Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"مجتمع الميم" يطلق عاصفة داخل الكنيسة الكاثوليكة

هل سمحت وثيقة البابا فرنسيس بزواج المثليين أم اكتفت بفكرة منح "البركات الصغيرة"؟ وما الموقف اللاهوتي التاريخي من الشذوذ الجنسي؟

طرحت قضية المثلية ذاتها بقوة داخل أركان الكنيسة الكاثوليكية في الربع الأخير من القرن الـ20 بنوع خاص (غيتي)

ملخص

هل سمحت وثيقة البابا فرنسيس بزواج المثليين أم اكتفت بفكرة منح "البركات الصغيرة"؟ وما الموقف اللاهوتي التاريخي من الشذوذ الجنسي؟

قبل بضعة أيام من نهاية العام السابق، امتلأت وسائل الإعلام التقليدية، ووسائط التواصل الاجتماعي، بالحديث عن الذي فعله البابا فرنسيس، عبر منشور يسمى Fiducia Suplicans"، الذي يتهم بفكرة توزيع البركات على المؤمنين، لا سيما البركات الصغيرة.

فهم الإعلام العالمي، إلا القلة القليلة، أن المنشور يعني أن البابا قرر السماح للمثليين بأن يتزوجوا زواجاً شرعياً داخل الكنيسة، وأنه بذلك أنهى رفضاً قائماً في تعاليم الكنيسة الكاثوليكية عبر ألفي سنة، كان ينظر خلالها إلى المثليين، نظرة متدنية باعتبارهم خطاة، وأنه لا مكان لهم في بيت الرب أي في الكنيسة.

هل قام فرنسيس بذلك بالفعل، وهل يملك في واقع الأمر أية صلاحيات تجعله يخالف نصوص الكتاب المقدس، التي تمنع الزواج المثلي، وتعتبره خارجاً عن أسرارها الروحية، وممارساتها الطقسية؟

للوصول إلى قراءة معمقة حول الوثيقة الجديدة التي قدمها فرنسيس، ربما يتوجب علينا الإجابة عن أسئلة عدة، في المقدمة منها: ماذا عن تاريخ العلاقة بين الكنيسة الكاثوليكية، وبين المثليين منذ مئات السنين بنوع خاص، ومن خلال المجامع الكنسية الكبرى؟ وهل حدث في لحظة بعنيها أن قبلت بهذا الأمر؟ ثم هل قبل جميع الكاثوليك في العالم وثيقة البابا الأخيرة أم هناك من رفضها؟ وما مستقبل تلك الأفكار التقدمية التي يحملها فرنسيس على كاهليه؟ وإلى متى يتسبب في إحراج التيار المحافظ داخل صفوف الفاتيكان؟

الكاثوليكية وحظر المثلية الجنسية

يبدو واضحاً، ومن غير الإغراق في الدخول إلى عمق النصوص الكتابية الخاصة بالحياة الجنسية للبشر، أن الكنيسة الكاثوليكية ترفض الشذوذ والإباحية الجنسية، وتعتبره أمراً خارج الناموس الطبيعي، أي الاتحاد الشرعي بين رجل وامرأة، وهذا وفقاً لنصوص العهدين القديم والجديد، حيث عشرات بل مئات الآيات التي تقطع بذلك.

ورثت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، إرثاً صعباً وثقيلاً من الإمبراطورية الرومانية، التي سفكت دماء المسيحيين الأوائل، ولم تسمح بحرية العبادة إلا في القرن الثالث الميلادي.

مع ذلك، ظلت بعض العادات الموروثة من الرومان، ومنها تعدد الخليلات وزوجة واحدة، ومنها أيضاً امتلاك الجواري، والخصيان، عطفاً على المثلية والفجور الجنسي بكل أبعاده.

في وقت مبكر من القرن الخامس الميلادي، وعبر ما يعرف بمجمع "ألفيرا"، الذي شارك فيه البابا والأساقفة، حظر الشذوذ المعروف بـ"الصادومية"، نسبة إلى "أهل صادوم وعمورة"، أي قوم "لوط".

