Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أبطال رجاء عالم يبحثون عن الخلاص في "باهبل مكة"

رواية تتناول أكثر من جيل بمفهوم غير تقليدي لرواية الأجيال وتأخذنا في تاريخ المدينة المقدسة

تمنح الرواية دوراً للبطولة النسائية يتجلى في شخصيات بنات السردار والأم سكينة والجدة نازك قدمت الكاتبة لكل شخصية منهن مزايا نفسية وجسدية تميزها (لوحة غلاف الرواية – دار التنوير)

تمضي الكاتبة رجاء عالم في روايتها "باهبل مكة"، دار التنوير، في رحلة طواف مستمرة حول مدينة مكة، وإن كان هذا ما فعلته من قبل في رواية "طوق الحمام"، إلا أنها في عملها الروائي الجديد تتوغل في مسارات أكثر تشعباً على المستوى التاريخي والجغرافي، بالتوازي مع استحضار التحولات الاجتماعية وآثارها على المدينة وأهلها. إنها رواية تتناول أكثر من جيل، لكن ليس بالمفهوم التقليدي لرواية الأجيال، بل يمثل كل جيل طبقة من طبقات السرد المعبرة عن الحمولة الفكرية والثقافية للنص.

يبدأ السرد عام 2009 مع عباس، وهو أستاذ العمارة ورئيس القسم في جامعة الملك عبدالعزيز، الملقب بالسردار العلماني، الذي يمثل الجيل الحديث من أسرة السردار، وهي عائلة مكية عريقة، تمتد جذورها في المدينة حتى الجد العاشر. يمكن اعتبار عباس الخيط الأول الذي يتشعب منه السرد، فهو الشخصية التي ترمز إلى عنوان الرواية، وهو الذي تنسب إليه الكاتبة امتلاك ناصية الحكاية، تقول: "لا أدري إن كان سيعذرني عباس في تحريفي لأمور في حكايته لأبعدها عن أن تكون حكاية عائلة بعينها... من المهم الاعتراف بأن ما دفعني ابتداء للكتابة، هو هذا الغضب تجاه صرامة العبودية المبطنة التي خضعن لها، عبودية تأتي باسم الحب وباسم التكريم وصون العرض، لكنها تسحق وتطمس الهوية والوجود بجدارة. أرجو أن يغفر لي عباس تحريفي لحكايته وإفراجي عنها من غير توقع".

 

أراد عباس أن يكشف عن حكاية نساء عائلته، تحديداً عماته: نورية، وسكرية، وحورية، وبدرية، إذ لكل منهن حكاية مختلفة، وعالم داخلي متوارٍ خلف أسوار البيت الكبير، والعادات والتقاليد الصارمة. عبر كاميرا أخفاها في ساعة يده، أراد تصوير حياتهن في فيلم روائي يراه العالم. لكن هذه الأمنية العسيرة تتداخل، وتشتبك مع وقائع كثيرة، وتتشعب بين الماضي الغامض، والحاضر المتردد. لذا اتكأت الكاتبة في سردها على مجموعة من العناصر السردية التي تتداخل بين الواقعية الغرائبية، واللقطات السينمائية، والسرد الفانتازي، مع حرصها على وجود لغة تعبِّر في دلالتها عن كل مستوى في السرد، بحيث تطعم في الحوارات، خصوصاً النسائية منها، اللهجة المكية، التي جاءت في سياق يعبر عن حال الشخصيات.

يتخذ السرد الشكل الدائري، مع البدء من نقطة الحاضر مع عباس وصوت الكاتبة، ثم رجوعاً إلى الماضي وصولاً إلى حاضر من جديد. تتكون الرواية من 48 فصلاً، يحمل معظمها عناوين تدل على الحدث والزمن، منها: "كائنات نسبية مكة، منتصف ليل 4 يوليه 2009"، "خلع مكة 1949"، "زواج البنت سكتة قلبية، مكة 1951"، "جهيمان 20 نوفمبر 1979"، " زرقاء الحمامة 2005"، " جدة إكسبريس 2008"، "أفيون وأظافر يورانيوم جدة 1994"، "باليه موت البجعة قصر النزهة، مكة 1995"، "أنا لاقيت نفسي، أغسطس 2009".

