Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محمد الغزي شاعر القيروان ومجدد القصيدة التونسية

رحل عن 73 عاما وجمع بين التجريب اللغوي والبعد الماورائي وفهم الحداثة "إيقاع الزمن"  

الشاعر التونسي محمد الغزي (صفحة الشاعر- فيسبوك)

"لا شواهدَ للغرباءْ/ لا زهُورَ لكلّ الذينَ قضَوْا في الطريق/ مقابرَ باتتْ مياهُ البحارِ/ وباتتْ توابيتَ هذي القواربُ". كانت هذه الكلمات من ضمن التدوينات الفيسبوكية الأخيرة للشاعر محمد الغزي الذي فجع الوسط الثقافي التونسي والعربي برحيله المفاجئ مساء أمس، عن عمر ناهز 75سنة.

في الفترة الأخيرة كتب الغزي مراراً عن الوحدة والموت والغياب، بالرغم من أنه كان يعيش الحياة بكامل بهجتها وبابتسامته المعهودة، كأنما كانت تلك النصوص استشعاراً للحظة قادمة، يتوقف فيها قلب الشاعر، ويتوقف معه نبض كلماته.

وصفه الكثير من النقاد بالشاعر الصوفي، لكنه كان يرى أن التصوف القديم إذا كان رحلةً من الأرض إلى السماء، فإن التصوف الحديث هو بمثابة رحلة معكوسة، من السماء إلى الأرض. بالتالي فما كان يشغله هو المعجم الروحي والرموز الفردوسية في سياق آخر، يربط الكتابة بالواقع وبالهموم المعاصرة. فقد كان مشغولاً بالتجريب اللغوي أكثر من انشغاله بالتجارب الماورائية.

كتب الغزي في الشعر والنقد والمسرح وأدب الأطفال، لكنه كان يحب أن تكون صفة الشاعر هي الأكثر التصاقاً به، بل كان انحيازه في هذا الجانب مبنياً على فكرة فلسفية ترى أن اللغة تستعمل الشعراء كي تطور نفسها. وبالرغم من هذا الإخلاص للشعر اعترف بأن التجربة الشعرية التونسية برمتها مظلومة، خصوصا من لدن النقاد المشارقة. ظل الغزي يتحسر على تراجع قرّاء الشعر وانحسار الاهتمام به، واصفاً أن ما يعيشه هذا الجنس الأدبي هو حالة من القطيعة من لدن القرّاء، سببها أن كتابة القصيدة الجديدة لم تعد موجهة للعموم، بالتالي أقصت كل من لا يملك ثقافة شعرية.

 

كان لمكتبة والده في القيروان بالغ الأثر على كتاباته الأولى، فقد تأثر بالقصائد القديمة وبالنصوص العربية التراثية. وكانت الطفولة والطبيعة والحلم موضوعاته الأثيرة في الكتابة، وقد تنقل في الكتابة ما بين القصيدة الموزونة وقصيدة النثر، مؤمناً بأن الحداثة لا ترتبط بالضرورة بالشكل الخارجي للنص، لذلك كان يضع تعريفاً خاصا لها، فالحداثة بالنسبة إليه هي "إيقاع الزمن"، وعلى الشاعر أن يصغي لهذا الإيقاع حتى لا تحدث فجوة بين النصوص التي يكتبها والزمن الذي ينتمي إليه، مشيرا إلى أن عدداً من الشعراء الذين يعيشون بيننا اليوم مازالوا يكتبون في الماضي.

كان للغزي موقف حاسم إزاء الثورة التونسية، فهو يرى أنها لم تمكّن الأدب من التقدم، بل عادت به في مواضيع كثيرة إلى الوراء، بحيث دفعت الحماسة الكثير من الأدباء التونسيين إلى كتابة نصوص متسرعة تحتفي بالثورة وتمجّد رموزها على حساب الجماليات الشعرية.