لاحقاً وفي العصور الوسطى شجع رجال الدين الكاثوليك بشكل متزايد مطارة المثليين، وتسليمهم إلى السلطات المدنية  لمعاقبتهم، ونعرف أن محاكم التفتيش حاكمت ما يقارب ألف شخص في أسبانيا بتهمة الصادومية.

في أوائل القرن الـ11، وصف البابا ليو التاسع المثلية الجنسية في القرن الـ11 أنها قذرة ورذيلة مريعة، بل وفاحشة، فيما ندد مجلس لندن عام 1102 الذي دعا إليه رئيس الأساقفة الإنجليزي الكاثوليكي "أنسلم" من كانتربري، صراحة بالسلوك المثلي باعتباره خطيئة للمرة الأولى في مجلس إنجليزي.

أما البابا الكسندر الثالث الذي ترأس مجمع لاتران الثالث في روما عام 1179، فأصدر مرسوماً يقضي بإقالة جميع  المذنبين بالصادومية من مناصبهم أو حصرهم في حياة التوبة  في دير، إذا كانوا رجال دين، وأن يكون منبوذاً بشكل صارم، إذا كان مدنياً، وجاء نص القرار مخيفاً كالتالي: "فليطر كل من دين بارتكاب تلك الرذيلة غير الطبيعية التي نزل بها غضب الله على أبناء العصيان ودمر المدن الخمسة بالنار".

يعن لنا أن نتساءل: هل جديد المؤسسة الرومانية الكاثوليكية، في نظرتها وأفكارها للمثلية الجنسية، يختلف كثيراً عن ماضيها، حتى وإن ظلت أزمة الصادومية وغيرها من الموبقات الجنسية حاضرة في السياقات الأوروبية المعاصرة؟

المثلية تعارض تعاليم الكنيسة رسمياً

طرحت قضية المثلية ذاتها بقوة داخل أركان الكنيسة الكاثوليكية في الربع الأخير من القرن الـ20 بنوع خاص، وكأنها وجدت نفسها في مجابهة مع التيارات العلمانية  المنفلتة التي ذاعت وشاعت في ستينيات القرن الماضي، في أوروبا وأميركا على حد سواء.

على سبيل المثال في عام 1975، انخرط مجمع "العقيدة والإيمان"، الذي يعد أعلى سلطة كنسية تقرر العقائد التي تهم حياة المؤمنين، في مناقشة هذه الأزمة، وأصدر تالياً وثيقة  تتضمن التعامل مع الأخلاق الجنسية، وذكر فيها صراحة أن "قبول النشاط الجنسي المثلي، أمر يتعارض مع تعاليم الكنيسة  وأخلاقها".

وبحلول يناير (كانون الثاني) من عام 1976، نشر مجمع العقيدة والإيمان تحت قيادة البابا بولس السادس وثيقة PERSONA HUMANA، أو "الشخص البشري"، التي قننت التعاليم ضد جميع أنواع الجنس خارج إطار الزواج، بما في ذلك الجنس المثلي، وكررت الإدانة التقليدية للأفعال  الجنسية التي لا يمكن أن تحظى بأية موافقة تحت أي ظرف من الظروف، حتى لو اقترحت المحكمة في إسناد المسؤولية الكاملة عن هذه الأفعال إلى المثليين جنسياً أنفسهم، ومع ذلك انتقدت أولئك الذين جادلوا بأن المثلية الفطرية تبرر النشاط المثلي في إطار علاقات المحبة.

تالياً لخص التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية في عام 1992، موضوع المثلية الجنسية في الجزء المتعلق بالحياة المسيحية، وبنوع خاص تجاه الوصية السادسة من الوصايا الـ10: "لا تزن"، فاعتبر أن "الأفعال الجنسية المثلية - أو بتعبير أدق، يمكن القول - إن الأفعال الجنسية المتجانسة هي في جوهرها مضطربة وخطايا خطرة ضد العفة، لأنها تتعارض مع القانون الطبيعي ولا تنطلق من التكامل الحقيقي".

