ملخص
هل هو قتل رحيم حقاً؟ جدل أخلاقي في الولايات المتحدة حول الإعدام بالغاز
لا أحد سيعود من الموت ليخبر من نفذوا فيه حكم الإعدام أنهم كانوا على خطأ حينما اختاروا أكثر الطرق تعذيباً لإنهاء حياته ظناً منهم أنها أكثر رحمة، لهذا توالت طرق الإعدام القانونية التي اختبرتها البشرية على المحكوم عليهم علها تصل لأسلوب أقل معاناة للضحية، وهكذا تم تجريب الشنق وتقطيع الأوصال وإطلاق الرصاص والحرق والكرسي الكهربي والحقن القاتلة وحتى الغاز السام، الذي للمفارقة عاد مرة أخرى وإن لم يكن بالطريقة ذاتها، باعتباره أفضل ما توصلت إليه الجهات المعنية في ولاية ألاباما الأميركية في قائمة "القتل الرحيم" للمحكومين بالإعدام، ومن المنتظر أن تجرى أول عملية من هذا النوع قريباً جداً على القاتل المأجور كينيث يوجين سميث الذي دين عام 1988 وينتظر منذ عقود طويلة تنفيذ الحكم.
هذه المرة سيستنشق المحكوم غاز النيتروجين من خلال قناع محكم لدقائق عدة وبعدها يفارق الحياة، وسط ترويج له بأنه من أيسر الوسائل وأقلها كلفة وأكثرها توافراً وقبل ذلك أبسطها إيلاماً، وهو بديل ملائم للحقنة القاتلة التي فشلت في أداء غرضها مراراً، ومنها بالنسبة إلى سميث نفسه الذي نجا منها في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام قبل الماضي.
في المقابل تبدو التحفظات كثيرة للغاية على طريقة الخنق المعتمدة منذ أعوام في الولاية، في حين أن التاريخ يقول إنها تبدو شبيهة كثيراً بطريقة الإعدام بالغاز السام من طريق الغرف المغلقة المليئة بثاني أكسيد الكربون، التي استخدمت في الدولة نفسها قبل 100 عام تقريباً، فعلى رغم التطوير التكنولوجي تعيد أميركا إنتاج نفسها وتستلهم طرقاً كانت توصف في الماضي بالتعذيبية بحجة نقيضة تماماً وهي أنها أكثر رفقاً.
الغاز السام يعود
استخدام غازات سامة بينها أول أكسيد الكربون وغيرها كان معمولاً بها في الغرب الأوروبي لا سيما في ألمانيا النازية التي ساعدتها في عمليات التطهير العرقي، وكذلك في الولايات المتحدة، لكن مع حظر عقوبة الإعدام في غالبية دول أوروبا بعد نضال امتد منذ ستينيات القرن الماضي، يكافح نشطاء مناهضون لتلك العقوبة من أجل إلغائها في الولايات المتحدة الأميركية، لكن هناك ما يقارب 30 ولاية تعتمده، من بينها ألاباما التي يتشبث المسؤولون بها بتنفيذ خطط الإعدام بغاز النيتروجين لقائمة المحكومين المنتظرين، بعد أن أصدرت المحكمة الجزئية بوسط ألاباما أمراً قضائياً بمنع سلطات الولاية من اللجوء إلى وسائل بديلة عن النيتروجين في عمليات الإعدام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما كينيث يوجين سميث البالغ من العمر 58 سنة، الذي ينتظر الإعدام خنقاً بالنيتروجين في 25 يناير (كانون الثاني)، أصبح هو الأول بالصدفة حيث كان سيسبقه يوجين ميلر المدان بقتل ثلاثة أشخاص قبل 25 عاماً، لكن مع موعد التنفيذ المقرر في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2022 أعلن المسؤولون في ولاية ألاباما أنهم غير مستعدين لعملية الإعدام بغاز النيتروجين بعد، ولجأوا إلى الوسيلة المعمول بها وهي الحقنة القاتلة التي تتضمن مزيجاً من العقارات المميتة التي تسري في العروق وتسبب عديداً من الآثار الجانبية بينها الشلل وتوقف القلب ثم الوفاة، حيث استخدمتها الولايات المتحدة بعد التوقف عن استخدام الكرسي الكهربائي في سلب حياة المحكوم عليهم بالإعدام باعتباره وسيلة وحشية.