زاول الغزي التدريس الجامعي في تونس و عمان، وأصدر مجموعة من الأعمال الشعرية: "كتاب الماء كتاب الجمر"، "ما أكثر ما أعطى ما أقل ما أخذت"، "سليل الماء"، "كالليل أستضيء بنجومي" وغيرها. وأصدر مسرحيتي "المحطة" و"ابن رشد"، إضافة إلى عدد مهم من الكتب الموجهة للأطفال.

حصل الشاعر الراحل على عدد من الجوائز تقديرا لإسهامه الأدبي والنقدي، من بينها: جائزة أبي القاسم الشابي سنة 1999 وجائزة وزارة الثقافة سنة 2000 وجائزة الإبداع العربي في الشارقة سنة 2000 وجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب سنة 2015.

قصيدته تشبهه

 

يدرك الشاعر والمترجم التونسي آدم فتحي أن رحيل محمد الغزي فاجعة كبيرة، والذين يعرفون حجم هذه الفاجعة هم المجربته الشعرية: "دينة برشيد المغربية، ليختبر تفاعل نزلا المسقربون منه أصدقاءَ وزملاءَ وأفرادَ عائلة، لما يتسم به من روح إيجابية وجنوح إلى الخير واعتزاز بالقيم الجميلة. يقول صاحب "نافخ الزجاج الأعمى": "فُجعتُ في عدد كافٍ من الأحبّة، كي أعترف بعجزي شبه التامّ عن "التفكير" لحظةَ الوجع، لحظة إنكار ما يحدث. وهو ما أشعر به أمام رحيل محمد الغزّي، شاعراً وصديقاً.  لا أجد الكلمات. صدقاً. ليس من كلمات بين يدي هذا "الحدث النهائيّ" وهو يهوي عليّ بفأسه من أعلى "فُجئيّته". البارحة (حقّاً وليس مجازاً) كان محمد يزفّ لنا خبر صدور كتابه الجديد. واليوم يصلنا نعيه. ما أصغر الكلمة ! ما أضيق العبارة ! خاصة العبارة الساذجة (أو المغرورة) التي تحاول قول فجيعتها في إنسان يُفتقد في الليلة الظلماء، وفي تجربة شعريّة متفرّدة".

يستطرد آدم فتحي: "وإذا كان لا بدّ من قول شيء. فلأقل إنّه كان شاعر قصيدته. عبارة ليست بالبداهة التي تبدو عليها. لقد كتب محمد الغزّي قصيدة تشبهه كإنسان. وجاءت قصيدته شبيهة به حدّ التماهي. إنّها باسِمَةٌ بعمق في شيء من الخفر، حتى وهي تتوجّع أو وهي تحاور الموت. هامسة في سطوع كوميض البرق. وهي احتفاليّة راقصة شبيهة بحالات "الانخطاف" لدى المتصوّفة لولا أنّنا هنا أمام رقص شعريٍّ وتصوّفٍ دنيويّ. وهي صديقة للعالم بعناصره وأشيائه ومعماره، صداقةَ حوار وجدل، من دون معاداة للمسمّى ومن دون تناحر مع المفهوم.  وهي بصريّة، مشهديّة، يتقدّم الإدراك داخل معمارها من خلال قفزات دلاليّة، من خلال ومضات شبيهة بقرصات النحل. وهي متجهة إلى الباطن العميق من دون انغلاق. منفتحة على الخارج الرحب من دون تهتُّك. لذلك تتجاوز صلتها بقارئها مرتبة الإدراك إلى مرتبة الوجد".