وبالوصول إلى عام 2003، وبالتحديد في شهر يونيو (حزيران)، نشر مجمع العقيدة والإيمان وثيقة حددت منذ البداية أنها لا تحتوي على عناصر عقائدية جديدة، لكنها تذكر بالنقاط الأساسية حول المشكلة المعنية، وتقدم الحجج المنطقية  المفيدة لرفض المثلية الجنسية، وتركز على رفض فكرة التسامح التي تسمح بمزيد من قبول المثليين أو مساواتهم قانونياً مع الأزواج الشرعيين، وتقطع عليهم الحقوق المترتبة  على الزواج بحسب الناموس الطبيعي، وأكدت أنه من الضروري المعارضة بشكل حاسم وواضح، وأنه يتوجب على المرء الامتناع عن أي نوع من التعاون الرسمي في إصدار أو تطبيق أي قوانين تجعل من ارتباط المثليين نوعاً من أنواع الزواج الرسمي المعترف به كنسياً.

هل انقلبت الكنيسة على تعاليمها القديمة التي تعود إلى ألفي عام بمجرد وصول البابا فرنسيس إلى كرسي مار بطرس؟

هذا التساؤل شاغب عقول كثيرين ممن تابعوا بدايات الرجل القادم من الأرجنتين، وللمرة الأولى في تاريخ البابوية يحتل أحد أساقفة أميركا اللاتينية هذا الموقع، ومع رؤاه التقدمية  المختلفة تماماً عن رؤى المحافظين، بدا واضحا أن هناك أمراً مختلفاً سيطرأ على مفاهيم قضية المثلية الجنسية. ماذا عن هذا؟

فرنسيس ورؤية تقدمية لمسألة المثلية

مرة جديدة يرتفع التساؤل: هل سمح فرنسيس بزواج المثليين، وهل مواقفه السابقة يمكن أن تقودنا إلى مثل هذا الفهم لا سيما في ضوء رؤاه التقدمية، وهو الرجل الذي تحدث منذ بدايات حبريته بالقول: "من أنا لكي أدين الآخرين"؟ في رده على أوضاع المثليين الذي صاروا علامة مؤكدة في عالمنا المعاصر.

نقرأ في الإرشاد الرسولي المعنون "فرح الحب"، الصادر عام 2016 عن البابا نفسه ما يلي: "إن الزواج في تعليم الكنيسة، ثابت وغير متغير، وهو فقط اتحاد رجل وامرأة فقط لاغير".

ومع ذلك فإن عبارات فرنسيس حملت رؤية مفاهيمية مغايرة  في هذه الوثيقة، منها قوله على سبيل المثال: "إننا نرغب في أن نؤكد مجدداً على أن كل شخص بغض النظر عن ميوله الجنسية، يستحق احتراماً وكرامة، وقبوله باحترام، وبالعناية  التي تتجنب أي شكل من أشكال التمييز الظالم، وخصوصاً جميع أشكال العدوانية والعنف".

ويضيف: "ينبغي بالنسبة إلى تلك العائلات توفير مرافقة تقوم على الاحترام، حتى يتمكن الأفراد الذين يظهرون ميلاً جنسياً  مثلياً من الحصول على المساعدات الضرورية لعيش حياتهم بشكل كامل وكريم".

كانت هذه واحدة من آراء فرنسيس التي جعلت كثيرين يتساءلون: هل هذا الأمر هو بداية للتساهل مع زواج المثليين، على رغم الرفض الواضح والصريح لاعتبار اتحادهم زواجاً مقدساً؟

بحلول عام 2020 عرض فيام وثائقي بعنوان "فرانشيسكو" في مهرجان روما السينمائي، تناول موقف البابا الأرجنتيني  من الأزمات الراهنة في عالمنا المعاصر.

في أحد مقتطفات الفيلم يقول فرنسيس: "يحق للمثليين أن يكونوا ضمن العائلة. إنهم أبناء الله. ولديهم الحق في أن ينتموا لعائلاتهم. لا يمكن طرد أحد من العائلة أو جعل حياته بائسة  لسبب مماثل. يجب أن تكون هناك تشريعات لشراكات مدنية، وبذلك يحظون بتغطية القانون".

والشاهد أن وسائل الإعلام اختلفت في شأن الترجمة الدقيقة لهذا الكلام عن لغة الأصل، غير أن كثيرين اعتبروا أن هذا  التصريح لا يتضمن موقفاً سلبياً من ارتباط المثليين، سواء قصد حقهم بتأسيس عائلة، أو حقهم بالانتماء إلى عائلاتهم التي ولدوا فيها.

