رجال يرددون بصوت واحد، وهم يرتدون البياض، أشعاراً مغناة، وخناجرهم موجهة نحو "العريس"، الذي يجلس وقدماه بداخل إناء ممتلئ بالحناء... هذا مشهد لواحدة من أغرب طقوس الزواج في العالم بقرية "المزاحن" بمحافظة إب اليمنية التي تستمر لثلاثة أيام.
فلو أن أقداراً جميلة وضعتك في تلك النقطة المسماة قرية المزاحن في محافظة إب اليمنية التي تبعد نحو 200 كيلومتر عن جنوب العاصمة اليمنية صنعاء، سترى شكلاً مختلفاً من طقوس ومراسم الزفاف التي يتميز بها أبناء قبيلة المزاحن.
تفاجئك الدهشة وأنت تشاهد طقوس الأعراس الفرائحية، إذ إنها متميزة وتأخذ شكلاً من الجمال النادر، كونها متأصلة بعادات وتقاليد متوارثة عن الأجداد ويختلط فيها القديم بالجديد، وكما أن قدراً جميلاً حملك إلى قرية المزاحن الريفية، يبقى الفرح قدراً سعيداً يحتفي معه شباب وشيوخ هذه القبيلة بحفيدهم العريس.
فرح المزاحن
للأعراس في قرية المزاحن عادات وتقاليد متأصلة منذ القدم تعود في منشئها الأول إلى التاريخ اليمني القديم الثري تنوعاً وجمالاً، فالرقصات الشعبية والناي (المزمار) والطبل والأشعار، وغيرها من الفنون الشعبية، ما زالت طقوساً معهودة تزين مراكب الأفراح.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في السياق، يكون واجب الرقص أمام العريس، عهداً وديناً ينفذ طقوسه شباب القبيلة وخصوصاً المتزوجين رداً للجميل المتبادل بينهم، إذ يحتفلون به ليلتين تسبق يوم زفافه الرئيس، ويرافق ذلك الاحتفال القصائد الشعرية، ويستمر حتى مطلع الفجر.
وتعتبر دائرة الفرح أشهر عادة تتميز بها أعراس المزاحن، وعادة ما تكون في صباح يوم الزفاف الرئيس (اليوم الثالث)، وتسمى أيضاً بـ "يوم الحناء"، ويتم التحضير لها في ساعات الصباح الأولى، حيث يقوم شباب القبيلة بإشعال الألعاب النارية، إيذاناً ببدء مراسم الفرحة الكبرى، ويصطف الضيوف جميعاً في ميدان الفرحة منتظرين قدوم العريس.
بعد قدوم العريس يقوم أبناء القبيلة بعمل "دائرة الفرح" حوله ويؤتى بإناء كبير ملئ بمادة الحناء ويوضع أمامه، ليقوم بوضع رجليه، حينها يستل الجميع "الجنبية" (الخنجر) اليمنية ويشيرون بها إلى العريس، ويطلقون الزغاريد والأشعار المغناة والقصائد الشعبية، وتعني تلك العادة انتهاء فترة العزوبية وبدء مرحلة جديدة في الحياة.
بياض المزاحن
ويرتدي أهلها الثياب والعمامات البيضاء التي تعد عادة قديمة ومعروفة لدى أبناء المزاحن، وتحدث عمران المزحاني أحد أبناء القرية عن سبب ارتداء اللون الأبيض قائلاً إنه "الزي الموحد لأفراد قبيلته في المناسبات ومنها الأعراس. وأضاف المزحاني "لا يمكن أن تكون الأفراح إلا أبيض في قبيلتنا"، مشيراً إلى أنها عادة متوارثة عن الأجداد تعبر عن حالة النقاء والصفاء التي يعيشونها عند استقبالهم مثل هذه المناسبات.
الرقصة الرازحية
يؤدون الرقصات الشعبية، متبعين خطوات سريعة وحركات خفيفة على إيقاع الرقصة الرازحية، إذ تحط الأقدام خطاها على الأرض بخفة ورشاقة كبيرة، أما الأيدي فتحمل "الجنبية" اليمنية، وعلى إيقاع المزمار تزداد حماسة المحتفلين بالعريس.
والرقصة الرازحية مميزة عن غيرها، إذ يرى كرار غانم وهو من محترفي هذه الرقصة "إن لها حضورها الخاص في سمرات الأعراس في محافظة إب وقرية المزاحن ولا تحلو السمرة إلا بوجودها"، مشيراً إلى أنها تسمى "الثالوث الرازحي" لأنه ما يلعبها إلا ثلاثة أشخاص.
إيقاع المزمار
في الريف اليمني ارتبط المزمار (الناي) بحياة الإنسان منذ القدم، فالقبيلة تعتني بهذا الإيقاع الفني المتوارث في مواضع مختلفة ومنها طقوس الفرح، لأنه رمز اتصل بالمحبين والعاشقين، فمن خلاله يبوحون بمشاعرهم عما عانوه من مرارة البعد والفراق.
ويرى فرج المزحاني أن "وجود المزامير في الفرحة تنعش أعصاب الحاضرين، وتجعل منهم أكثر تفاعلاً في إخراج أفضل مهارات الرقص لديهم"، موضحاً أن تواجد المزمار في طقوس ومناسبات الأعراس يعبر عن الفرحة التي يجدها المحبون يوم زفافهم بعد فترة من الانتظار.
وتاريخياً كانت الآلات الموسيقية الفنية والطربية حاضرة في حياة الإنسان اليمني القديم إبان الحضارات السبئية والمعينية والحميرية، حيث شوهدت مجسمات كثيرة تدل على ذلك، منها مجسم لامرأة يمنية قديمة عمره 3000 سنة، وهي تعزف الموسيقى بآلة جمعت بين الوتر والنفخ.
لحظة فارقة
وينظر اليمنيون إلى الأعراس على أنها رمز للخلاص من حياة القفص المهجور وجعل حياة الإنسان أكثر أماناً وطمأنينة وسكينة، وحدث الزواج يسجل في الذاكرة كلحظة فارقة، وهو أحد الأحداث الوجودية الثلاثة الميلاد والزواج والوفاة التي تتحكم في حياة المرء، ويكاد يكون موازياً في عظمته لحدث الميلاد.
وتكتسب الأعراس اليمنية نكهة مميزة في محافظة إب اليمنية، فهي إلى جانب طقوسها المتنوعة وحضورها اللافت بين طوائف المجتمع، تعتبر موروثاً شعبياً يسجل من خلاله أجمل وأعذب الحكايات.