لكن الحقنة السامة نفسها تعرضت لانتقادات، حتى إن الآن يوجين ميلر الذي كان مقرراً أن يكون أول من يعدم بالنيتروجين، قدم محاموه طعناً يطالب بالتوقف عن استخدام تلك الطريقة باعتبارها منافية لحقوق الإنسان، وقبلت المحكمة العليا في المقابل طعن الولاية على هذا الطلب، لكن لم يجر تنفيذ عملية الإعدام حينها نظراً إلى عدم وجود وريد صالح في جسد المدان لتنفيذ العملية، وهي تحولات درامية رافقت كثيراً من المحكومين بالإعدام في الولايات المتحدة، نظراً إلى أن الدفع بأن هناك آلاماً مبرحة يعانيها المدان أمر يتكرر كثيراً ويدفع به محامو الدفاع وفقاً لشهادات وتجارب كثيرة ذات سند، وذلك منذ تطبيقه في أميركا لأول مرة منذ عام 1982 خلفاً للكرسي الكهربائي الذي على رغم سمعته السيئة والعنف المصاحب لطريقة عمله فإنه لا يزال مفضلاً لدى بعض المدانين، حيث اختاره عدد من المحكومين بينهم ديفيد إيرل ميلر عام 2018 بعد أن قضى أكثر من 36 عاماً ينتظر الحكم بإعدامه على خلفية إدانته بقتل شابة تعاني إعاقة عقلية، وقد وجد الكرسي أكثر رأفة من المعاناة جراء الحقنة السامة، حيث تتيح بعض الولايات الاختيار بين القتل بالرصاص أو بالحقن بناء على طلب المحكومين، لا سيما من أدينوا قبيل اعتماد وسيلة الحقنة الكيماوية السامة، وكذلك في حال عدم توافر مواد القتل بالحقن.
الجدل حول عدم إنسانيتها بسبب وجود حالات معاناة طويلة الأمد، جعل شركات الأدوية نفسها تحجم عن تصنيع هذه الحقن، وبينها "فايزر" التي وضعت ضوابط هائلة لعدم استخدامها في مثل تلك العمليات، معتبرة أن ابتكاراتها تصنع لتحسين جودة الحياة وليس إنهاءها، ونظراً إلى تزايد الحملات الداعية لوقف تلك العقوبة برمتها خصوصاً مع تقارير أوردتها وسائل الإعلام الأميركية تشير إلى أن أكثر من 170 شخصاً تمت تبرئتهم بعد أن أدينوا خطأ وحكم عليهم بالإعدام منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن، وأيضاً وسط اتهامات بأن الغالبية ممن ينتظرون حكم الإعدام هم من ذوي العرق الأسود وأن شوائب عنصرية تطاول عمليات محاكمتهم، مما يشكك في الآلية التي تعمل بها منظومة العدالة برمتها.
طريقة موت مثالية
بالتالي يواجه تنفيذ بروتوكول الإعدام خنقاً بقناع النيتروجين عاصفة من الجدل والترقب والقلق، إضافة إلى تحذيرات متتالية تطلقها منظمات حقوقية وعديد من خبراء الأمم المتحدة، حيث أصدر أربعة منهم بياناً رسمياً عبروا فيه عن تمنياتهم بتراجع الولاية عن تطبيق تلك العقوبة بهذا الشكل، ومما جاء في البيان، "نعبر عن قلقنا من أن الإعدام من طريق الاختناق بالنيتروجين سيسفر عن موت مؤلم ومهين"، مشيرين إلى أنها أمور تتنافى مع مبادئ منع التعذيب التي أقرتها المواثيق الدولية.
ووصف فريق الدفاع عن المدان هذه الوسيلة بأنها غير معتادة وتتعارض مع مبادئ الدستور الأميركي، لما تنطوي عليه من آلام مبرحة متوقعة، حيث تقضي العملية بسحب الأوكسجين تدريجاً على أن يحل محله النيتروجين ويستنشقه الضحية حتى تمتلئ به رئتاه ومن ثم يفقد القدرة على التنفس.
في المقابل يعتقد فريق آخر أنه طريقة غير مؤلمة، فوفقاً للتجارب التي أجريت على الحيوانات فإن الموت يحدث خلال بضع ثوان، وبحسب ما قاله أحد نواب حزب المحافظين السابقين في بريطانيا وهو مايكل بورتيلو لـ"بي بي سي" فإنه يعتبرها وسيلة مثالية للقتل، لكن خبراء أشاروا إلى أن النظرية مختلفة عن التطبيق فقد لا يأخذ المدان نفساً عميقاً في بادئ الأمر مما يطيل أمد العملية بشكل غير متوقع، من ثم يتعرض لمزيد من الآلام الشديدة القسوة، وهذا ضد المبدأ الذي أقرت لأجله من الأساس.