لم يكن الخلاف حول تصريحات فرنسيس ضمن سياق الآخرين، من العلمانيين أي غير الإكليروس من الرهبان والراهبات فحسب، بل طاول قيادات دينية كبرى من نوعية الكاردينال الأميركي رايموند بيرك، المعروف بمواقفه السلبية من البابا فرنسيس، فوجه انتقاداً علنياً للحبر الأعظم قائلا "إن ما نقل عنه يضاعف الارتباك في أوساط الكاثوليك ويثير حيرتهم".

مضى فرنسيس في طريق كثير من البلبلة في إطار هذه القضية، ففي نهاية يناير (كانون الثاني) 2022 برز له تصريح جديد طالب فيه بوقف تجريم المثلية الجنسية واصفاً  هذه القوانين بغير العادلة، "كون الله يحب جميع أبنائه تماماً كما هم"، الأمر الذي طرح من جديد تساؤلات مزعجة لمليار و400 مليون كاثوليكي حول العالم، من نوعية القبول التدريجي في الكنيسة الكاثوليكية للمثليين جنسياً؟

هل جاءت الوثيقة الأخيرة الخاصة بالبركات الصغرى، التي يمكن منحها للمثليين، لتتسبب في حال من حالات الهلع وليس القلق في أرجاء العالم كافة؟

البركات الصغيرة أو Fiducia Suplicans

ما الذي جاء في الوثيقة الأخيرة التي أثارت نوعاً من البلبلة  الفكرية حول تغير موقف المؤسسة الرومانية الكاثوليكية من قضية ارتباط المثليين؟

يمكن القول وباختصار غير مخل، إنها تسمح بإمكان منح البركة للأزواج المثليين، لكن خارج أي طقوس أو تقليد لحفلة الزفاف، واعتبار أن عقدية الزواج الطبيعي هي الأصل الذي لا يتغير، وهذه البركة الصغيرة لا تعني أبداً الموافقة على هذا  النوع من أنواع الارتباط.

تقول الوثيقة إنه أمام طلب شخصين للبركة، حتى لو كانت حالتهما الزوجية "غير منتظمة"، سيكون من الممكن للكاهن أن يوافق، ولكن عليه أن يتجنب أن تحتوي بادرة القرب الرعوية هذه على عناصر تشبه ولو من بعيد رتبة الزواج.

هذا هو جوهر ما ورد في هذه الوثيقة المثيرة للشك تارة وللحيرة من عدم فهمها تارة ثانية، ويفتتح إعلان الوثيقة بمقدمة عميد مجمع العقيدة والإيمان الكاردينال فيكتور مانويل فرنانديز، الذي يوضح أن الإعلان يتعمق في "المعنى الرعوي للبركات"، مما يسمح "بتوسيع وإغناء الفهم الكلاسيكي لها من خلال تأمل لاهوتي، يقوم على الرؤية الرعوية للبابا فرنسيس، تأمل يتضمن تطوراً حقيقياً مقاربة  بما قيل عن البركات حتى الآن للوصول إلى فهم إمكان منح البركة للأزواج الذين يعيشيون في أوضاع غير نظامية  والأزواج المثليين، من دون الموافقة على وضعهم بشكل رسمي أو تغيير تعليم الكنيسة الدائم حول الزواج بأي شكل من الأشكال".

هل في هذا النص ما يشير إلى تغيير رؤية الكنيسة لزواج المثليين؟

يحلل الفصل الكبير الثاني من الوثيقة (الفقرات 7-30) معنى  البركات المختلفة المخصصة للأشخاص وأغراض العبادة وأماكن الحياة. وتذكر الوثيقة أن البركة "من وجهة نظر ليتورجية (طقسية شعائرية)، تتطلب أن يكون ما تتم مباركته متوافقاً مع إرادة الله التي يعبر عنها في تعاليم الكنيسة".