شعرية الهدوء

 

الشاعر والمترجم التونسي معز ماجد أكد أن رحيل الشاعر محمد الغزي شكّل صدمة في الساحة التونسية والعربية، ليس بسبب الموت في حد ذاته، فهو حق والكل يدرك أن يوم الرّحيل قادم لا محالة، ولكن السّاحة الشعرية التونسية اعتادت حضور محمد الغزي إنساناً وصوتاً متفرّداً. فقد كانت له، حسب معز، نبرة تميّزه منذ الكلمات الأولى.  يضيف مدير مهرجان سيدي بوسعيد للشعر: "هنالك في قصائده هدوء دافئ يلامس الأماكن ويربطها بأزمنة أدركها الشاعر وضخّ فيها من روحه ومن شجنه، حتى يتقطر الشعر من تلك الثلاثية التي هي روح شعريته المرهفة: المكان والزّمن وشجن الرّاوي. في لغة الغزي عذوبة ندر أن نجدها عند سواه. تلك اللغة العذبة تلائم شعريته وتخدمها بشكل تلقائي وبلا تكلّف، فتزيدها سحراً يسري لدى المتلقي كأنّه خدر في مسارب الرّوح".

يقف معز ماجد عند التحول الذي عرفته تجربة الغزي: "بالرّغم من أن الغزي كان شاعراً كلاسيكياً في بداياته، إلا أنه انفتح على التجارب الشعرية المجددة في المشهد التونسي، وكان يواكب الأصوات الصاعدة ولا يبخل عليها بالإشادة بتجاربها في كتاباته النقدية". كان الغزي في نهاية السبعينيات من ضمن مجموعة أطلق عليها اسم "مدرسة القيروان"، وكانت تضم أسماء مثل المنصف الوهايبي وخالد النجار وعلي اللواتي وغيرهم. وهذه التجربة تمثل همزة وصل بين جيل المؤسسين في دولة الاستقلال والأجيال التي أتت لاحقاً باحثة عن تجارب شعرية مختلفة ومقاطعة إلى حد ما لما سبقها.

يتطرق ماجد بحسرة إلى المشترك الشخصي الذي جمعه مع الشاعر الراحل: "لقد خسرت في محمد الغزي صديقاً وأخاً، إذ كانت بيننا محبة خالصة تتعدى بكثير حد الزمالة. فنحن أبناء المدينة نفسها، مدينة القيروان التي كان يعشقها، ولكنه كان أيضاً تلميذ والدي رحمهما الله. إضافة إلى ذلك كان محمد يشجعني ويدفعني منذ سنوات، للعودة إلى الكتابة باللغة العربية، وقد نجح في ذلك، إذ أنني بعد سبعة دواوين منشورة بالفرنسية، أصدر اليوم ديواني الأول باللغة العربية. ومن مفارقة الأقدار أن يرحل صديقي ومعلمي في اليوم ذاته الذي يخرج فيه ديواني العربي من المطبعة".

شجرة شعر عالية

"إنه الشاعر الذي كتب القصائد بدمه وحاور الطبيعة وتواصل مع المطلق" هذا ما تقوله الشاعرة التونسية فاطمة بن محمود عن محمد الغزي ثم تضيف: "هو أحد أسوار القيروان وإحدى أشجار الشعر العالية في تونس، لذلك سيترك رحيله الفجائي فجوة في المشهد الأدبي التونسي والعربي. لقد أسّس مع رفاقه مدرسة القيروان التي تعتبر علامة لافتة في الشعر العربي".

تقف صاحبة "غابة في البيت" عند عنصر الطفولة في تجربة الغزي، باعتبارها منبعاً للكتابة ومصبّاً لها أيضاً: " كان يكتب للأطفال، وهي طريقة جعلته قريباً من عالم الطفولة، يأخذ منها صفاءها و تلقائيتها، تماماً مثلما كان نيتشة يحث الإنسان ويدفعه للعودة إلى الطفولة ليحافظ على عمقه وتمرده. أيضاً كان يكتب للمسرح، حتى يشرف على هذه الحياة التي هي مسرح فسيح يجعل من الحياة والموت الشخصيات الرئيسة في لعبة مربكة لا تتوقف، وقد انفتح على المقالة النقدية ليحافظ على الحسّ الإشكالي في علاقته بالحياة وبالكتابة".

