ملخص
الجزائري يرى في نجاح لاعب كرة القدم في أوروبا إضافة لرأسمال النجاحات الوطنية
يحتاج مجتمعنا الراهن إلى دراسة عميقة تعتمد مناهج ومقاربات "سيكولوجيا الجماعة" أو "علم النفس الجمعي" لفك مصفوفة من الأفكار والأحكام الجماعية التي تنتشر بصورة واسعة ومتوارثة والتي باتت تشكل حاجزاً أسمنتياً في وجه المثقف لا يمكنه نقدها ولا يمكنه إثارتها أو مناقشتها، حتى وكأنها تنتمي إلى مربع المحرمات.
في ظل هيمنة هذه الثقافة الجماعية السائدة، وغير المفكر فيها أو التي تتحاشى النخب مساءلتها وتفكيكها، أتساءل، لماذا يقبل الجزائري البسيط الشعبي أن يكون لاعب كرة القدم ممثلاً للعلم الوطني الجزائري وهو يحمل الجنسية الأجنبية، الفرنسية أساساً، ويرفض مثل هذه الحالة أو ما يشبهها حين يتعلق الأمر بمثقف كاتب أو مبدع يكتب باللغة الفرنسية؟
لماذا لا يعترض هذا الجزائري البسيط والشعبي على لاعب كرة القدم وهو يتحدث بالفرنسية في وسائل الإعلام الوطنية، وهو يخاطب العامة التي لغتها السائدة هي العربية الدارجة أو الأمازيغية، وتتم ترجمة ودبلجة صوته بأمانة كاملة ولا يصدر عن مثل هذا الموقف اللغوي أي امتعاض أو نفور أو احتجاج، وحين يتعلق الأمر بروائي أو شاعر أو فيلسوف أو عالم اجتماع يكتب باللغة الفرنسية ويعمل بها في نصوصه وفي الجامعة، فإن القيامة تقوم عليه وينظر إليه نظرة الريبة والتشكيك والاستهزاء؟
الجزائري يرى في نجاح لاعب كرة القدم في أوروبا، وفي فرنسا بخاصة، إضافة إلى رأسمال النجاحات الوطنية والإنجازات الوطنية، وهذا شيء صحيح، وفي الوقت نفسه يرى في نجاحات الكتاب هناك في الأدب أو في الفكر خيانة لا تغتفر.
أن يحصل لاعب كرة القدم على جائزة الكرة الذهبية أو غيرها من الجوائز الكثيرة التي تقدمها النوادي الفرنسية التي ينتمي إليها هؤلاء اللاعبون أو الهيئات الرياضية الفرنسية أو الأوروبية، فهذا التتويج يسعد الجزائري كثيراً ويثير ابتهاجه وتفاخره وتكتب عنه الصحف الصفراء والخضراء ما طاب ولذّ من المدائح، وتتسابق شركات "الياغورت" والشوكولاتة والألبسة الرياضية وغير الرياضية والإلكترونيات وشركات الهاتف النقال على استعمال صورة اللاعب للترويج لمنتجاتها، يحدث كل ذلك في قمة البهجة الجماعية، وهذا شيء إيجابي أيضاً، ولكن ومع هذا المجتمع نفسه، مع هذا المواطن نفسه، بهذه التركيبة الاجتماعية والبشرية نفسها، إذا ما حصل روائي أو شاعر أو مسرحي على جائزة أو تكريم في هذا البلد الذي يلعب فيه لاعب كرة القدم تحت ألوان الثلاثية الفرنسية، فهذا يعتبر خيانة ويعتبر ولاء لهذا البلد المستعمر القديم.
ينشد لاعب كرة القدم ذو الأصول الجزائرية النشيد الوطني الفرنسي في ناديه وهذا شيء عادي جداً ولا يحاسبه أحد عن ذلك، وإذا ما تكلم كاتب عن أمر إيجابي في البلد الذي يستضيفه فإن القيامة تقوم ضده.
حين يتعامل الجزائري مع لاعب كرة القدم الذي ينتمي إلى نادٍ رياضي فرنسي فإنه ينسى فرنسا الاستعمارية وحين يواجه كاتباً أو مفكراً أو مبدعاً فإن صورة فرنسا الاستعمارية تعود بقوة؟
كان زين الدين زيدان اللاعب الدولي الكبير يرفع الراية الفرنسية بفخر وهو يصنع لفرنسا التتويج بكأس العالم، وكان الجزائريون وراءه فرحين مبتهجين به وبالتتويج، وهذا شيء جميل وهو روح الرياضة وكرة القدم، وأصبح اللاعب "زيزو" أسطورة ونموذجاً للجزائري الناجح، ولا أحد شكك يوماً في جزائريته ولا في أخلاقه ولا في فرنسيته، وحين انتخبت الروائية الكبيرة آسيا جبار عضواً في الأكاديمية الفرنسية، وهي المؤسسة الأكاديمية المحترمة، بيت الخالدين وحلم جميع الكتاب، نزلت عليها شهب النقد من كل جهة من أبناء وطنها واتهمت في وطنيتها وفي أخلاقها وفي تاريخها.