هنا فإنه عندما يتم من خلال ليتورجية خاصة، طلب البركة  على بعض العلاقات البشرية، فمن الضروري أن "يكون ما يبارك قادراً على أن يتوافق مع مخططات الله المكتوبة في الخليقة، ولهذا لا تملك الكنيسة السلطة على أن تمنح البركة الليتورجية للأزواج غير النظاميين أو المثليين، ولكن يجب أن نتجنب خطر اختزال معنى البركات في وجهة النظر هذه فقط، وندعي أن يكون في البركة البسيطة "الشروط الأخلاقية عينها التي تطلب لنوال الأسرار".

وبلغة لاهوتية عميقة تتسق والفكر الإيماني الكاثوليكي، فإن  الوثيقة تقول "إنه بعد دراسة البركات الموجودة في الكتاب المقدس، ينبغي علينا أن نفهم فكرة البركات"، لاسيما أن الذي يطلب البركة "يظهر أنه في حاجة إلى حضور الله الخلاصي في تاريخه"، لأنه يعبر عن "طلب المساعدة من الله  والتماسها لكي يتمكن من أن يعيش بشكل أفضل"، وبالتالي يجب قبول هذا الطلب وتقديره "خارج الإطار الليتورجي  عندما يأتي بطريقة عفوية وحرة". وبالنظر إلى هذه البركة من منظور التقوى الشعبية، "يجب تقييم البركات على أنها أفعال عبادة"، وبالتالي لمنحها، ليس من الضروري اشتراط "الكمال الأخلاقي" بشكل مسبق.

إلى أي مدى حدث وفاق وافتراق حول هذه الوثيقة؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عن صاحب الوثيقة والرافضين لها

بدت الوثيقة المشار إليها وكأنها قنبلة انفجرت في وجه كثيرين، لا سيما في دول العالم الثالث أو الدول النامية كما يسميها بعضهم.

جاء الرفض الأول من أساقفة الكاميرون الكاثوليك، الذين اعتبروا المثلية الجنسية، نوعاً من تزييف الأنثروبولوجيا البشرية، وتستخف بالجنس والزواج والأسرة، أساس المجتمع. وفي الثقافة الأفريقية، لا تشكل هذه الممارسة  (الشاذة) جزءاً من القيم الأسرية والاجتماعية، بل إنها انتهاك صارخ للتراث الذي أورثه لهم أجدادهم.

الأساقفة الكاميرونيين، اعتبروا في ردهم أن المثلية الجنسية  ليست حقاً من حقوق الإنسان، بل إنها خلل يلحق ضرراً بالغاً بالإنسانية، لأنه لا يرتكز على أية قيمة خاصة بالإنسان، ووصفوا الفعل بأنه "رجاسة".

والخلاصة عندهم جاءت منافية ومجافية لفرنسيس ووثيقته بالقول الصريح: "إننا نحظر رسمياً جميع بركات ’الأزواج المثليين‘ في الكنيسة الكاثوليكية في الكاميرون".

الأمر نفسه انسحب على أساقفة زامبيا، إذ قال مؤتمر الأساقفة هناك إن بركات الزوجين المثليين "ليست قابلة  للتنفيذ في زامبيا"، وأن البركات من أي نوع لن يسمح بها.

هل كانت هناك أصوات أوروبية تمضي في السياق عينه؟

نعم ذلك كذلك، فقد قال مؤتمر الأساقفة البولنديين، وهو من أكثر المؤتمرات المحافظة في أوروبا ونقطة مرجعية خارج القارة نظراً إلى انتماء البابا يوحنا بولس الثاني لهم، إنه ليس لديهم خطط لمنح البركات للأزواج المثليين.

وأكد المؤتمر أن الزواج يظل مجرد اتحاد بين رجل وأمراة، وأن الأفعال الجنسية خارج هذا الزواج هي دائماً جريمة ضد إرادة الله، والعهدة على بيان المتحدث باسم الأساقفة البولنديين الأب ليزيك جيسياك.

جاءت كذلك بعض أقوى الاعتراضات من منتقدي فرنسيس التقليديين، إذ قال الكاردينال الألماني جيرهارد مولر، الذي ترأس مجمع العقيدة والإيمان سابقاً، إن الإعلان "متناقض ذاتياً لأنه لايزال يقول إن العلاقات المثلية تتعارض مع شريعة الله، بينما تسمح للأزواج المثليين بالحصول على  البركة".

