يخبرنا الملصق الإعلاني لعرض "جنون الحمائم" بأنه "عن فكرة مسرحية "سوء تفاهم" للكاتب الفرنسي ألبير كامو"- (1913-1960)، ويردفها بعبارة: "التأليف والإخراج لعواطف نعيم". إذاً النص الذي كتبه صاحب مسرحية "كاليغولا" عام 1941 هو "فكرة" ليس إلا، كما يخبرنا الإعلان المذكور للعرض الذي شارك على هامش المسابقة الرسمية للدورة الرابعة عشرة لمهرجان المسرح العربي في بغداد. وعليه، يجب أن نفتش ملياً في الإحالة العراقية لنص الكاتب الفرنسي (نوبل آداب-1957)، ونتساءل مع الجمهور عن حقوق كاتبها الأصلي، وربما عن حقوق الملكية الفكرية في عالم عربي فهم نظرية "موت المؤلف" على هواه.
العرض الذي قُدم على خشبة مسرح المنصور وسط المنطقة الخضراء في بغداد يروي حكاية الشاب حسان (مصطفى حبيب) الذي غادر بيت عائلته منذ كان فتى يافعاً، ليعود إلى البيت بعد عشرين عاماً وقد تغيرت ملامحه، وأصاب من الثروة والمال ما أصاب خلال سنوات غربته الطويلة. لا تتعرف الأم (عواطف نعيم) على ابنها، فقد تقدمت في السن وضعف بصرها، ولا حتى أخته (شذى سالم) تعرفه، فهي الأُخرى لا تتذكر شقيقها إلا كطيف بعيد. المرأتان بالتعاون مع خادم أعرج (عزيز خيون) يقومون بوضع أقراص المنوّم في فناجين الشاي التي يقدمونها لنزلاء فندق يديرونه في منطقة تقع على الطريق بين بغداد والبصرة، ومن ثم يقومون بسلب النزلاء ما لديهم من مال، ليتخلصوا بعدها من جثث ضحاياهم برميها في نهر دجلة.
إلى هنا نعرف أن القصة في النص الأصلي لم يطرأ عليها ذلك التغيير الجذري، لكن "مؤلفة" العرض آثرت أن تبني حبكتها بنفسها، فشطبت شخصية "ماريا" زوجة الإبن، كما أطلقت لسان الخادم الأبكم ليصبح أعرج في النسخة العراقية، في حين صار الابن المغترب عازفاً على العود. كل هذا متاح في صيغة الاقتباس الحر عن النص الذي -ومنذ كتابته- في أربعينيات القرن الفائت تم تقديمه عشرات المرات، في المسارح الأوروبية والعربية، وكان مؤلفه الأصلي قد ذكر قصته في روايته الشهيرة "الغريب". إذ يخبرنا كامو على لسان ميرسو شخصيته الرئيسية في الرواية أنه وجد على سريره قصاصات من جريدة قديمة تروي أحداث جريمة عائلية عن أم وابنتها تقومان بقتل نزلاء الفندق الذي تديرانه، ومن ثم سلب الضحايا أموالهم من أجل السفر عن البلدة النائية التي تقيمان فيها، إلى أن تقع السيدتان في شر أعمالهما، فتقتلان من طريق الخطأ، الشاب الذي أخفى هويته عنهما بغرض مفاجأتهما. الأم والأخت تكتشفان بعد حضور زوجته إلى المكان أنه الإبن الذي آب من سفره الطويل، فتقوم الأم حال معرفتها بما اقترفته بشنق نفسها، فيما تنتحر الأخت برمي نفسها في بئرٍ قديمة.
عرض فجائعي
هذه الأحداث التي وردت في النص الأصلي في ثلاثة فصول يقدمها "جنون الحمائم" (إنتاج المعهد الفرنسي في بغداد) في فصل واحد، وبخطاب فجائعي يبدأ من الذروة مباشرةً. فالخادم الذي يقدمه العرض كوالد للأخت من دون توضيح كامل لهذه النقطة، يشكو من الخوف الذي يطارده، ويهرب من صرخات الضحايا التي تتعقبه حتى في أحلامه، فتمنعه من النوم لأيام طويلة، فيما تسرد كلٌ من الأم والأخت، أوجاعهما جراء الندم لما اقترفتاه من جرائم، وعن أملهما بالرحمة والغفران والحب.
