المركز الأول بين أكثر الأفلام إيرادات].

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

فاز فيلم الجريمة "روميو وجولييت في نيويورك" الذي تفيض حوادثه رقصاً وغناء وحيوية وحماسة، والمأخوذ من المسرحية [قصة الحي الغربي] من إنتاج عام 1957، بـ10 جوائز "أوسكار"، من بينها أفضل فيلم. يصح القول تماماً إن المنازل وموجات الإذاعة الأميركية كانت مفعمة بصوت برنشتاين، نظراً إلى أن الموسيقى التصويرية الحائزة جائزة "غرامي" وتصنيف البلاتيني الثلاثي اعتبرت أحد الألبومات الأكثر مبيعاً في ذلك العقد. لقد احتلت المركز الأول في قوائم "بيلبورد" طوال 54 أسبوعاً، في أطول مدة تشغيل لأي ألبوم في التاريخ، وهو رقم لم ينافسه سوى ألبوم مايكل جاكسون "ثريلر" Thriller (تشويق). إن كل ما سبق صنع المعجزات لغرور برنشتاين (الكبير) ورصيده البنكي (الكبير أيضاً). والأكثر روعة أن التأليف لم يكن عملاً يومياً بالنسبة إليه.

قبل عقود من صياغة هذا المصطلح، أصبح ليونارد بيرنشتاين، الذي كان مدخناً شرهاً ويعيش حياة مرفهة، والمولود عام 1918، شخصاً متعدد المجالات. في تعريف موجز عنه، يصفه المخرج البريطاني همفري بيرتون (الأكثر اطلاعاً وذكاء بين كتاب سيرته الذاتية الكثيرين) بأنه "ملحن، وعازف بيانو، ومؤلف، ومدرس تلفزيوني، ومحاضر في ’جامعة هارفارد‘، وأيقونة ثقافية، وإنساني، وقائد فرقة موسيقية لا نظير له". وعلى رغم أن هذا الكلام يبدو منمقاً، غير أن المخرج البريطاني لم يبالغ. في الواقع، لم يكتف برنشتاين بإتقان كل من هذه التخصصات فحسب، بل نظر إليه عالمياً باعتباره مفكراً عاماً رائداً وأحد أهم الشخصيات الثقافية في أميركا. "رسائل ليونارد بيرنشتاين"، 600 صفحة رائعة منتقاة من عشرات الآلاف من الرسائل، تحتوي على قائمة من الشخصيات تشمل الجميع من آرون كوبلاند إلى فرانسيس فورد كوبولا مروراً بلورين باكال، وفرانك سيناترا، وإنغمار بيرغمان، وجاكي كينيدي. وبالتالي، كل من يبحث عن شخصية من ثقافة القرن الـ20 لن يحتاج إلى البحث عنها في أي موضع آخر.

للحق، امتلك بيرنشتاين موهبة مذهلة وشهية نهمة، وبدا واضحاً في مشاعره وميوله، إذ كان أسلوبه الجامح في القيادة يرمز إلى مشاعره العاطفية تجاه الموسيقى التي يعشقها. وقاد برنشتاين نفسه والمحيطين به إلى أقصى الحدود وحقق مستوى من الشهرة لا يطوله هذه الأيام سوى أساطير السينما والبوب. لم يكن من قبيل المصادفة أن اختارت الابنة الكبرى بين أبنائه الثلاثة لسيرتها الذاتية الواضحة الرؤية عنوان "فتاة الأب الشهير"، علماً أنها أحد المصادر الكثيرة لفيلم "مايسترو" من بطولة كوبر.

اشتعلت هذه الشهرة من طريق بث مباشر واحد. في عام 1943، ومن دون أي إشعار أو بروفات، حل برنشتاين محل قائد الأوركسترا الأسطوري برونو والتر الذي تغيب لإصابته بالإنفلونزا. بثت شبكة "سي بي إس" الحفلة على الهواء مباشرة من قاعة "كارنيغي هول" [في نيويوك] في مختلف أنحاء البلاد، وقبل عقد من سيطرة موسيقى "روك أند رول"، تصدرت الحفلة الصفحة الأولى من صحيفة "نيويورك تايمز" في اليوم التالي. تجلت هذه اللحظة في الافتتاحية الشجاعة لفيلم "مايسترو"، إذ نشاهد برنشتاين يقفز عارياً من السرير، ويتوقف هنيهة ليصفع مؤخرة عشيقه الذكر، ثم نراه يندفع بسلاسة أمام الكاميرا كقائد للفرقة. يبدو المشهد رائعاً بقدر ما يبدو سريالياً، ويحدد في حينه بأنه يتوجه للكبار لما يتسم به من جدية وشهوانية.