وكتب مولر في مقالة نشرت في وسائل الإعلام الدينية يقول: "لا يمكن للكنيسة أن تحتفل بشيء وتعمل شيئاً آخر".

فيما وصف الأسقف الكازاخستاني اثناسيوس شنايدر،  الذي عارض منذ البداية ميل فرنسيس التقدمي، الوثيقة لأنها "خداع عظيم"، وقال إنه يجب على الكهنة أن يكونوا على دراية "بالشر الكامن في السماح بمباركة الأزواج الذين هم في أوضاع غير قانونية والأزواج المثليين".

وفي المملكة المتحدة، أصدرت منظمة تمثل نحو 500 كاهن كاثوليكي في بريطانيا رسالة موقعة تؤكد من جديد تعاليم الكنيسة في ما يتعلق بالزواج والارتباط بين المثليين، وتشير إلى أن هذه الوثيقة تحدث ارتباكاً واسع النطاق.

وفي مواجهة هذه الموجة العارمة من الرفض، أكد الكاردينال   فرنانديز، عميد مجمع العقيدة والإيمان، على تعاطفه مع عديد من البلدان التي يوجد فيها تشريعات تعاقب بالسجن بمجرد إعلان الشخص عن كونه مثلياً، مشدداً على أن التوجيهات الواردة في الوثيقة في كل الأحوال، لا تحيد عن العقيدة الكاثوليكية إذا تمت قراءة النص بتصرف متساو.

لكن وعلى رغم هذا الرافض الواضح، هل من أصوات مغايرة رحبت بالوثيقة الجديدة؟

الألمان يرحبون بنوع خاص بالوثيقة

يحتاج الحديث عن الكنيسة الكاثوليكية في ألمانيا، إلى حديث قائم بذاته، سيما في ظل الخلافات العديدة مع الفاتيكان، مما يكاد ينذر بنوع جديد من الانشقاقات، ربما على مثال انشقاق مارتن لوثر، في القرن الـ16، مما خلق التوجه البروتستانتي الذي اقتطع قطعاً من الجسد الكاثوليكي.

قبل الوثيقة، في فبراير (شباط) من عام 2022، دعا رئيس التجمع الأوروبي للأساقفة الكاثوليك الفاتيكان للانفتاح على المثليين، وطالب الكاردينال الليبرالي هوليريش بمراجعة الأساس الاجتماعي العلمي لكل ما يدرس كاثوليكياً في شأن  المثلية الجنسية، وأشار إلى أن موظفي الكنيسة المثليين يجب ألا يفقدوا وظائفهم، وهو ما حدث في بعض البلدان، ولاسيما  الولايات المتحدة.

من هذا الموقف، ومواقف مماثلة، يتفهم القارئ لماذا أشاد سفين ليمان مفوض الحكومة الألمانية لشؤون مجتمع الميم بوثيقة البركات الصغيرة الأخيرة، التي اعتبرها "إشارة  تأخرت طويلاً"، وبالتالي سيحظى بالدعم من كل ألمانيا، "لاسيما الذين يرغبون في مباركة الشركاء مثليي الجنس".

ليمان السياسي المنتمي لحزب الخضر أضاف: "لا يوجد حب من الدرجة الأولى، وآخر من الدرجة الثانية، يوجد الحب وحسب"، ومع ذلك لايزال ليمان يعتبر أن هناك تفريقاً كنسياً  بين ما يسمى شراكات منتظمة، وشراكات غير منتظمة  بحسب الكنيسة الكاثوليكية.

إلى أين يمضي هذا الخلاف الذي يبدو للعالمين ببواطن شؤون الفاتيكان مثيراً وخطراً؟ وهل سينجح المحافظون من المؤسسة العريقة عما قريب في إلغاء هذه الوثيقة، لا سيما حال رحيل فرنسيس، سواء بيد المنون، أو بالاستقالة جراء أوضاعه الصحية؟

الذين لديهم علم من كتاب سيرة ومسيرة الفاتيكان، يدركون تمام الإدارك أنه حال وصول بابا محافظ للكرسي الرسولي، فإن كثيراً، بل كثيراً جداً من القرارات التي اتخذها فرنسيس، ذات الملمح والملمس الاجتماعي التقدمي واليساري، ستكون محل إعادة نظر.

المزيد من تقارير