كما حذر المدير التنفيذي لمنظمة "أبحاث عقوبة الإعدام" في الولايات المتحدة روبرت دونهام في تصريحات لموقع "ساينتفيك أميركان"، من خطورة تسريب الغاز المسبب للاختناق، نظراً إلى أنه من دون رائحة مما يمثل تهديداً لحياة المحيطين بالحالة، لافتاً إلى أنه حتى الآن لا يوجد تدريب كاف أو بروتوكول محدد لتنفيذ تلك العملية.
واشتعلت النقاشات ذات البعد الأخلاقي والعلمي التي شاركت فيها المنظمات المعارضة للإعدام، الذين يرون أن هناك تاريخاً من محاولات الإعدام الفاشلة التي شكلت تعذيباً خالصاً للضحايا، وهو أمر مشابه لما واجهته الحقنة السامة التي روج لها في مطلع ثمانينيات القرن الماضي باعتبارها أداة قتل رحيمة حينما استخدمت للمرة الأولى بولاية تكساس الأميركية، لكن تيارات كثيرة من الأطباء كانت تمانع استخدامها وطالبوا بالتوقف عن إنتاج أحد مركباتها الأساسية، وهو مما وجد استجابة من صناع الأدوية منذ 15 عاماً تقريباً، من ثم يتم الاستعانة بمركبات بديلة عادة تكون أقل كفاءة، والبعض رأى أن هذا هو السبب في فشل الطريقة مع أربعة محكومين بالإعدام على نحو غير متوقع، مما عرضهم لأوجاع شديدة جسدية ونفسية، وهي أمور ساقها محامو كينيث يوجين سميث الذين استندوا إلى حالته نفسها، حيث منيت محاولة إعدامه بالحقن بالإخفاق، وقالوا في حيثيات دعوتهم القضائية التي أوردتها شبكة "CBS" أنه أصيب بآلام حادة تشبه الطعنات.
محاولات يائسة
وبحسب تقرير استعرضته "بي بي سي"، فإن بعض الحالات ظلت تنازع طويلاً بشكل غير متوقع، وبينهم مواطن استمر يعاني لمدة ساعتين كاملتين قبل مفارقة الحياة، على رغم أنه وفقاً للتجارب السابقة لا ينبغي أن يستغرق الإجراء بأكمله إلا بضع دقائق وربما ثوان، لكن على ما يبدو فإن الوقائع العملية تتضمن استثناءات كثيرة، وبحسب فريق بحثي قاده العالم ليونايدس كونياريس عام 2005 خلص إلى نتيجة مفادها أن 44 في المئة ممن تم إعدامهم بالحقنة السامة لم يفقدوا الوعي، وظلوا ينازعون حتى آخر لحظة ولم يتوقف قلبهم بالسرعة المطلوبة، من ثم تعرضوا لآلام جمة ومرعبة من دون القدرة على التعبير عنها، لأن العقار المستخدم يسبب شللاً في العضلات، وعلى رغم الاعتراضات على الطرق التي تتبعها الولايات المتحدة في تنفيذ عمليات الإعدام سواء من النشطاء أو بتسليط الضوء على آلية عملها في وسائل الإعلام، فإن التمسك بتلك الأساليب لا يزال جارياً منذ عقود ولا توجد استجابة حقيقية، ومن شدة اليأس طلب المدان بالإعدام جورجي وولكر عام 2011 من المحكمة السماح بتصوير عملية إعدام زميله أندرو يونغ بالحقنة السامة بواسطة الفيديو حيث تقدم محاموه بهذا الطلب للقضاء في ولاية جورجيا الأميركية من أجل إبراز مدى المعاناة التي يقاسيها الضحية، وبالفعل سجل عملية الإعدام على أندرو يونغ المدان بقتل والديه وشقيقته، وعلى رغم أن مسؤولي السجن عبروا عن قلقهم مما قد يثيره هذا الفيديو من شحنات عاطفية وأيضاً من كونه أمراً ينتهك الإجراءات الأمنية فإن المحكمة وافقت على الطلب الاستثنائي.
وفي حين استبدل عديد من الولايات عقوبة الإعدام بالسجن مدى الحياة، فإن الأكثرية لا تزال تلجأ إليها لا سيما في جرائم القتل العمد وأيضاً الجرائم ضد الوطن، ووفقاً لإحصائية منظمة العفو الدولية فإن عدد من أعدمتهم الولايات المتحدة الأميركية عام 2019 يصل إلى 22 فرداً، ومن المتوقع أن يتجاوز الرقم آلاف الحالات في الصين، حيث من الصعب التكهن بالعدد الحقيقي وسط غياب البيانات الرسمية في جمهورية الصين الشعبية.