 

تمنح الرواية دوراً للبطولة النسائية، يتجلى في شخصيات بنات السردار حورية، بدرية، نورية، سكرية، والأم سكينة، والجدة نازك. قدمت الكاتبة لكل شخصية منهن مزايا نفسية وجسدية تميزها، حورية جميلة جميلات مكة، صاحبة القلب الطيب والنفس النزيهة، سكرية ابنة الجارية فرح التي صبت عليها أمها الكاز وهي طفلة، كي تتخلص من عار إنجابها من رب البيت، سمتها قمرية وتم تغيير اسمها إلى سكرية، كما نصح أحد الشيوخ، معتبراً أن حالات جنونها بسبب حرارة الاسم، نورية التي لم ترزق بالأبناء، لكنها نذرت ألا تترك طفلاً عرياناً.

عباس باهبل

عنوان الرواية، اللافت للانتباه، الذي يمثل عتبة النص، يحتاج إلى تفكيك لإدراك ما في ثنايا المعنى. فالمقصود منه عباس السردار، الذي لقب "باهبل"، أي الأهبل، وعلى رغم غياب التقاطعات مع رواية "الأبله" لدوستويفسكي، فإن عباس في تمرده وجنونه استدعى شخصية الأمير ميشكين الخارج عن النسق الاجتماعي أيضاً. التوقف أمام فكرة الجنون المطروقة في الرواية مع أكثر من شخصية، تستمد حضورها من الهيمنة الذكورية القاتلة، التي تدفع النساء إلى الوقوف على حافة الجنون، والرجال إلى البحث عن طرق للتمرد.

في الفصل الثاني يُعثر على جثة عباس معلقة في الثريا، لقد اختار انتحاره بنفسه، وصل إلى القصر القديم وعلق نفسه في أنشوطة تتدلى من الثريا.

تأخذ الرواية منحى آخر منذ ولادة عباس، يتحول السرد عن العالم الداخلي الحميم للنساء، إلى واقع آخر تتداخل فيه واقعية عبثية الفانتازيا الواقعية مع أحداث خارجية في حياة أفراد الأسرة والمدينة، تؤدي إلى تحولات متلاحقة. فلا نعرف إن كان عباس مات حقاً، أم ذلك مجرد وهم! ومن هو نوري، هل هو شخص حقيقي أم هو قرين عباس، كما تقول عمته حورية؟ لذا يتبادل في بعض المقاطع صوت عباس، وصوت نوري، ولكل منهما رؤيته المختلفة للفن والحياة والموت، أما أفراد العائلة فيرون أن عباس مختل عقلي، وأن موت أمه، ثم عمته، ومرض الفتاق الذي أصيب به في طفولته هو الذي سبَّب له هذا الخلل. لنقرأ قوله:"الميت هو أنا؟ وكنت مشغولاً بالهرب في ذاكرة عماتي، في وقت كانت زوجتي وأهلي يتخلصون من آثاري. أنا الميت دفعوا حوائجي صدقة للجمعيات الخيرية وتبرعوا بكتبي وأبحاثي لمكتبة الجامعة".

أراد عباس أن يعرِض فيلماً تسجيلياً عن حياة عماته، وضع كل ما سجله على أقراص إلكترونية، كي يشارك في عرض الفيلم في مهرجان فينيسيا. العائلة تعتبر هذا الأمر فضيحة كبرى، بينما عباس المخلص لذاته يرى أنه لا عائق يقف أمام الإبداع، لذا من حقه أن يكشف كل الخبايا، التي يرى أنه من المهم كشف عنها للعالم كله، تاريخ نساء عائلة سردار، الذي يتماس مع تاريخ مدينة مكة، ويتشابه معها في التحولات التي حدثت. يقول "كانت عملية مسح للشريط الذي اسمه عباس باهبل العمدة القطب الزيبق، الذي نصفه خنثى اسمها نوري، هكذا هذه الدنيا! ألقاب تحرق دمنا تخسف بنا الأرض وترفعنا لسابع سما، لعبة يضحكون بها علينا عشان نتسابق للألقاب ونهايتها مساحة تمسح كل آثارك بحجة الصدفة وحجة نلحقه بالثواب... أتخيل جسدي المشنوق مصبوباً في قالب زجاج مثل جدارية الشكمان، ويعرضونها بمجلس أبويا، وليرقب الذين شككوا في فني، كيف يتفاعل جسدي فنياً في موته".