اللافت في النسخة العراقية من "سوء التفاهم" هو الموسيقى (ضياء عايد) التي كانت شخصية خامسة في "جنون الحمائم"، فعلى الرغم من النزعة التصويرية لموسيقى العرض، إلا أنها استطاعت أن تقدم مع السينوغرافيا (علي السوداني) مناخاً صوتياً وبصرياً ملائماً للمكان المتخيل الذي تجري فيه أحداث المسرحية. وهو كما صوره القائمون على العرض مكان مريب ومنقبض تعلوه نوافذ كتيمة عالية تطل على حجرات الفندق، في حين تتدلى في المشهد الأخير، أكفان بيضاء مضاءة من سقف الخشبة وسط سواد حالك وإنارة جانبية جعلت من فضاء اللعب مساحة لسرد مونولوغات مطولة، لكل شخصية من الشخصيات في صيغة اقتربت من مجموع مونودرامات متجاورة.
حتى الأزياء (أيار عزيز) غلب عليها اللون الأسود والثياب الفضفاضة، فالحمائم السوداء التي غرقت في دماء القتلى، تتبعها ذنوب لا غفران لها. ومع كل صرخة يطلقها المجرمون الثلاثة تتعالى صيحات بعيدة كانت من المباشرة حتى أفقدت التعاطف، وجعلت الاستجداء، السمة العامة للأداء. وفوق كل هذا أتت الحبكة البديلة غير مواتية للقصة، فالشاب الضحية- وبعد أن يشرب الشاي المسموم- يترنح بشكل كاريكاتوري على الخشبة، والأم المفجوعة التي تتذكر الأغنية التي كانت تغنيها لابنها القتيل عندما كان طفلاً صغيراً تعود لاجترار طقوس المناحة المفتوحة أصلاً من الدقائق الأولى.
في هذا الدوران المضني للمأساة بشكلها المباشر، تمضي "جنون الحمائم" بلا حدث يذكر، فالاقتباس الذي تكنّى بالتأليف لم يعِ ضرورة خلق سياق ملائم لتطور الأحداث، مما جعل الصراع معدوماً بالوصول إلى الخاتمة بشكلٍ مفاجئ، فجاء مشهد القتل بعيداً من مقولة النص الأصلي، التي تؤكد على عبثية الحياة ولا معقوليتها. فما من أم لا تتعرف على ابنها، وليس من أخت تسعى للإجهاز على شقيقها لتحقيق حلمها بالسفر والهروب من لسعات الضمير. لكن في نص صاحب "أسطورة سيزيف" كان الكاتب قد بين في غير حوار على ألسنة شخصياته، عدمية المحاولة من جعل الحياة مادة قابلة للتصديق، بل ويسرف كامو في تذكير المتفرج أن الوجود مادة عدمية لا تعترف حتى بغريزة الأم نحو ولدها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قد يحسب لـ "جنون الحمائم" المناخان البصري والموسيقي، والقدرة على سيطرة المخرجة على مساحة اللعب، لكن هذا لم يكتمل مع حلول إخراجية تقليدية. فمثلاً جاء دخول شخصية الإبن من بين كراسي الجمهور، ونزول الخادم الأعرج لجلبه من بين المتفرجين، محاولة لكسر الجدار الرابع دونما طائل. ففضاء الفرجة كان مغلقاً تماماً وغير متاح لذلك، وفقاً لكسر وحدة الأسلوب، في الوقت الذي كان من الممكن أن يدخل الابن من إحدى الكواليس الجانبية نحو الخشبة من دون أن يترك ذلك أثراً يذكر على فحوى العرض. وهذا ما يبين الفهم التقليدي لدى القائمين على "جنون الحمائم"، وعدم قدرتهم على تحقيق شرط الإيهام المسرحي، بل حافظوا على غلواء الصراخ على كامل امتداد زمن المسرحية (55 دقيقة).
وعلى الرغم من الحضور القوي لممثلي "جنون الحمائم" سواء عبر أصواتهم أو حتى في هيئاتهم الجنائزية المهيبة، إلا أن هذا جعل العرض يبدو أقرب إلى كابوس مطبق. فالمبالغة في العويل والنحيب وخلع قطع الملابس، مع تساقط الأكفان المرقطة بالدماء، كل هذا ساهم إلى حدٍ بعيد في إضفاء قتامة حالكة على أجواء المسرحية. في حين طغت جماليات السينوغرافيا والتأليف الموسيقي على مجريات العرض، لنكون أمام نبرة رثائية استمرت في سعي محموم لكسب التعاطف، من دون أن تدافع عن الشخصيات كما يجب، وبلا تدقيق في حوارات النص الأصلي التي كان من الممكن- لو بقيت على حالها- أن تسهم في تكريس موضوعية النفس البشرية كمهد للخطايا والآثام والعيوب الخلقية.