وتوفرت هاتان الصفتان بكثرة، سواء في أعماله أوحياته الشخصية الفوضوية. على رغم زواجه في عام 1951 من الممثلة فيليشيا مونتيليغري التي، وفق الفيلم الذي يمتاز بالبحث العميق، دخلت في العلاقة وهي متيقظة تماماً، أبقى برنشتاين في الوقت نفسه على علاقاته بالرجال التي لم تكن موقتة بل طويلة الأمد ومهمة جداً. في مرحلة كان لا بد فيها من الحفاظ على خصوصية الحياة الجنسية المثلية للشخصيات العامة، طرح ما اشتملت عليه تلك الحالة من خداع ضروري ومشكلات غير ضرورية غالباً، عواقب على جميع المعنيين، لا سيما أولاده جيمي وألكسندر ونينا.

ولكن في المجال العام، فإن تفاني برنشتاين في الموسيقى حقق له نجاحاً مذهلاً في شتى أنحاء العالم، إذ تكشف لقطات له خلال العمل تمتد لساعات عن أنه لا يصنع الموسيقى بقدر ما يتبحر فيها، إضافة إلى ديناميكيته المطلقة. لم يحل للبعض أن يدفع برنشتاين بالمقطوعات الموسيقية حتى الحدود القصوى من التعبير، لكن دفاعه المتحمس المحموم عن الملحنين المهملين بعض الشيء، خصوصاً غوستاف ماهلر المتقد، وضعهم على رأس الأجندة الثقافية.

 

لولا برنشتاين، لما حظينا بسوندهايم

وعلى رغم تاريخه الموسيقي المسجل المهول الذي يساوي قروناً من المخزون الكلاسيكي، فإن عمل برنشتاين كملحن أكثر ما أثار إعجاب قائد الفرقة الموسيقية البريطانية والمفضل لدى "بي بي سي برومز" جون ويلسون. وبحسب ويلسون، "هذا لا يقلل من مكانته كقائد أوركسترا، لكنه يعني لي كثيراً كمؤلف".

وأضاف ويلسون، "لم يكتب أي شيء إلا إذا كانت في جعبته فكرة ملهمة، الأمر الذي ضمن عرض أعماله طوال الوقت. كان في المقدمة وعنصراً محورياً في ما تعلق بتضييق الفجوة بين الأوبرا والمسرح الموسيقي. هكذا، قدم للشكل ما قدمه بوتشيني من أجل التكامل الدرامي في الأوبرا. إذ تخدم كل مقطوعة موسيقية في "ويست وايد ستوري" غرضاً درامياً. لولا برنشتاين كمؤلف موسيقي، لما كنا سنحظى بستيفن سوندهايم كمؤلف للنص". وتعتري ويلسون حماسة في شأن دأب برنشتاين على تحطيم المعتقدات الموسيقية. "لقد هدم جدراناً كثيرة. لا يسعك التقليل من أهمية تقديمه باقة متنوعة من الفنون وكيف ساعد ذلك في إضفاء الشرعية على أشكال فنية معينة". ويضاف إلى ذلك شغف ويلسون بمؤلفات برنشتاين الكلاسيكية التي تولى إدارتها في جميع أنحاء أوروبا والمملكة المتحدة. ويشير إلى "مزامير تشيشيستر" Chichester Psalms، وهو العمل الكورالي والأوركسترالي المميز تماماً والحيوي والمتحمس الذي كتبه لنصوص عبرية لكاتدرائية "تشيتشيستر" في عام 1965.

بحسب ويلسون، "لقد غرس [برنشتاين] في أعماله شخصية مميزة. وبعثت شدتها الذهول في نفسي دائماً. وليس استخدامه لموسيقى الجاز والبوب في أعماله تفصيلاً شكلياً لا ينطوي على أية أهمية. لقد كان رائداً في نواح كثيرة. إذ قدم لنا المؤلف الأميركي آرون كوبلاند موسيقى المساحات المفتوحة الواسعة في أميركا، وأعطانا المؤلف الموسيقي الأميركي جورج غيرشوين صوت مانهاتن. أما برنشتاين فيمزج هذين العالمين معاً ويصنع منهما عالماً خاصاً به". يتجلى هذا المزيج بشكل رائع في موسيقى فيلمه السياسي المتوهج "أون ذا ووتر فرونت" On the Waterfront (على الواجهة البحرية) للمنتج والمخرج [الأميركي من أصل يوناني] إيليا كازان. تضيف موسيقى برنشتاين وحشية ورفعة وحسرة. وعلى رغم فوزه بترشيح لجائزة "أوسكار"، فإن الفيلم تخلى عنه فوراً لأنه أراد أن يكتب موسيقى مستقلة بذاتها. ومع ذلك، يمكن القول إن دوره كمعلم يبقى أكبر من دوره كملحن. مثلاً، الموسيقار أندريه بريفين الذي لا يقل انتقائية، وهو أحد أهم خلفائه الموسيقيين تقريباً، حظي بمشاهدة زهاء نصف سكان المملكة المتحدة في العرض الميلادي "موركامب آند وايز" عام 1971، ذلك أن بريفين أصبح معروفاً بسبب ظهوره على التلفزيون حيث قدم الموسيقى الكلاسيكية وتحدث عنها. لقد سار عن قصد على خطى برنشتاين الشهيرة.