جمعت الكاتبة في شخصية عباس عدة أبعاد نفسية وفلسفية واجتماعية، إنه الرجل المعماري، الفنان، المتمرد، المنفصم، الذي تعرض للسخرية من رفاقه وهو طفل، من يملك مفاصل حكايات بعيدة عن البيت الكبير وأهله، عن سيدات الدار اللاتي ظللن مسجونات وراء كلمة "عيب"، وكلمة الرجال التي تسقط عليهن مثل القضاء والقدر الذي لا سبيل لرده. عباس يعرف أسرار المدينة وتحولاتها، وهذا ما حاول تسجيله في فيلمه، خصوصاً الأحداث التي تتعلق بالماضي وحتى سنوات التسعينيات.

تزيد الكاتبة من البعد التخييلي، مع تحررها من واقعية الحدث في الفصل الأخير الذي اختارت له عنوان "امتداداً للنهاية"، حين تقول: "لا أريد لمن يقرأ باهبل أن يعلق برأسه سؤال: من الحي ومن الميت؟ من المنفصم ومن أحادي الشخصية؟ وهل الفصام ازدواج في الكينونة أم تبعثر؟ وإلى أين الحياة وإلى أين الموت أو أين تنسانا المقابر ويبتلعنا الحوت؟".

هالة المدينة

في الفصل الذي يحمل عنوان "جهيمان 20 نوفمبر 1979"، تعود الكاتبة في سيرة مدينة مكة، إلى حدث تاريخي مؤثر، لا يمكن إغفاله، وقع عام 1979، حين اقتحم الحرم المكي أكثر من 500 مسلح، تسلقوا المنارات وانتشروا في الأروقة، وأوصدوا أبواب الحرم التي لم توصد من قبل في وجه قادم، مطالبين الإمام محمد السبيل بالاعتراف بظهور المهدي المنتظر الذي جاء برفقتهم. تقول: "مرَّ أسبوعان بطول دهر من الحصار وتعطلت الصلوات بقبلة المسلمين وضج العالم الإسلامي بالاحتجاج. أخيراً استصدرت فتوى بإباحة إخراج المسلحين بالقوة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تربط الكاتبة بين هذا الحدث الجلل، وأثره على أبطال الرواية، إذ تموت في هذه الحادثة إحدى سيدات عائلة السردار، وعباس الذي كان طفلاً صغيراً في ذاك الوقت، تتداخل في ذاكرته تفاصيل أيام الحصار، هل كان برفقة عمته حقاً، أم إنه يتوهم. أما أهل البيت الكبير فيعانون السجن داخل حدود البيت، والخوف من انتهاء المؤن.

لا يمكن إغفال قوة تأثير حضور المكان في هذا العمل الروائي، أرادت رجاء عالم أن تروي سيرة مكة، المدينة المقدسة التي يأتي إليها الحجيج من مختلف بقاع الأرض، يبذلون من أجل الوصول إليها كل غال ونفيس، بغية نيل الغفران، والحصول على الشفاعة، والسكينة الروحية. لكن هذا ليس كل شيء، لأن مكة في الواقع مترامية الأطراف مكانياً، حاملة لحكاياتها المخبوءة وراء كل حجر، كما أنها مدينة متعددة الطبقات اجتماعياً. كل هذا يجعل منها مدينة بأبعاد كثيرة يصعب الإحاطة بها كلها، يسري في شرايينها العالم كله، ليجمع بين الحياة والموت، بين المقدس والدنيوي، بين الصوفي والفانتازي، بين القدم والحداثة.

لكن الكاتبة كما لو أنها تسعى إلى الحفاظ على مكة القديمة المحفورة في داخلها، التي تبدو بعيدة الآن عن الحضور الفعلي، إذ تسلل إليها واقع معاصر، يتماهى مع التغيرات الكبيرة التي حصلت. مكة الجديدة هي مدينة حديثة، بطراز معماري مختلف، فيها مبان مرتفعة، وأبراج شاهقة مشيدة بما يتلاءم مع طرز العولمة المتشابهة في كل مدن العالم الكبرى، أما مكة التي في ذاكرة الكاتبة، فهي في الطبقات التحتية من الحكايات والذاكرة، لا سبيل للحفاظ على وجودها إلا عبر تجليات الكتابة.

المزيد من ثقافة