كيف تركب هذا العقل الجزائري الشعبي الجمعي الغريب وبهذا الشكل؟
في عيون الجزائري، إن نجاح الجزائر في كرة القدم بفريق جلّ عناصره يلعب في نواد أجنبية، فرنسية بالأساس، هو إنجاز وطني كبير، هو مفخرة وطنية، هو يوم عيد يحتفل به الخاص والعام، وما في ذلك شك، فهذا إحساس جيد وإيجابي، فكرة القدم لعبة السلام والتعايش بين الشعوب، ولكن نجاح الجزائر في الأدب أو الفكر من خلال رواية أو كتاب فكري أو فيلم سينمائي أبدعه أحد أبنائها بجهوده المكثفة والصعبة واجتهاده المتواصل أمر فيه قول، وهو نجاح يحاط بكثير من الشكوك والتشكيك، مما يضع علامات استفهام حول وطنية هذا الكاتب أو الكاتبة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقد تشكل العقل الجزائري، وبالأساس منذ السبعينيات، من خلال منظومة مدرسية مأزومة ومنظومة إعلامية غير مهنية ومنظومة سياسية شعبوية عملت على غسيل مخ جيلين جزائريين متتاليين، حتى أصبح الجزائري يعيش حال انفصام وخوف من الآخر، وأصبح كل آخر هو عدو بالأساس.
يتعاطف الجزائري مع أهل القدم ربما لأنه يعتبر ما يقومون به هو مجرد لعبة خالية من الأبعاد التاريخية والسياسية، وهذا خطأ فادح، فتأثير كرة القدم في المنظومة الفكرية والقيمية والأخلاقية كبير جداً، لا لعب من دون أيديولوجيا، كل لعبة رياضية تخفي وراءها لعبة سياسية، ويحاسب أهل القلم لأنه يعتقد بأن العمل الفكري هو حفر في المفيد والعميق.
من ظواهر هذا العقل الشعبوي
نظراً إلى تدني القراءة الجادة الأدبية والفلسفية في الجزائر، بصورة عامة، وهي حال معظم المجتمعات العربية والمغاربية، وضعف حضور اللغة الأجنبية في الساحة الثقافية، اللغة التي تمثل نافذة للإطلالة مباشرة على العالم من دون وسيط، ونظراً إلى غياب فضاءات الحوار الفكري المسؤول أيضاً، فإن كل من ينتج فكراً خارج المنظومة الفكرية السائدة التي تأسست عليها المدرسة والإعلام والبنية الأيديولوجية للطبقة السياسية هو في مرمى النقد والتجريح، ويتضاعف هذا التشدد مع المبدع كلما كان موجوداً في الغرب أو يكتب باللغة الفرنسية بصورة خاصة.
من غريب الأمر، ولكنه من تحصيل الحاصل أيضاً، فقد ترجمت روايات كثيرة في الجزائر من الفرنسية إلى العربية لروائيين جزائريين مميزين عالميين يكتبون بالفرنسية، وكنا نعتقد بأن هذه النصوص التي عرفت نجاحات كبيرة في فرنسا حين صدورها وواصلت نجاحاتها حين خرجت إلى لغات أوروبية وأميركية لتعرف إقبالاً عالمياً كبيراً، ويحتفى بها بصورة بارزة، لكن للأسف لم تعرف هذه الروايات المترجمة أي إقبال يذكر، مع أن أسعارها كانت شبه رمزية لأن الدولة ممثلة بوزارة الثقافة أعوام (2003 حتى 2013) هي من تولت دعم هذه العمل الثقافي المهم جداً، فالروايات التي حققت أرقام سحب وبيع خيالية في فرنسا وأميركا لم تبِع في الجزائر أكثر من 200 نسخة على مدى سنتين أو أكثر.
لماذا يعزف القارئ الجزائري المعرّب عن قراءة نصوص جزائرية قيمة مكتوبة بالفرنسية ومترجمة إلى العربية، نصوص روائية حصدت جوائز كثيرة في فرنسا وأوروبا وأميركا والمكتوبة أساساً باللغة الفرنسية؟
هذه الحالة هي نتيجة سيكولوجيا رفض كل ما يتصل بالآخر، وبالأساس بفرنسا، حتى لو كان خيراً، حتى لو كان جمالاً، حتى لو كان جزءاً من الوطنية، فالجزائري اليوم لا يتصور بأن الثورة الجزائرية المباركة الكبرى قامت داخل اللغة الفرنسية وبها، إعلاماً ومعاهدات وكتابة أدبية مقاومة، لا يعرف بأن 90 في المئة من أرشيفها بالفرنسية، 90 في المئة أو أكثر من تاريخها مكتوب بالفرنسية.
ما العمل... ربما؟
ربما كي يتصالح الجزائري البسيط مع كتّاب وأدباء وطنه الكبار الذين يبدعون باللغة بالفرنسية، على المسؤولين عن شؤون الكتاب والناشرين والمكتبيين أن يستنجدوا بنجوم كرة القدم الذين ينتمون إلى نوادٍ فرنسية ويلعبون في المنتخب الوطني في عملية ترويجية لمثل هذا الإنتاج الأدبي، فلاعب كرة القدم هو الوحيد المنزّه الذي لا يُشتم ولا يُشكك في نواياه ولا في وطنيته.