حجز الفن السابع موقعاً مميزاً بين الفنون البصرية التي عرفت على مدار تاريخها نمواً متزايداً، فهذا الفن الوسيط البصري يصنفه المفكرون والمخرجون أكثر الفنون قوة بحكم شعبيته وتأثيره في وجدان المشاهد في العالم ككل.
وظلت السينما تعرف في كل مرحلة من تاريخها تطوراً كبيراً على مستويات عدة تتعلق بالتصوير والمونتاج والعرض والتوزيع وغيرها من العناصر الفنية المتصلة بصناعة الفن السابع، مما يجعلها فناً صعباً من حيث التفكير والاشتغال، لأنها وسيط فني يعتمد على الصورة في علاقتها بالمتخيل.
غير أن الطفرة التكنولوجية المهمة التي شهدها العالم الحديث، كان لها تأثير كبير في نهضة السينما في العالم، وبفضل التكنولوجيا وجدت السينما أدواتها الفنية وعناصرها الجمالية وانتقلت من كونها صوراً متحركة صامتة إلى فن بصري مركب.
في البداية كان التعامل مع السينما على أساس أنها "بدعة" اخترعت أو أن شيطاناً ما يسكن هذه الآلة العجيبة، لكن مع مرور السنوات، تحولت إلى أكثر الفنون البصرية فتنة وسحراً على مخيلة الإنسان عبر التاريخ.
إن السينما اليوم بالنسبة إلى الدول العظمى عبارة عن فن يجذب الناس وبإمكانها أن تحتضن فكراً ويمرر عبرها خطاباً سياسياً، ما دامت سندها الصورة وهاجسها الإبداع والابتكار، فالسينما كما تخيلها الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، لها القدرة على نحت المفاهيم وعلى احتضان أفكار كبرى قابلة على أن تتبلور بصرياً.
بينما حولت دول أخرى السينما في زمن الطفرة التكنولوجية إلى وسيلة للتضليل السياسي والتمويه البصري، كما تعاملت معها وفق منزع أيديولوجي تسوغ من خلالها حروبها وتصنع خطابها وأجنداتها السياسية.
نهضة فنية
بدا واضحاً أن التطور الذي شهدته الفنون البصرية أسهم في انفتاح كبير للسينما على فنون أخرى، فبعد أن كانت الأفلام صامتة وبالأبيض والأسود أصبحت أفلاماً ملونة وذات إيقاع موسيقي متنوع يتماشى مع خطية الحكاية وانحدارها.
وبعد سنوات بدأت السينما تكشف عن بعض من سحرها، بعدما أدرجت الموسيقى ضمن اشتغالها، كما عملت من جهة أخرى على استلهام فن "الستوري بورد" من الرسم وإدراجه ضمن البرنامج الأولي للمخرج السينمائي في تعامله مع السيناريو غير أن هذه التقنية الفنية برزت بشكل أقوى خلال القرن الـ20، حين لجأ كثير من المخرجين إلى إعادة رسم مشاهد أفلامهم قبل تصويرها.
وفتحت هذه التقنية أفقاً مختلفاً وكبيراً بالنسبة إلى المخرج السينمائي، بحيث أتاحت له فهم شخصياته واستيعاب طبيعة مشاهده السينمائية قبل تصويرها، وهي تقنية اعتبرها صناع السينما أكثر العناصر الفنية الصانعة لقوة ودهشة السينما اليوم.
وتتيح هذه التقنية تزاوج الرسم بالسينما، إذ يعملان معاً على نحت لقطات الفيلم من طريق رسومات بالأبيض والأسود أو الملونة تكون مترابطة ومتسلسلة وفق نسق بصري واحد.
واعتمد بقوة بعض الاستوديوهات في هوليوود على تقنية "الستوري بورد" من أجل رسم ملامح أولية لشخصياتها، بل إن براعة بعض الرسامين العالميين، ساعدت المخرجين السينمائيين في صناعة معنى لمشاهدهم.
وفي تاريخ السينما يعثر الباحث على كثير من المخرجين الذين كانوا صمموا "الستوري بورد" بأنفسهم، من دون اللجوء إلى رسام معين، لكن بعدما أخذ مخطط الصور يرسم لنفسه مكانة كبيرة داخل الصناعة السينمائية أصبحت هذه التقنية تدرس في المعاهد والمدارس العالمية، وصارت لاحقاً تخصصاً يدخل ضمن عناصر تشكل العمل السينمائي، بعدما بدأت تطالعنا عديد من الأسماء الفنية المتخصصة في هذا النوع من الرسومات السينمائية.
براعة التخييل
يعتبر عديد من الباحثين أن وظيفة الستوري بورد تقنية أكثر من كونها فنية، لأن وظيفتها هي ترتيب المشاهد وتحديد طبيعتها على مستوى ألوان الصورة وأنماطها ونوعية المشاهد (داخلي/خارجي) وفيزيونومية (أنماط) الشخصيات ووضعياتها داخل اللقطة.
في حين يرى فريق آخر من الباحثين أن "الستوري بورد" لها علاقة أساساً بمفهوم الإدراك في السينما، لأن هذه الرسومات تتيح للمخرج تصوراً أولياً لفهم شخصياته وطبيعة مشاهده، أي إن المخرج يشاهد فيلمه، قبل أن يصوره.
ففي "الستوري بورد" لا يركز على التفاصيل الدقيقة للمشهد، لأن الأهم هو تقريب عملية الفهم بالنسبة إلى المخرج قبل الشروع في التصوير، لكنها في الأقل ظلت تتيح له إمكانات كبيرة للتخييل والحلم، ذلك أن رسم الشخصيات وفق تسلسل محدد، يسهم في تكثيف دلالات الصورة وتأجيج عملية الفهم.
ببساطة إذا تأملنا تاريخ السينما العالمية سنجد أن أفلام الخيال العلمي والفانتازيا تبقى أكثر الأفلام استخداماً لـ"الستوري بورد"، ذلك أن هذا المزج بين الواقع والخيال، يجعل هذا النوع الفيلمي الأكثر تعاملاً مع مخطط الصور، في حين تبقى الأفلام الواقعية، بعيدة من الاشتغال على هذه التقنية، لأن شخصياتها تبقى واضحة المعالم والرؤى، إذ تكون حكايتها في الغالب تشتغل وفق خط مترابط على مستوى الحكاية وعلى نسق بصري رتيب.
وأخيراً يأخذ الاشتغال بتقنية "الستوري بورد" داخل أفلام الخيال العلمي والأبطال الخارقين اشتغالاً قوياً ومكثفاً، بحيث إنه لدرجة تصبح هذه الرسومات وكأنها إبداع من نوع آخر. إبداع فني خالص غير مرتبط بالفيلم، مما يجعلها تعرض وتباع بأموال كثيرة، بخاصة إذا اشتهرت الشخصيات وحقق الفيلم نجاحاً جماهيرياً في العالم.