لكن على رغم ذلك تكتسب عمليات الإعدام في الولايات المتحدة الأميركية اهتماماً خاصاً وسط محاولات حثيثة لإلغائها تماماً، حتى إن الرئيس الأميركي جو بايدن روَّج خلال حملته الدعائية إلى أن إدارته ستضع على عاتقها إلغاء تلك العقوبة، لكنه على وشك إنهاء ولايته الأولى ولا توجد جهود قوية في هذا الصدد، وقبل عامين ناشده عديد من خبراء حقوق الإنسان بالأمم المتحدة بذل كل ما في وسعه لإنهاء عمليات الإعدام على المستوى الفيدرالي ومستوى الولايات، وفقاً لما جاء على الموقع الرسمي للمنظمة.
إخفاق طبي مروع
اللافت أن الإعدام بالكرسي الكهربائي على رغم أنه تم التبشير به كونه أفضل وأحدث وسيلة في نهاية القرن الـ19 تلائم الدول الراغبة في الإعدام الرحيم، ويجنب المحكومين ويلات الوسائل البدائية السائدة وقتها حيث ابتكره طبيب الأسنان ألفرد ساوثويك واعتمده من بين عشرات الوسائل التي خضعت للتدقيق، تعرض أيضاً منذ بداية استخدامه للمرة الأولى في ولاية نيويورك على ويليام كيملر المدان بقتل زوجته، لانتقادات قوية، وواجهت العملية غضباً عارماً وتناولتها الصحف على اعتبارها على أنها إخفاق إنساني وعلمي، إذ أقرَّ الطبيب المشرف بموت الضحية عقب 17 ثانية من بدء التنفيذ، لكن المفاجأة أن المحيطين بالحالة اكتشفوا أنه لا يزال يتنفس ليتم استعداء الطبيب مرة أخرى ويؤكد أن كيملر لا يزال بالفعل على قيد الحياة، ثم يصعق مجدداً، وبدلاً من أن تستغرق العملية ثوانيَّ استمرت أكثر من ثماني دقائق ليصعق الحاضرون من التأثيرات المروعة لما جرى، حيث احترقت أعضاء الضحية وانفجرت دماؤه، وقد كانت تنفذ تلك العلميات في حضور بعض الجمهور من أجل العظة، وهي الظروف التي تناولتها مشاهد السينما الأميركية كثيراً، وبينها ما جاء في فيلم "الميل الأخضر" (The Green Mile) عام 1999، من بطولة توم هانكس وسيناريو وإخراج فرانك دارابونت، عن قصة لستيفن كينغ ميل، فالبطل الرئيس هو حارس أحد السجون سيئة السمعة، بينما يوازيه أهمية النزيل ضخم البنية مخيف الهيئة رقيق القلب جوني كوفي (مايكل كلارك دنكان)، واستعرض العمل كثيراً من عمليات الإعدام وكيف كان يتم ربط المدانين بالكرسي وتظهر ملامح تعرضهم للتعذيب مع سريان التيارات الكهربائي في جسدهم، ويراقب الحراس توقفهم عن الحركة ثم يتأكدون مراراً من نجاح العملية بعد إصابتهم بالسكتة القلبية، وبالطبع كانت القصة الرئيسة لمحكوم دين ظلماً بتهمة لم يرتكبها لإظهار مدى عوار تلك المنظومة.
وسيلة للضغط السياسي
ربما كان ذلك أحد الأسباب التي دعت غالبية دول العالم لجعل عقوبة الإعدام شيئاً من الماضي، أو التخفف منها وجعلها في أضيق الحدود، فيما بات إلغاؤها شرطاً للدول الراغبة في الانضمام للاتحاد الأوروبي، حيث تستعمل تلك الورقة للضغط في اتجاه التخلي عن العقوبة، وهناك نحو 150 دولة ألغتها تماماً أو في الأقل لم تعد تطبقها عملياً، أما الدول الـ50 التي لا تزال تتضمن تشريعاتها تلك العقوبة بشكل معتاد فقد سجلت في عام 2015 ما يزيد على 1600 حالة إعدام وهو الرقم الأعلى منذ عام 1989 وفقاً لمنظمة العدل الدولية، التي تنادي بعدم تطبيق تلك العقوبة المنافية لبنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المعمول به منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي، وكثير منها دول عربية وإسلامية، إضافة إلى الهند واليابان والصين وغيرها، فيما عرفت غالبية الثقافات القديمة مثل اليونانية والرومانية والمصرية القديمة عقوبة الإعدام باعتبارها طريقة للردع والمساهمة في ضبط معايير المجتمع، وقصاص عادل في الجرائم الكبرى مثل القتل والاغتصاب والخيانة العظمى، ومن بين الطرق الشهيرة للإعدام المقصلة والشنق والغرق والحرق والسم.