 وإذ تثني فاطمة بن محمود على تعدد حقول الكتابة لدى محمد الغزي، تتوقف عند تجربته الشعرية: "لقد خلّف منجزاً إبداعياً لافتاً وألقى الشغف بالشعر لدى أجيال عديدة بما يعني انه كان متفرداً.  أذكر أن دواوينه الأولى مثل "كتاب الجمر، كتاب الماء" و "ما أكثر ما أعطى، ما أقلّ ما أخذت" كانت متداولة بين رفاقي من شعراء التسعينيات، نتبادلها و نقرأها في مدارج الكلية وفي المقهى وفي المطعم الجامعي و في الحافلة عائدين إلى بيوتنا".

تضيف فاطمة متحدثة عن مظاهر تفاعلاتها مع نصوص الشاعر: "قصائده جعلتني في حالة دهشة مستمرة، وهو من الشعراء الذين جعلوني أحب الشعر وأُفتتن بالقصيدة في مختلف تجلياتها، ﻷنه يكتب بلغة تفيض بالسحر والجمال".

اللافت أنه قبل رحيله بساعات قليلة أعلن الشاعر الغزي عن ديوانه الجديد "الجبال أجدادي، اﻷنهار إخوتي" وهي طريقة يقول الشاعر من خلالها إن القصيدة هي التي تبقى، وهذا يعني أن المبدع الحقيقي لا يموت. هذا ما خلّف وقعاً مؤلماً لدى فاطمة التي تختم كلمتها بتأثر: "رحيل محمد الغزي يفيد أن مسيرته في الحياة قد توقفت للأسف، ولكن مسيرته في الكتابة قد اكتملت، بما يجعل القيروان تفخر أنها أنجبت يوما محمد الغزي و تونس تعتز به شجرة من غابة الشعر التونسي".

حارس أسوار القيروان

يتساءل الكاتب محمد المي رئيس منتدى الفكر التنويري في تونس: "ماذا أستطيع أن أقول عن الصديق والشاعر والمعلم والسند محمد الغزي الذي فجعنا فيه؟ ما كنت أحسبه سينسحب باكراً، وأن كنت قد أدركت أنه بدأ يذوي، كالشمعة التي تحترق على مهل، منذ غادره صديقه الأعز وخله الودود الروائي الكبير صلاح الدين بوجاه سنة 2021 . ثم فجع بعدها في زوجته ورفيقة دربه حبيبة شبابه ومؤنسة عمره. لقد أحدث موت من يحب في حياته شرخاً كبيراً فتبدل سلوكه، وما عادت ابتسامته نفسها، وماعادت نكته وحكاياته نفسها، فطفق يكتب الشعر ويكثر من الومضات كمن يستعجل أمراً".

 يتحدث صاحب سلسلة "أعلام الثقافة التونسية" عن جانب من علاقته بصديقه الراحل: "لقد خسرنا بفقدانه ركناً مكيناً من الثقافة التونسية ومثقفاً جاداً يتمتع بحس عروبي، وخسرنا كاتباً أنيقاً وشاعراً مجيداً وجامعياً مرموقاً. لقد أعاد الغزي للقصيدة ألقها وطبعها بلغته التي تكاد تميزه عن غيره، ويتجلى نفسه الإبداعي في قصائده القصيرة. وفيها الكثير من حب القيروان ملهمته الأولى، فهو سادنها وحارس أسوارها، وحافظ تقاليدها وراسم رموزها وكاتم تعاويذها التي لا ينبس بها إلا همساً في ما تيسر من قصار أشعاره. يستحضرها كالدراويش الذين يستحضرون ما يعينهم على التكشف عن سر الأسرار. مفاتيح جامع عقبة ورسوم بئر بروطة والسيد الصاحب وزنقة عانقني وحومة الجامع وجبانة قريش وفسقية الأغالبة كلها تعاويذ تحميه، ويرددها في شعره ونثره، مدركاً ثقل التاريخ الذي يحمله على كتفيه استجابة لوصايا الأجداد. ذلك هو محمد الغزي الذي كان أحلى من الحياة".

المزيد من ثقافة