يرقصان التانغو. يتمايل الجسد ويترنح الخصر مستسلماً للنغمات. يتمدد طافياً في الهواء فتتلقفه الذراعان. تتلاشى ساحة الرقص حتى تستحيل إلى بقعة من اللون... ضربة فرشاة حمراء وأخرى صفراء على مساحة الرسم، يتشكل بينهما جسد الأنثى. تستسلم هي للسقوط بين ذراعيه بينما يبحث هو عن الأمان في عينيها، فلا نتبين من ملامحه سوى ذلك الشغف والالتفاتة الحانية نحوها. في هذه الأجواء الحالمة يمعن الفنان في التأكيد على الوحدة العضوية بين الراقصين، بينما يتحركان معاً كجسد واحد بين أمواج من اللون الدافىء.
هي صورة شاعرية كغيرها من الصور الأخرى التي تتكرر في أعمال الفنان العراقي جبر علوان، فهو يرسم لوحاته كأنما يشكل بها قصائد من اللون الخالص. أمام هذه المساحات الملونة نكاد نسمع سجع القوافي وإيقاع الكلمات، بل ونغمات الموسيقى. يعرض الفنان العراقي المُقيم في إيطاليا نماذج من هذه التجربة اللونية المتفردة حالياً في غاليري إرم للفنون في مدينة الرياض تحت عنوان "موسيقى اللون"، بعد غاليري مصر في القاهرة، ويستمر حتى 16 فبراير(شباط) المقبل.
يمكننا تلمس أثر هذه الصورة الشعرية التي تتمتع بها أعمال الفنان جبر علوان في مشروعه المشترك مع الشاعر العراقي الراحل سعدي يوسف. في هذا الديوان المنشور تحت عنوان "إروتيكا" تشتبك المعاني الشعرية في قصائد سعدي يوسف على نحو بالغ الرهافة مع الرسوم التي وضعها جبر علوان، فلا نعرف على وجه اليقين أيهما كان له السبق: أهي الصورة أم القصيدة؟
هذه الصورة الشعرية التي تتميز بها أعمال الفنان جبر علوان تشتبك كذلك مع شعور طاغ بالعزلة؛ وهو شعور يُخيم على معظم أعماله. بين أعمال الفنانين العرب قد تكون أعمال جبر علوان هي الأكثر تعبيراً عن مشاعر الوحدة والعزلة. فأبطال لوحاته يسبحون في محيط محايد من اللون، مستغرقين دائماً في وحدتهم وشرودهم. هذه المعاني المعبرة كانت حاضرة في أعمال العديد من فناني الحداثة، وهي انعكاس لعلاقة الفنان المضطربة مع محيطه واشتباكه الدائم معه. لا تختلف مشاعر الوحدة والعزلة التي يُعبر عنها جبر علوان عن تلك التي نستشعرها مثلاً أمام حجرة فان غوخ الخاوية أو صرخة إدوارد مونخ، أو حتى في شرود فتاة النافذة لسلفادور دالي. ما يميز تجربة جبر علوان أن عزلته تكاد تخيم على معظم أعماله، وهي عزلة شجية رغم قسوتها، تؤطر لوحاته بمزيج من الشجن والبهجة .
من بين السمات الأخرى التي تميز تجربة الفنان جبر علوان يأتي هذا الحضور الأنثوي الطاغي، وهو حضور له طابع مميز ومستقر، فالمرأة تمثل جانباً لا يستهان به من ملامح تجربته التصويرية على نحو عام. النساء في لوحات جبر علوان يتحركن بلا هوادة، ويتمتعن غالباً بالجمال والفتنة، ويغمرن هذه المشاهد المرسومة بمزيج من النعومة والحيوية. يتتبع الفنان نساءه في بيوتهن وفي الشارع أو في المقهى، كما يجيد التعبير عنهن في لحظات اختلائهن بأنفسهن. للرجال حضور بالطبع في لوحات الفنان، لكنه حضور هامشي في أغلب الأحيان؛ حضور يمهد الأجواء للطرف الآخر من دون أن يزيحه عن مكانته المحورية داخل المشهد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الفنان جبر علوان رسام ماهر ومتمكن من أدواته بلا شك، فلا تكاد نلمح أثراً للخطوط الفاصلة في أعماله. من طريق اللون وحده يشكل الفنان ملامح هذا العالم المدهش، والذي يبدو كمشهد من حلم أو أسطورة ممتدة ومتجددة. وكما يداعب الفنان الأبصار بألوانه وشخوصة وأجوائه المحتدمة بالحركة، يداعب السمع كذلك، إذ تكاد النغمات أن تسلل عبر مساحاته الملونة إلى مسامعنا. في تجربة جبر علوان التصويرية تمثل الموسيقى جانباً محورياً من هذا المشهد الأسطورى، إذ يمتزج هنا صوت البيانو وبكاء الناي مع أنين الكمان. هى أصوات تنثر البهجة وتوزعها في جنبات العمل وتتحرك على وقعها هذه الشخوص المحلقة فى فراغ اللوحة. عليك فقط أن تطلق لخيالك العنان، فحينها سوف تسمع وترى.