في يناير (كانون الثاني) 1958، بعد مرور أسبوعين على توليه منصب مدير الموسيقى لـ"أوركسترا نيويورك فيلهارموني"، أقام برنشتاين أول حفلة متلفزة للشباب. وعلى مدى 14 عاماً، عرف جيلاً كاملاً على الموسيقى الكلاسيكية من خلال 53 حفلة موسيقية بثتها أكثر من 40 دولة. وفي وقت لاحق، وصف الحفلات الموسيقية والمحاضرات التي تحظى بشعبية كبيرة بأنها "من بين الأنشطة المفضلة والأكثر قيمة في حياتي". وتبقى سلسلة محاضراته الست المتلفزة الجريئة فكرياً والمتعمقة موسيقياً التي ألقاها في "جامعة هارفارد" الأميركية عام 1973 بعنوان "السؤال الذي بقي بلا إجابة" (ما زالت متاحة على الإنترنت) درساً رفيع المستوى في جعل النقاشات حول الموسيقى كلغة متوفرة في قالب ممتع ومثير للاهتمام.

إن "مهمته" المعلنة في التثقيف والإلهام جعلت الحدود بين الثقافة والسياسة تتلاشى. في ستينيات القرن الـ20، حرض على إجراء تجارب أداء "عمياء" [بمعنى إخفاء هوية المؤدي عن الحكام منعاً لأي تحيز] في "أوركسترا نيويورك الفيلهارمونية" تشجيعاً للموسيقيين من ذوي البشرة الملونة. "الأناقة الراديكالية" radical chic مصطلح صاغه الكاتب والصحافي الأميركي توم وولف في عام 1970 في مقالة له نشرتها مجلة "نيويورك" على الغلاف الأمامي تصف حفلة سيئة السمعة، وفق ما جاء فيها، أقامه ليونارد وفيليسيا في شقتهما من أجل إذكاء الوعي وجمع الأموال دفاعاً عن أعضاء حركة "الفهود السود" Black Panther movement [حركة حقوقية لسود الولايات المتحدة نشأت بعد مقتل مالكوم إكس وما عقبه من توترات راح ضحيتها أكثر من 300 مواطن أسود].

بلغ المزيج المميز الذي اكتنزه برنشتاين من العاطفة والسياسة والموسيقى ذروته قبل تسعة أشهر من وفاته في عام 1990.

في يوم عيد الميلاد عام 1989، بعد ستة أسابيع من سقوط جدار برلين واليوم التالي لفتح بوابة براندنبورغ بين الشرق والغرب الذي سمح لنصف مليون من سكان برلين بالعبور ذهاباً وإياباً، كان برنشتاين البالغ من العمر 71 سنة في المدينة. وبعد أن اقتطع بنفسه قطعة من الجدار ليأخذها إلى عائلته، وأضاء شموع الـ"هانوكا" أو [عيد الأنوار لدى اليهود] في أقدم معبد يهودي في المدينة، أقام حفلة موسيقية بلغت ذروتها مع الحركة الأخيرة (الجزء الأخير) من "السيمفونية التاسعة" لبيتهوفن. والأخيرة معروفة بكورالها الختامي "أنشودة الفرح" Ode to Joy للشاعر الألماني فريدريش شيلر ولكن في هذه المناسبة، غير برنشتاين كلمة Freude بالألمانية (أو joy بالإنجليزية وتعني الفرح) إلى Freiheit بالألمانية أو Freedom بالإنجليزية (وتعني الحرية). لقد أثارت الفكرة في البداية الإزعاج، لماذا عبث بتحفة فنية؟ ولكن البث حول العالم أثبت تماماً صحة تدخل برنشتاين. شأن اللحظات الثقافية التي لا تعد ولا تحصى في حياته التي تفيض بالحوادث، كانت تلك لفتة جريئة نموذجية استحوذت على الحقيقة العميقة وعبرت عنها.

عرض فيلم "مايسترو" Maestro على "نتفليكس" (20 ديسمبر)

© The Independent

المزيد من سينما